أثار موضوع الفيديرالية لكردستان العراق، ضمن العراق الموحد، جدلاً في الأوساط السياسية العراقية والعربية رغم الأمثلة العديدة على نجاح الحكم الفيديرالي في بلاد مختلفة في تعزيز الديموقراطية والوحدة الوطنية، كما أقرت الحكومة الاسلامية في السودان التسليم بالنظام الفيديرالي كحل للصراع القومي والاثني الدائر هناك. ومن الجدير بالمهتمين بمستقبل العراق، على المستوى الوطني والعربي، بحث كافة الوسائل والحلول التي تعزز وتديم وحدته الوطنية على اساس الاحترام الكامل للحقوق القومية والاثنية والدينية لفئاته المختلفة، وعلى اساس مبادئ حقوق الانسان بدلاً من اللجوء الى تقليد النعامة في انتظار انفجارات تقضي على الوحدة الوطنية. وقد بادر المرحوم الاستاذ عبداللطيف الشواف، القاضي والوزير العراقي السابق المعروف في عام 1991 الى المساهمة في وضع مسودة أولية لدستور عراقي مقبل كمقترح للبحث والمناقشة من قبل الفئات السياسية العراقية لتقريب وجهات النظر بينها على اسس سليمة واضحة استعداداً لقيام دولة القانون والحكم المدني الدستوري في عراق الغد. ونأمل ان يتم نشر ذلك في مستقبل قريب. والفصل الثالث من الدستور المقترح يختص بموضوع الفيديرالية. وقد وضع المرحوم الشواف تمهيداً لهذا الفصل يوضح بعض الجوانب المهمة والأساسية للنظام الفيديرالي مستمدة من تجارب شعوب اخرى ومن متطلبات الوضع السياسي في العراق. توفي عبداللطيف الشواف بعيداً عن وطنه العراق في القاهرة عام 1996 ووري تراب مصر. وننشر ملاحظاته حول الفيديرالية للإلمام الأوسع بهذا الموضوع المهم وكمساهمة من الفقيد في الحوار المتواصل حوله. 1- من المعروف والواضح أن أحكام أي دستور في مواضيعها وأبوابها المختلفة هي وحدة متكاملة لتعلق هذه الأحكام ببعضها واتصالها في ما بينها باعتبارها تمثل حلولاً ومعالجات وتسويات مترابطة لمشاكل واحدة، أو موحدة، أو متقاربة تستهدف تسيير مجتمع واحد وتصريف مهامه البنيوية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية كافة، بمختلف فئاته وقطاعاته وأفراده. لذلك لا تصح معالجة طريقة ممارسة السلطة - بالاسلوب الفيديرالي أو البسيط بمعزل عن معالجة مسائل السلطة المتبقية منفرداً - عن مسألة الفصل بين السلطات، وأنواع هذه السلطات، علاقاتها وأجهزتها وممثليها والجوانب الأخرى لممارستها. بل يجدر النظر عند تهيئة أي مسودة للنظام الفيديرالي - موحداً مع أبواب الدستور الأخرى التي تمثل جميعها ميكانيكية كاملة مترابطة لعمل جهاز واحد يجب أن يكون شغالاً وفعالاً ليحقق ما وضع له من أهداف، وأن تكون الصلات بين مختلف أحكامه تعكس وحدة طبيعة العمل السلطوي الفيديرالي المقصود. 2- إن حدود "الفيديرالية" والتعرف عليها والتعريف بها ليست حدوداً واضحة ولا قطعية ولا معينة ولا باتة، وإنما هي تتصل وتتعلق باصطلاح أقرب إلى ان يكون سياسياً سائباً غير محدد - أو صحافياً - منه إلى اصطلاح قانوني محدد جامع ومانع ودقيق. فاسم "الفيديرالية" يمكن ان يطلق على أنظمة متعددة يدخل ضمنها مدى عريض ومتنوع وواسع الاختلاف من النظم الدستورية في العالم، فالولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد السوفياتي السابق والصين والهند وسويسرا وجنوب افريقيا ويوغسلافيا سابقاً وتشيكوسلوفاكيا سابقاً والمانيا، تدخل