يقوم مقال عبدالإله بلقزيز "شهادة ميلاد" المشروع السياسي الإسلامي: ثقافية أم اجتماعية" "الحياة" 22 نيسان/ ابريل 1998، على تبيان ما يقف وراء بزوغ المشروع السياسي الإسلامي المعاصر. ومن دون مواربة يذهب كاتب المقال إلى تعيين الأساس الذي يرتكز عليه الخطاب الإسلامي الحديث من حيث كونه نتيجة لفشل المشروع المجتمعي الحديث: مشروع "الدولة الوطنية". وفي تشريح مسهب لسمات هذا الاخفاق، لا يوفر بلقزيز أحداً من مسؤولية الفشل، فيرى أن "المشروع المجتمعي الحديث ... كان عنواناً لسائر النخب التي انتمت إلى - أو تحدرت من - سلالة الحداثة: فهو مشروع الليبراليين والقوميين والاشتراكيين تواطؤا جميعاً على فضح عنوان: حداثة سياسية واقتصادية واجتماعية رثة لا تنتمي - قطعاً - إلى فضائها التاريخي، ولا تربطها صلة قرابة بالحداثة الحق ...". ومن خلال ما يقدمه بلقزيز من حجج لنعي مشروع الدولة الحديثة عند العرب، يبرع في أخذ مسافة غريبة من اشكالية هذا الاخفاق. ويصوغ جملاً ذات مضمون وصفي نخاله صادراً عن مستشرق مبتدئ يكتشف ظاهرة آركيولوجية فينبهر ويندهش ويجف حلقه وتترطب مقلته. ويعتمد كاتب المقال اختصار الواقع واختزال الواقعة والاندفاع مباشرة ربما لضيق الحيّز الكتابي لاستخلاص النتائج الفشل، من دون تكليف النفس بالتلميح لمسار تاريخي عسير ولتجربة استقلالية تنموية تستحق تسليط المجهر على مكوناتها وعواملها سلبية كانت أم ايجابية. ويلقي بلقزيز باللائمة على مشروع "الدولة الوطنية" كما لو أن الأمر كان خياراً منتقى من بين بدائل أخرى. فالدولة الوطنية هي انتقال طبيعي "اجباري" من الشكل السياسي المستعمِر إلى آخر استقلالي يتسلم فيه أهل البيت إدارة شؤون البيت. فالحكم على النجاح أو الفشل لا يمكن أن يطلق إلا على النظم السياسية التي اعتمدت لإدارة الداخل الوطني، كونها تندرج في منظومة الخيارات المتاحة غداة المرحلة الاستقلالية، أي أن مشروع الدولة الوطنية، أي مشروع الخلاص من وصاية المستعمر، لا يمكن إلا أن يكون بديلاً حتمياً لا يستحق منا لوماً أو عتباً. بيد أننا لن نركز على قصد بلقزيز من استخدام مدلول "الدولة الوطنية" واعلان فشلها، فما يهمنا هو اسهامه في حلقة نقاد الحداثة واكتشافه مكمن العلة من حيث كونها - أي الحداثة - "لم تنتم إلى فضائها التاريخي ولم تربطها صلة قرابة بالحداثة الحق على نحو ما عرفه موطنها الأصل: أوروبا وامتدادها الغربي". ومن المؤسف ان ينساق كاتب المقال إلى الاستسهال والتبسيط واستخدام خطاب منزلي من نوع يخلص الترجمة الحداثوية العربية من شوائبها الموضوعية وينزع عن "الحداثة" خصوصيتها كمشروع متحرر من قيود الأمس والموروث، ليعيد النفخ في دينامية الاصول. ويعلمنا كاتب المقال أن مشروع الدولة الحديثة فشل على رغم استئجار القائمين عليها مَن وصفهم ب "صغار الكتبة" للدفاع عنها. وعلى الرغم من ان بلقزيز لم يوضح مواصفات كبار الكتبة، إلا أنه يخلص إلى استنتاج يكشف فيه أنه "على الرغم من كل العمليات الجراحية الثقافية الحداثوية، التي خضعت لها الثقافة العربية منذ قرنين ... فإن القاع الثقافي العربي ما زال دينياً ... وعلى ذلك، فإن الحركات الإسلامية لم تنشأ من فراغ". ولا يخفى عن ذهن بلقزيز ان الحركة الإسلامية السياسية لا يمكن لها ان تنهض في فضاء ثقافي غير إسلامي، أي أن إسلامية المحيط الاجتماعي شرط أولي لانطلاق طليعة تعيد استثمار الموروث الإسلامي خدمة لمشروع سياسي يفترض الوصول إلى السلطة. غير ان هذا الشرط لا يمكن ان يحصّن الدينامية السياسية للنخبة الإسلامية بمحركات موضوعية بحتة، ذلك ان المادة الدعاوية للمشروع السياسي لا تستند إلى محاور علمية مقارنة ولا تعتمد على حركة الاقناع لبرنامج تطبيقي: بل تكتسب قواها من محاكاة الشاعر واللعب على أوتار الكفر والايمان وإعادة توظيف هذا "القاع الثقافي" الابوي العائلي المقدس لمصلحة أهداف لا تختلف عن أهداف أي حزب سياسي أو ثوري عقائدي آخر. ولا يختلف الشعار الانتخابي لجبهة الإنقاذ في الجزائر: "صوّت للفيس FIS صوّت ضد ابليس" عن كونه دعوة للتقرب من الله والابتعاد عن الشيطان من خلال ورقة الاقتراع على مشروع يراد له ان يكون سياسياً دنيوياً. وما نستطيع قراءته من خلال تقديم بلقزيز لفشل الدولة الوطنية هو مراقبته اعراض الوهن الذي خلفته هذه الدولة وما أسفرت عنه من "انتاج فائض الفاقة والاملاق وعن توزيع الثروة على أمثل تتحقق به الفجوة الرهيبة بين المترفين والمحرومين ... وتتشكل أكثر لوحات الاقتصاد قتامة ورعباً: الجوع والحرمان، والتبعية، والمديونية! ومعها أشد لوحات الاجتماع رعباً: التهميش، والبطالة، واليأس والاحتقان، ومشاريع الحرب الأهلية..."