اعتاد الشاعر الأردني أمجد ناصر، منذ مجموعته اللافتة "رعاة العزلة"، وهي الثالثة له، أن يفاجئنا بعمل شعري جديد، يحمل عناصر تكوينية جديدة، تشتغل على ثيمة واحدة، تكون بمثابة البؤرة الجوهرية للعمل الشعري، أو العماد الرئيسي الذي يقود السياق الشعري، ليدخله في منعطفات ومسالك وأزقة، تعود وتصبّ أو تلتقي في المحور الرئيسي إياه، وهو بؤرة النص. إن هذه البؤرة التي تتكون في المتن عادة، تقوم بتغذية الهوامش والأطراف، لأنها المركز الذي يسري في الحواشي ويعيد نشر الضوء في التضاعيف الأخرى، "فرعاة العزلة" كانت تقوم على هذه الخاصية، وكذلك هو شأن "وصول الغرباء" مجموعة الشاعر الرابعة. فالمركز هنا واضح وجلي، انه الغريب بكل تجلياته وتحولاته ومواضعاته في المغتربات. المركز يتبدى أيضاً في مجموعته الخامسة "سرّ من رآك" المبنية على سياق حسي، ايروتيكي ميّزها بجلاء، وها نحن الآن أمام مجموعته الشعرية الجديدة "مرتقى الأنفاس" التي تندرج في المثال ذاته المشار اليه، مثال الثيمة التي تحتوي المجموعة كلها وتنتشر فيها لتؤسس إطاراً خاصاً للعمل الشعري، يتحرك النص بموجبها. وهذه الخاصية ستدفع القارىء أن يطوف بحرية في فضاء النص، الشبيه بعالم متخيل له يوتيبياه، له رؤيته المغايرة ونهجه المّميز ولغته التي لا تشبه لغة عوالم أخرى، تتجاور معه أو تتاخمه. قد نجد مرتقيات ولكنها قد تكون متاهات ومضيعة للخطى، هي غير هذا المرتقى الذي تسلس انفاسنا له، انه مرتقانا "مرتقى الأنفاس" هذا الذي يتجوهر حول مساق الضياع والفقدان والغروب، الذي أصاب روحنا في "أندلس الأعماق" على حد تعبير الشاعر أدونيس. فعمل أمجد ناصر الشعري الجديد، يدور حول هذه الأعماق الضائعة، إبان الأفول، أفول حضارتنا التي غطت الجهات الأربع. تبدأ مجموعة "مرتقى الأنفاس" بإهداء ذي مغزى ودلالة واضحين "الى أبي عبدالله في زفرته الأخيرة"، ثم يليه تقديم مقتطف من "مجنون إلسا" لأراغون يهيء القارىء لدخول أبهاء هذا المعمار، الذي تتوزعه ستة أنساق هي: توديع غرناطة، الرابية، ميلان النهار، الأمير، مشيئة الأفول ومرتقى الأنفاس. فالرابية تشير، كمفتتح للسياق الأول، الى وهج الماضي المسوق بدلالته التاريخية، حيث الغفوة التي أخذتنا كأبناء لكهف لأن على "دراهمنا أثراً للنوم" كما يقول الشاعر أمجد ناصر. فالرابية هي دلالة الوقفة المخذولة للوداع الأخير للأمير ابن عبدالله الصغير، قبل أن يقذف بزفرته من على الرابية ويتجه الى المنفى "لن نعرف كم غفونا هناك تحت ظلال رموشنا، وكم دارت بنا الأرض في كتب تداولها مقتنون عديدون، لكننا رجعنا أخفّ ما نكون، ولم نجد من تركناهم على الأبراج، يصدّون رياحاً من سبع جهات". يستدرج الشاعر أمجد ناصر التاريخ الى ردهته الشعرية، متقصياً ردهات الأمير وحاشيته في قاعة السفراء، إذ ثمة "جدل الجباة والمتكلمين يتصادى في ردهة المجلس الأعلى لشؤون الرياح، بينما الأمير، على الطنافس يفلّق الرمان بكلتا يديه ويرمي الأحاجي على خلصائه". هنا تتجلى مقدرة أمجد الفنية على استنهاض ما مضى ووضعه في سياق جمالي، هو غير التاريخ الذي يؤرخ حادثته المؤرخ، في مسرد ماضوي، يميل الى الأملال ومراكمة الوقائع والحوادث بعضها على البعض الآخر. فالتاريخ يتبدى في هذا الموضع، تاريخاً شفافاً، رومانتيكياً، تحتويه إطلالات أندلسية ناعمة هفهافة ترفل باستبرق وطنافس ونساء بيضاوات نائمات في خدر الضحى، قباب وأبراج وعطور وأقواس صنعتها المهارة، لكأننا نخال أنفسنا ونحن نرتقي هذا "المرتقى" بأننا نطل على عالم فاتنا، شبيهاً بحكاية سحرية تأخذ بلبابنا وأعطافنا فنجد فيها لذة من الحبكة القصصية الباهرة، والروائح التاريخية المحمولة على نسمة شعرية: "في الربيع جاء مدّاحون ونسّابون وعازفون بنايات طويلة وكان الدخان يحجب هياج الأكباش". يحسن الشاعر أمجد ناصر توظيف عناصر المكان بتفاصيله وموجوداته وكائناته الصغيرة. فالمكان كما نراه، حافل بالمدّاحين والجواري والنسّابة الأعراب، حافل بالمغنين والحراس والحجاب، ولكن أمجد يعي، وهو يقدم هذا الجانب الوضاء من تاريخ حضارة هوت، أن يقدم أيضاً الجانب الآخر، جانب المأساة وليس الملهاة فقط، الجانب الدرامي من الصراع على أندلس المسرّات، فالأعداء وراء الأبراج يترصدون بزاناتهم الطويلة، جبابرة ينتظرون حول القلاع يوم التسليم، انه يوم "الوجع الذي يحيل الطفولة ذكرى" حيث "رهيف الأمير بطيلسانه على الأريكة يخفّ اليه الأقربون بالطاعة نفسها"، هناك شعل وأعلام وبربر مدجّنون ونساء لحيمات على الشرفات، هناك سير أسلاف وكؤوس ساهرة تسطع في غروب محتّم وقريب، في غروب إمارة آيلة الى الزوال. أما ما هي حكمة هذا الزوال الذي خلّفه الأسلاف للأحفاد فإن "مرتقى الأنفاس" تشير وتحيل الى أكثر من غرناطة ضائعة. فثمة تأويل في النص وإبدال، ومن ثمّ إحالة الى شيء آخر فقدناه في عصرنا الراهن، انها احالة وقناع لكل ضياع، لكل منفى ولكل "ايثاكا".