جميعاً بلا نزاع ضمن ما يسمى بالنظم الفيديرالية. كما يمكن اعتبار أنظمة أخرى كالمملكة المتحدةبريطانيا ضمن الفيديرالية أيضاً. وإنما الذي يساهم في تحديد وتعين نوعية النظام وهل هو فيديرالي أم لا، فهو جماع المؤشرات الداخلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الراهنة في المجتمع والتاريخية أيضاً، وكذلك المؤشرات الخارجية الاقليمية والدولية المتعلقة بتوازن القوى في المنطقة التي يقع النظام ضمن حدودها وفي العالم أيضاً، كما هو الحاصل بالنسبة للقضية الكردية وصيغة الفيديرالية المقترحة لمعالجتها في العراق. وعلى كل، فإن اختصاصات الجهاز الفيديرالي من أهم المؤشرات في تصنيف النظام وتحديد نوعيته إن كان فيديرالية أم لا. فهناك اختصاصات محلية - دستورياً - تتنامى باضطراد منها ما يتعلق بالسكان، صحتهم وثقافتهم وأمورهم الاجتماعية والمعاشية والروحية ومدنهم والبيئة والتلوث وغيرها مما يستحسن ممارسته من قبل السلطات المحلية لا الفيديرالية. وهناك اختصاصات أخرى لا يمكن أن تمارس إلا من قبل السلطات المركزية لأنها تتعلق بالسيادة وبالشخصية الدولية كالأمن الخارجي والدفاع والعلاقات الدولية وطبيعة النظام الاقتصادي لا سيما علاقاته الخارجية. كما أن هناك مسائل الفضاء والبحار وقيعانها والتلوث والاتصالات والمواصلات العابرة القارات، وكلها تتعمق ويتوسع مجالها الآن. ويتجه النظام القانوني الدولي باضطراد لمعالجتها عالمياً بقوانين دولية تمارس تطبيقها اتحادات دولية، أو منظمات تابعة للأمم المتحدة، ومن معرفة موقف الدستور والنظام القانوني في دولة ما من مجموعة هذه المسائل يمكن وصف دستور ما بأنه فيديرالي أو بسيط وصفاً يبقى في الأخير اجتهادياً وليس باتاً ومتميزاً من حيث الدرجة لا النوع غالباً. قرارات البرلمان الكردستاني 3- بالنسبة للدستور العراقي المأمول يبدو أن الاتجاه الذي اتجهت إليه قرارات البرلمان الكردستاني والحوار الذي اقترن بهذا الاتجاه محدداً موقف فئات سياسية عراقية مختلفة حول هذا الموضوع، يخلص إلى أن يكون الدستور العراقي مبتنياً على ان يكون النظام العراقي "دولة ديموقراطية لا مركزية فيديرالية" اختار الأكراد فيها مصيرهم بالبقاء ضمن دولة العراق الواحدة. أما درجة الفيديرالية ولامركزية السلطة وممارستها، فيقررها الشعب العراقي بتشريع ديموقراطي ينبثق من المبادئ الديموقراطية التعددية وفق دستور يوضع شعبياً، مع مراعاة عاملين أساسيين في الدستور المأمول، هما ضمان حقوق الإنسان وحرياته وحقوق المواطن للجميع من جهة، وضمان اللامركزية الإدارية في ممارسة السلطة المبتنية على حق تقرير المصير بالنسبة للأكراد، علاوة على المرتكزات الاجتماعية الأخرى التي يرتكز إليها الدستور كالقومية العربية والدين الإسلامي. وهذا يعني ان تكون السلطة في العراق مركبة من قسمين سلطة محلية وسلطة فيديرالية وهي تمارس بواسطة الأجهزة الفيديرالية في الاختصاصات السيادية، على أن يترك ما عدا ذلك من السلطات والمسؤوليات إلى الأجهزة المحلية، وأن يلاحظ في الاعتبار التنظيم الدولي للاختصاصات التي يفرضها ويلائمها التنظيم الدولي بواسطة المنظمات الاقليمية أو القومية أو منظمات الأممالمتحدة، أو تنظيم تفرضه اتفاقات دولية جديدة. 