! بيد أن الأعراض السابقة ليست خصوصية لازمة للتجربة الحداثوية العربية، ف "اللوحات" نفسها تنسحب على الخريطة العالمثالثية، في بطن القارة السوداء أو جنوب القارة الأميركية أو جنوب شرق آسيا. أي ان العلة تستدعي مراجعة مستفيضة: لا مجال لها في هذه العجالة، للنظم الاقتصادية في إطارها التاريخي المحلي وارتباطها حتماً بالنظام الاقتصادي العالمي. وإذا كانت العلة تكمن في سوء استخدام النظم الملائمة لاستغلال الثروة، فإن الترياق لا يمكن اخراجه إلا من خيارات نظمية بديلة تعتمد العقلانية الاقتصادية والسياسية. أي أنه لا يكفي أن يكون المشروع السياسي أو الاقتصادي إسلامياً حتى نخرج من دائرة "الفشل"، فإذا نجح "المشروع الإسلامي" افتراضاً، فذلك سيعود إلى حسن الوقوع على الخيارات الفعالة، وإن فشل "المشروع" فذلك راجع إلى خلل في وصف الدواء. وفي الحالين النجاح والفشل المفترضان لا شأن للدين ولا علاقة له بهما فالعلل تنتج عن سوء تقدير بريء أو مفتعل يصدر عن البشر، وشفاء العلة المباشر أو غير المباشر هو فعل بشري صادر عن استخدام طاقات أنسوية بحتة. ومع أن عبدالإله بلقزيز يُرجع فشل التجربة الحداثوية إلى بعدها عن فضائها التاريخي الثقافي، غير أنه يعود في نها ية مقالته إلى التسليم بأن "ميلاد المشروع السياسي الإسلامي المعاصر يتغذى من أفول المشروع السياسي لقوى الحداثة العربية بطبقاتها العقائدية والايديولوجية المختلفة ...، وفيه، لا في البحث عن نقط قوته الثقافية، ينبغي ان ينصرف الذهن لفهم مكامن الجاذبية الشعبية له...". أي ان العامل الثقافي لا يتصدر سلم الأولويات في تفسير الظاهرة. وهنا نستطيع الارتياح إلى تسليم بلقزيز بأن رواج المشروع السياسي الإسلامي شديد الصلة بفشل المشاريع السالفة وليس وليد ديناميته الذاتية أو نتاج عبقرية تفيض به. ويصف بلقزيز الحركة الإسلامية المعاصرة بأنها "مشروع" يتقن استثمار الأزمة الاجتماعية الطاحنة ليقدم يوتوبيا سياسية جديدة تجتهد في عقد القران ما بين السياسة والاخلاق. وفي إسباغ الطهارة الدينية على شعارات الرفض...". ولا يسهو عن بال القارئ مدى اللبس الذي يعتري هذه الجملة الأخيرة، ف "اتقان استثمار الأزمة الاجتماعية..." هو سلوك شعبوي غوغائي خطير لطالما انتهى من خلال الأمثلة التاريخية إلى بدائل سلطوية تتراوح ضراوتها ما بين الفاشية والديكتاتورية. كما ان "إتقان" استغلال الأزمات يصادر كل افق لبناء مجتمع ديموقراطي يؤمن بالحريات، علماً بأن مشروع الإسلام السياسي لم يوار يوماً رفضه للديموقراطية بصفتها بدعة غربية غريبة عن طباع الأمة. غير أن عتبنا يتجمع على ما يقدمه بلقزيز من خلاصة يقرن بها المشروع السياسي الإسلامي بالاخلاق، أي مؤازرته لمقولة ساذجة لا تخفى بالطبع عن بلقزيز تعتبر الاخلاق نتاجاً للدين، فكل ما هو اخلاقي يلتصق بروح الدين والمتدينين، وان الدين في السياسة يسوق آلياً إلى إسباغ الاخلاق على ممارستها وفي هذا "إعدام" لمفهوم الاخلاق منذ افلاطون وحتى يومنا هذا، وتغييب للمحددات الظرفية والموضوعية التي تقوم عليها قيمة الاخلاق، فما هو اخلاقي في ذلك العصر بات منافياً للاخلاق في عصر وظرف آخر. والاخلاق في حسن إدارة الصراع الداخلي أو ذاك الخارجي، سواء تعلق الأمر بمسائل السياسة والاقتصاد والأمن والإنسان، لا يمكن تقزيمها إلى مفهوم واحد قد يلتقي مع اجتهاد دون آخر ويخالف مع بيئة دون أخرى. ومن شأن هذا تفتيت المجتمع وتشطيره إلى منزهين ومشبوهين وتحويل حركة المجتمع الداخلية إلى اندفاع الفئة الأخيرة للانخراط القسري في مشروع الفئة الأولى سعياً وراء كسب الفضيلة الأزلية الوحيدة لدى سائر البشر: الاخلاق.