4- ان الاتجاه إلى الفيديرالية في النظام السياسي الدستوري في العراق تسنده المبررات التالية: أ - أنه يستجيب إلى دعوات ومتطلبات حركة التحرير القومي الكردي التي بدأت الدعوة إليها، في وقت ظهور حركة القومية في البلاد العثمانية قبل حوالى المئة عام، والتي استمرت بشكل سلمي في منطقة كردستان وفي أقاليم الدولة العثمانية الشرقية الأخرى، ثم تتابعت بشكل حركات مسلحة وانتفاضات في تركيا العثمانية والحديثة، وفي إيرانوالعراق، وان حركة التحرير القومي الكردية أصبحت جزءاً من حركة التحرير العالمية القومية في اسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، وارتبطت بمبادئ حق تقرير المصير التي اعترفت بها أحكام القانون الدولي لكل الأمم بعد الحرب العالمية الأولى. ب - يستجيب للمبررات والضروريات الإدارية المتعلقة بالحفاظ على التراث القومي والثقافة المحلية الكردية والأقليات الأخرى والمتطلبات المتصلة بالبيئة والتلوث والإعمار الاسكاني والتقدم الاجتماعي والمشاكل الصحية والاجتماعية الأخرى. ج - يستجيب لنداء المبررات التي يدعو إليها "المستقبليون" من علماء اجتماع واقتصاد وسياسة في أميركا واليابان والدول المتقدمة، في ضوء التقدم العلمي والتكنولوجي المعاصر والمأمول في هذا القرن، والمتمثل بحلول عصر المعلومات والاتصالات وانحسار مظاهر وخصائص عصر الصناعة التقليدي وما يؤدي إليه ذلك كله من التطورات المتمثلة في تراجع النمطية والمركزية في الإدارة والانتاج والسياسة، وتحويلها إلى نظام لا مركزي ينطوي على المزيد من التنوع، وتبديل العلاقات السلطوية من نمطها الهرمي إلى علاقات شبكية ترجمت في المجال السياسي بديموقراطية المشاركة، وإلى المزج بين الحرية والمستقبل التي تضمن مشاركة قاعدية للجماهير في اتخاذ القرارات. وباختصار فإن الفيديرالية تستجيب لهاجس المستقبل والتقدم العلمي والتكنولوجي فيه، علاوة على استجابتها هاجس الحاضر وهاجس الماضي أيضاَ، ولعل هذا هو ما يفسر التغيرات الطارئة على المسرح العالمي الدولي من نزع الدول المركزية إلى علاقات متحررة في الاتحاد السوفياتي السابق الذي أصبح "كومونولث الدول المستقلة" من جهة، والاتجاه الإداري إلى الاتحاد الفيديرالي من جهة مقابلة في الجماعة الأوروبية والدول الأخرى. د - ان الاتجاه إلى الفيديرالية يستجيب إلى حد بعيد متطلبات حل مشاكل العراق وظروفه المزمنة التي سببها تركيبه القائم على التعدد الاثني القومي والطائفي والطبقي، بحكم تطوره التاريخي وموقعه الجغرافي وثرواته النفطية، مما أدى إلى الصعوبات المعروفة في الحكم وممارسة السلطة فيه، وإلى فشل السلطات المتعاقبة في التعامل مع الانتفاضات المسلحة والثروات في كردستان خاصة والعراق عامة، الأمر الذي يبرر التوجه إلى الفيديرالية لمسايرة هذا التعدد وتغطية عواقبه السلبية، وما سببه من تفتيت وضعف السلطة المركزية وعجزها عن القيام بمتطلبات الإدارة والبناء والتطور في وقت تعاظمت فيه أدوار السلطة المركزية في الاستجابة لمتطلبات حركة التحرير العالمي في التقدم ورعاية النمو في العالم أجمع. ه - التوجه الديموقراطي العالمي وأثره البالغ في تقوية التوجه القومي وحركة التحرير القومي لصالح الأقليات القومية والجهوية والدينية والتعدديات الأخرى عامة، وفي مناطق كانت الشمولية والسلطة المركزية مركزة وقوية ومستقرة فيها بما لا يمكن مقارنة الوضع في العراق بها في أي حال. مبررات معارضة الفيديرالية 5- أما المبررات التي يقدمها معارضو النظام الفيديرالي من المهتمين بالسياسات الدستورية في العراق والعالم العربي، فتتمركز حالياً في تخوفهم الواضح من أن تكون الفيديرالية تمهيداً لانفصال المنطقة الكردية وتهديد وحدة التراب العراقي وخسارته للقسم الشمالي، وما يتبع ذلك من خسارة ثروات المنطقة الكردية وموقعها الجغرافي في حلبة التنافس السياسي والاقتصادي الاستراتيجي على الهيمنة والثروة والنفوذ في المنطقة بين القوميات الأساسية فيها العرب والأتراك والفرس وبين الدول الاستعمارية الغربية التقليدية. إضافة إلى تعقيد النظام الفيديرالي عند مقارنته بالنظام البسيط وخروجه عن المعروف والمألوف من أنظمة الحكم في منطقتنا - تاريخياً، لا سيما في العراق الذي استند إلى النظام المركزي الموحد منذ انشائه بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدى به إلى التخوف الدائم من اسم الفيديرالية على كيان الدولة العراقية، والتخويف من أية خطوة قد تؤدي إليها، حتى أنه عطّل تعهدات دولية كانت تفضي إلى أنواع من الفيديرالية والحكم الذاتي للعنصر الكردي عند الاستقلال، تحت طائلة الخوف من الانفصال. إن جميع المخاوف من الحكم الفيديرالي ومبرراته إنما تتدرج تحت مفهوم "المخاوف والتوهمات غير الحقيقية" أو المردودة حالاً، في ضوء التوقعات المستقبلية للأوضاع الدولية والقومية في العالم واتساع وتنامي حركة التحرير القومي والتطور العلمي والتكنولوجي وتأثيرهما على حركة التحرر في العالم وعلى الفيديرالية كطريق إليها وتطبيق لمبادئها، يدفع إليها هذا التطور العلمي والتكنولوجي في الحال والمستقبل. وربما زاد التخوف من الفيديرالية في منطقتنا ان الفيديرالية تقتضي حكم القانون وان نظمنا السياسية حتى في العهود الإسلامية وهي تشكل تراثنا التاريخي لم تعرف في غالب عهودها فصل السلطات ولا حكم القانون، بل كانت الوحدات في الامبراطورية الإسلامية والعالم الإسلامي أقرب إلى الاتحاد الشخصي بين الأمراء الحاكمين مما إلى الفيديرالية القانونية المعروفة في الفقه الدستوري الحديث. إن تهافت الخوف من الفيديرالية على الوحدة الاقليمية للوطن العراقي واضح ولا يحتاج فهمه والتأكد منه إلى جهد نظري أو تاريخي، إذ أن مبررات الفيديرالية نفسها يمكن لها أن تزيل هذه المخاوف، حتى ان كثيراً من الأوساط القانونية والسياسية التي تملك هاجس الحس المستقبلي تعتبر الفيدرالية الطريق المفتوح لانقاذ الكيانات الدولية ذات القوميات المتعددة، وهي المنقذ والدواء لأمراض هذه الكيانات التعددية، بحيث ان تطبيقها قد يكون نقطة البدء في إقامة دولة موحدة تجمع قوميات عدة أو في منع تفكك الدول التعددية. وبالنسبة إلى العراق تكون الفيديرالية برأي هذه الأوساط هي السبيل إلى بقائه دولة واحدة تجمع التراب العراقي تحت علم واحد ويتمتع ساكنوه بالرضا والقبول الاختياري، وبالتالي القدرة على الاستقرار والتقدم للجميع، فيما نقيض الفيديرالية وهو النظام المركزي البسيط الحالي، فهو الذي أدى وسيؤدي إلى التفاقم في انقسام المواطنين وإلى التناقض بينهم، ومن ثم إلى المقاومة وإساءة استعمال السلطة والتأخر والانفصال الحقيقين بما هو التداعي للوضع الحالي. 6- ومن الخصوصيات الدستورية المتصلة بقضية ازدواج السلطة في الفيدرالية وتقسيمها بين محلية ومركزية في العراق، تأتي مسألة دراسة اقتراح أن يمارس سلطة رئاسة الدولة ومسؤوليتها مجلس يتكون من أشخاص متعددين هم رؤساء القوى السياسية النافذة في العراق، بحيث يعكس هذا المجلس بأمانة تعددية القوى القومية والطائفية والثقافية والجهوية، بل يعكس أيضاً قوة كل من هذه القوى العددية والاجتماعية، على أن يمارس المجلس اختصاصات تنفيذية بمشاركة مجلس الوزراء يميل إلى أن يكون ذا طابع فني اختصاصي، ويمارس اختصاصات تشريعية بمشاركة "مجلس نواب تمثيلي"، إضافة إلى الاختصاصات التقليدية لرئاسة الدولة، وهي في الغالب اختصاصات بروتوكولية يمكن تقسيمها حسب طبيعتها بين الأعضاء اعضاء مجلس الرئاسة بالتصنيف الزماني أو حسب المواضيع. إن منح مجلس الرئاسة صلاحيات سلطة حقيقية جبهوية أمر يتلاءم مع التكوين التاريخي للقوى وللزعامات والسلطات السياسية عندنا، ومع تطورنا السياسي والطبقي الحالي في العصر الحديث، ويجمع بين السلطة السياسية الاسمية والقانونية وبين القوى السياسية الحقيقية في المجتمع ويقيم صعاباً أمام الازدواج الذي يسهل تسلط الديكتاتورية والفردية، وفساد المسؤولين مما كان من أسباب انهيار كثير من النظم السياسية سابقاً والتي كانت تقيم وضعاً للسلطة يفقدها الاحترام المطلوب والمصداقية. تعديل القوانين الحالي 7- في ما يتصل باشتراط الحفاظ على حقوق الإنسان وحرياته وضمان تمتع المواطنين حقيقة وفعلاً بها في الدستور الجديد وفي أحكامه الفيديرالية، فإن من الضروري تعديل القوانين النافذة حالياً، لا سيما القوانين الجنائية وقوانين التصرف في الأموال، بحيث تتسق ولا تتعارض مع الأحكام الدولية لحقوق الإنسان، حدودها وضماناتها، كما وردت في الاتفاقات الدولية وفي الفقه القانوني المعاصر، وبحيث يحرم بشكل قاطع أي لجوء إلى الطريقة التي سبق اللجوء إليها وهي الإشارة الملخصة إلى هذه الحقوق في الدستور وتعدادها على أن يتم تنظيم التمتع بها بقانون خاص، والاستفادة من ذلك والاستناد إليه في إصدار القوانين الخاصة التي تصادر هذه الحقوق عملاً، وقد يكون في تنظيم أحكام هذه الحقوق والحريات التفصيلية في الدستور، وعدم تركها إلى قوانين خاصة، إحدى طرق الحفاظ على هذه الحقوق والحريات والوقوف دون مصادرتها أو الافتئات عليها بقوانين خاصة، وبذلك يضمن احترام قوانين الحريات وحقوق الإنسان وقواعدها وابقاؤها تحكم المجتمع حقيقة وقانوناً، شكلاً وموضوعاً. إن تغطية هذا المحذور وغلقه، وقد سبق للسلطات عندنا أن سلكته مخالفة لروح الدستور والحكمة منه، مسألة مهمة يجدر الاهتمام بها مستقبلاً. 8- كذلك فإن التأكد من احترام الأحكام الفيديرالية، من حيث موضوعها، مسألة مهمة أيضاً وذلك للحيلولة دون مخالفتها أو مصادرتها أو ابقائها أحكاماً شكلية بحكم قانوني تشريعي عادي يصدر لاحقاً عن طريق "تعيين اختصاصات الفيديرالية بحكم دستوري على أن يتم تنظيم استعمالها بقانون عادي" يتم اصداره كطريق مقصود لاهدار الحكم الدستوري، ومخالفة أحكام الفيديرالية، أو بأية طريقة أخرى. إن التأكد من صيانة أحكام الفيديرالية روحاً ونصاً والحيلولة دون مخالفتها والافتئات عليها أو على أهدافها مسألة بالغة الأهمية في أحكام الدستور وفي سلامة الوضع السياسي والقانوني الناشئ عنها. 9- وهناك اقتراح بانشاء مجلس دستوري شبيه بالمجلس الدستوري المقام في جمهورية إيران الإسلامية لمراقبة الأعمال المخالفة للشريعة الإسلامية هناك، على أن يختص بمراقبة السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان منع قيامها بمخالفة الدستور لا سيما في ما له علاقة بالاتساق مع فيديرالية الحكم نصاً وروحاً، والاتساق مع مبدأ المشاركة، وحقوق الانسان وأحكام الشرع الإسلامي وغيرها من المبادئ التي قام عليها الدستور وضمان تنفيذها ومراقبة سلطات الدولة وأجهزتها مراقبة مستمرة لضمان ذلك. 10 - ومما له دلالة، اليوم، في تزكية النظام الفيديرالي من بين الأنظمة الدستورية الحديثة في الحفاظ على الخصائص التعددية وضمان الرضا العام عن السلطة واجراءاتها لسلامة المجتمع وتقدمه، ان دولة المانياالمتحدة استمرت قبل الوحدة بين شطري المانيا وبعدها، بل منذ العهد الامبراطوري، بنظام فيديرالي بين ولاياتها، وأن هذه الولايات التي تتكون منها الدولة الألمانية ليست مجرد مقاطعات، وإنما هي تمتلك حقوقاً ذاتية كدول. ولقد نجح النظام الفيديرالي الألماني إلى درجة المحافظة على تقدم الألمان ووحدتهم خلال عقود طويلة من الزمن وتجاه عواصف وأحداث سياسية وزلازل تاريخية عاصفة، حتى أصبحت الدعوة قائمة الآن في كثير من الدول البسيطة والأوروبية للأخذ بالنظام الفيديرالي الألماني. كذلك أصبح هذا النظام هو ما ترنو إليه الجماعة الأوروبية، إذا ما تحقق طموحها بالفيديرالية الأوروبية في وحدتها المأمولة، وليس دور الفيديرالية السويسرية في معالجة التعددية في سويسرا بأقل من ذلك. كذلك فإن مما له دلالته أيضاً "النظام الدستوري الأميركي"، إذ يمثل الدستور الأميركي الذي تم وضعه عام 1778 أقدم الدساتير النافذة المكتوبة في العالم، وقد استمر تطبيقه راعياً لتقدم المجتمع والدولة الأميركية مدة قرنين بتعديلات تتسق مع التطورات العالمية بلغت 24 تعديلاً. لقد تم إقرار الدستور الأميركي بعد حوار فقهي وسياسي طويل قامت به منظمات وفقهاء وسياسيون من رجال الدولة الأميركية وبُناتها لضمان تنفيذ المبادئ التي قامت عليها الثورة الأميركية، وقد يكون من المفيد الاطلاع على الحوار المثمر لكل من الرؤساء واشنطن وجفرسون ومندلسون وهاملتون وآدمز وغيرهم من بناة الولاياتالمتحدة الأميركية حول النظام الفيدرالي الذي اختاروه نظاماً لدولتهم. إن النظام الدستوري الأميركي وضع لمجتمع ينطوي على تمايزات عرقية ودينية وطبقية حين انشائه وكان هدفه التعايش السلمي والتقدم لهذه المجتمعات وتعددها وتميزاتها التي كانت تتزايد باضطراد، وانشاء مجتمع تكون التمايزات التعددية سمته الأساسية، وليس إلغاءها كما هي سمة الأنظمة الأخرى، فأعطى سلطات واسعة للحكومة المركزية وأبقى السلطات المتبقية كافة للحكومات المحلية فأنشأ بذلك مراكز متعددة اقتصادية وثقافية واجتماعية، بل سياسية في الولاياتالمتحدة برئاسة العاصمة الفيديرالية، وبما لا يضاهي مركز العاصمة، من حيث السلطة، ومزاولتها والتمتع الدستوري بها، وذلك خلافاً للمراكز المتساوية في الدولة البسيطة التي كانت ستضيق عن احتضان قوة الدفع في المجتمع الأميركي الذي دفع إليها التقدم الاقتصادي والاجتماعي خلال القرنين الأخيرين، لولا الدستور الفيديرالي الأميركي، والتي كان من المحتمل لهذا المجتمع أن يتحول إلى دول متعددة لولا نظامه الفيديرالي العملي. اصطلاح اللامركزية 10- وأخيراً وليس آخراً، فإنه إذا كان اصطلاح "الفيديرالية" جديداً على الفكر والمناخ السياسي العراقي والعربي، وهو ككل جديد غير معروف، ومخيف أيضاً مثير للشكوك، فإن اصطلاحاً بديلاً يمكن اللجوء إليه، ويمكن ان يقدم لنا المفهوم الفكري عينه، وهو اصطلاح "اللامركزية"، إذ يمكن لاصطلاح اللامركزية الحكومية، وقد استعمل في بلادنا مند 1908 عهد المشروطية العثمانية من قبل الأقليات العربية والكردية وغيرها من أقليات الدولة العثمانية للدلالة على حقوقها المتميزة وتنظيم السلطة بما يؤدي إلى ارضائها حينذاك، ويمكن استعمال هذا الاصطلاح بدلاً من استعمال كلمة "الفيديرالية" على أن يشتمل على مضمون الفيديرالية عند تقنين النصوص الدستورية. 11- ومما ينطوي على أهمية خاصة للنظام الدستوري والقانون المعاصر في هذه المرحلة وفي المراحل اللاحقة من تطور العراق، وجوب التنسيق بين أحكام الفيديرالية الدستورية وأحكام الحكم المحلي البلدي والجهوي، وهي أحكام قانونية لا دستورية، ذلك ان الموضوعات فيها متكاملة ومتداخلة، وقد جرى إهمال الحكم المحلي وإهمال الطابع الديموقراطي له منذ انشاء الدولة العراقية وفي عهودها المتتابعة بعد ذلك، ويبدو لي أن السبب في ذلك ان الحكم المحلي هو الذي يحدد أمام المواطنين البسطاء درجة الاهتمام بهم وبتوجهاتهم ومصالحهم، ويشخص أمامهم مبادئ الديموقراطية ومدى انسجامها مع مصالح وتطلعات أبناء الشعب البسطاء، وهو أمر حاسم الأهمية لأي نظام سياسي في حاضره ومستقبله، لأن الإدارة المحلية وممارستها وتطبيقاتها الشاملة في أحكام البلديات والمحافظات واللامركزية والفيديرالية، هي الترجمة العملية والتحقيق الفعلي على المستوى اليومي المنتشر في قنوات المجتمع للنظام الديموقراطي وأحكامه ومنافعه واهتمامه بالمصالح العامة في تعامله مع المواطنين كافة بمختلف فئاتهم وطبقاتهم المادية وتباين مشاربهم وتعددها. إن قوانين مثل "إدارة البلديات" أو "إدارة الألوية والمحافظات" أو "الإدارة المحلية" أو أنظمة "الطرق" و"المتنزهات" و"النظافة العامة" و"المرافق المتعلقة بالخدمات العامة المختلفة" وكل ما يتصل بالمجتمع المدني. والمال العام والبيئة والصحة والثقافة والتلوث والسكينة العامة داخل القرى والمدن، هي من المقومات الأساسية التي تبدو فيها نوعية السلطات المحلية المحتكة بالناس ونوعية علاقاتها بالمواطنين ومن هنا تأخذ أهميتها السياسية فوق أهميتها الاجتماعية والإعمارية، خصوصاً في وقت انهارت فيه المقومات الأساسية للمجتمع المدني قانوناً وعملاً. 12- ومن المسائل المهمة التي يجدر اتخاذ موقف بشأنها بمناسبة الكلام عن الفيديرالية، مسألة هل تعمم الفيديرالية، كأسلوب للحكم المحلي الدستوري على كامل صعيد التراب العراقي. فيتم تقسيم اقليم الدولة العراقية بأجمعه، دستورياً، إلى فيديراليات: ثلاثة متعاقبة ومتتالية في موقعها الأولى في الشمال لكردستان والثانية تعقب الأولى على حدودها الجنوبية في وسط العراق للسنة، والثالثة تعقب الثانية وعلى حدود الثانية الجنوبية بعدها للشيعة في الجنوب، بحيث تغطي هذه الفيديراليات اقليم العراق جميعه بحدوده كافة، كما هو حادث في الولاياتالمتحدة الأميركية، أم تبقى فيديرالية كردستان وحدها أو مع غيرها من الفيديراليات في جزء من التراب الاقليمي العراقي ويجيز الدستور تأسيس أنظمة محلية غير فيديرالية أو فيديراليات أخرى قومية أو طائفية أو جبهوية، بموجب قوانين تصدر بعد ذلك، تنظمها أو ترسم أنماطاً أخرى من الحكم تطبق في المناطق المتبقية من التراب العراقي، وأني لأرى في هذا الطريق الثانية أكثر استجابة لرغبة المواطنين، وأكثر ديموقراطية وأقرب إلى استقرار الأوضاع العراقية أيضاً، وعلى كل، فهذه مسألة من مسائل الحوار المثمر أيضاً. وهي سياسية في الجوهر. حدود المناطق 13- كما أن تحديد حدود المناطق الفيديرالية، لا سيما المنطقة الكردية، ستكون مسألة مشحونة بالعواطف والمشاعر والانفعالات والمصالح القومية والفردية في محافظاتكركوك وديالى والموصل وغيرها. على أنه إذا نظر إلى الفيديرالية على أنها خطوة في طريق الانفصال وتأسيس كيان قومي دولي مستقل، فستكون حدود الفيديرالية موضوع نزاع سياسي قومي صاخب، أما إذا نظر إليها كطريق يمثل التعددية والحفاظ على الحقوق القومية والثقافية الكردية في عراق موحد، فستخف حدة هذه العواطف ويخفت الخلاف الدائر حولها كثيراً. والمسألة كلها في هذه الأيام مسألة سياسية تتصل بنوع استجابة السلطة المركزية ومواطني العراق والاقليم الفيديرالي لهدف بقاء وتطور عراق موحد يحافظ على مصالح ورغبات جميع مواطنيه من عرب وأكراد. 14- وهناك نقطة مهمة يثيرها تطبيق النظام الفيديرالي على كامل الاقليم العراقي أو في جزء منه، لتعلقها بشكل عام بما يعلقه العراقيون على الأخذ بالنظام الفيديرالي من آمال في استتباب الاستقرار السياسي والاجتماعي في العراق، كما أنها تتعلق بما أوردته في الفقرة السابقة رقم 13 المتعلقة بحدود المناطق الفيديرالية، هذه النقطة يجدر بحثها من الناحية النظرية والعملية، وهي تتعلق بالحقوق التي يقررها الدستور للاقليات التي تمثلها التعددية القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجهوية الكائنة في داخل منطقة الحكم الفيديرالي بشكل يضمن لهذه الاقليات الحقوق المقررة للأقليات، ويؤدي إلى الاستقرار والتنمية ويضمن للمواطنين من ساكني هذه المناطق حقوق الإنسان. وقد تبدو هذه المسألة مهمة في كردستان وفي مناطق وسط وجنوب العراق، حيث تتحقق التعدديات القومية والدينية والثقافية بدورها داخل مناطق العراق الثلاث، بحكم قدمها الحضاري ومرور آلاف السنين على حضارات وقوميات وأديان مختلفة عمرت مناطق العراق الثلاث، وفي ما يتعلق بفيديرالية كردستان، موضوع البحث، على الخصوص تجدّ هناك "القومية التركمانية" والأقلية الدينية والقومية الآشورية والعديد من المناطق التي تسكنها أقليات دينية كاليزيدية والشبك والعلي - اللاهية، وغير ذلك من التعدد الذي أدى إليه وقوع المنطقة على خطوط الصراع بين البيزنطيين والفرس، وبين الأتراك والفرس، خلال ما يزيد على ألفي سنة، كما أدى إليه وقوع المنطقة على طرق المواصلات القديمة بين الشرق والغرب وطرق الفاتحين القدماء. إن اتخاذ موقف من الحقوق السياسية لهذه الأقليات التي تقع ضمن الفيديرالية الكردستانية وكيفية تمتع مواطني هذه الأقليات بها مسألة مهمة تؤثر على مصير الفيديرالية والاستقرار المطلوب، وتسد الطريق على المصطادين في المياه العكرة في المستقل.