آسيا القديمة بدأت تنتهي لتباشر ظهورَها آسيا أخرى أكثر حداثةً وديموقراطية وانفتاحاً. هذا ما أوحى به الحدث الاندونيسي الكبير قبل أيام قليلة، وذلك بعد تطورات شهدناها في تايلندا وكوريا الجنوبية حملت الى نظامي البلدين مزيداً من التحديث الديموقراطي. حتى الصين الشعبية، الشيوعية، استجابت جزئياً، وعلى طريقتها، بتكليف التكنوقراطي و"رجل السوق" جو رونغجي رئاسة حكومتها. فقبلاً، وحتى انفجار الأزمة المالية التي همّشت القارة اقتصادياً ووجهت تحدياً كبيراً لنموذجها الشهير، كانت المعادلة المعمول بها هي التالية: من الحاكم الازدهار الاقتصادي والأمن، ومن الشعب الطاعة والتسليم والامتناع عن السياسة. وفي ظل الدعم الغربي لهذه المعادلة، بفعل الحرب الباردة وتحت وطأة مفاعيلها، تربّعت في العواصم الآسيوية أنظمة من نوع واحد: قبضة عسكرية لا يلبث ان تتشكل من حولها نخبة سلطوية مغلقة. أما الأداة الأبرز في بلورة أهل الحكم ومحيطهم فتتولاها علاقة المصاهرة والنسب. فبالتزاوج مع بعض العائلات المالية، وعدد أصغر من العائلات الأكاديمية، تتشكّل السلطة التي يقف على رأسها أبٌ حامٍ هو في الغالب قائد الجيش أو صاحب الانقلاب. أما ايديولوجية السلطة فتقوم في العادة على دعامتين: العداء للشيوعية والأخلاق والقيم الآسيوية. ولما بدأ العداء للشيوعية يتراجع بنتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، غدا الموروث الثقافي الآسيوي الدعامة الوحيدة. وهذا الأخير، الديني والقومي والقبلي الذي تولى القاموس العسكري تجديده، يغلّب الوطن على العالم، والرجلَ على المرأة، والموروث على المكتَسَب، والمعطى على المصنوع، والقوة على العقل، وهكذا دواليك... لكن الأزمة المالية والاقتصادية التي وقعت على المجتمعات كما تقع أفعال الطبيعة، جاءت تقول ان الحكام المستبدين لم يوفروا البحبوحة والازدهار مقابل تعهد المجتمع بطي السياسة والحرية. ولما لم يتوفر الازدهار غدا توفير الأمن مستحيلاً. وفي غضون ذلك كانت تعتمل عناصر كثيرة في الصلب الاجتماعي وتتغير معطيات عدة في السياسات الدولية. ففي العقود الأخيرة تشكلت طبقات وسطى جديدة أشد صلةً بالعالم الخارجي، وأضعف نسباً بالقيم الآسيوية، لكنها أيضاً أكثر تطلباً، وأكثر ادراكاً لليبرالية السياسية شرطاً لليبرالية الاقتصادية. ومع الطموح في توسيع دائرة السلطة، اتسع الطموح لمساءلة الحاكم واخضاعه لرغبات الشعب وأذواقه، وابقاء العين مفتوحة على فساده وفساد حاشيته. وعلى هامش الأفكار المتداولة راحت تتنامى الفكرة التي تقول ان الفساد من أكثر ما يعيق التنمية، فيما لا يُكافح الفساد الا بتوسيع مساحة السياسة وتعريضها للمراقبة. وفي المقابل، وبانتهاء الحرب الباردة، لم يعد الغرب ودوله مصدر دعم لأنظمة الاستبداد الرأسمالي "خوفاً من الخطر الشيوعي". فمنذ اطاحة ديكتاتورية آل ماركوس في الفيليبين تبدى هذا الغرب نفسه مصدر دعم للمطالبات الديموقراطية في آسيا. وحتى الصين الشيوعية التي لا تندرج في الخانة هذه أصلاً، تحولت المسايرة الأميركية لها بعد قمع انتفاضة تيان آن مين الى موضوع سجالي وموضع احراج بالغ للإدارات الأميركية والحكومات الغربية. لكن هذا وذاك واكبهما التطور الكبير الذي يسمى: العولمة. فبعد الآن لم يعد من الممكن التستر على ما يجري في الداخل، أكان أزمة اقتصادية أم قمعاً. أما السلاح الذي كان استخدمه سوهارتو بكفاءة ضد المعارضين اليساريين والمتمردين في شرق تيمور، فلم يعد على الاطلاق صالحاً للزمن الجديد. وإذا كان المنشق قبلاً يختفي تحت الأرض، أو يهرب في الغابة، فإنه الآن يحضر في الجامعة والبنك، ودائماً في ظاهر العواصم والمدن الكبرى، قريباً من حركات الدفق المالي ومن سيولة الأفكار والعادات والأذواق. هكذا لم يعد في وسع القوة والجيش احباط ثورات من هذا النوع، ثوراتٍ لم يبالغ الذين قالوا ان الرأسمالية أطلقتها، وبها أسقطت حاكماً كسوهارتو الذي قضى ثلث قرن في السلطة قضى خلاله على كل أنواع المعارضات. والاحتمال الأقوى الآن أن تنجح آسيا المثخنة بجراحها، في أن تعيد صوغ مجتمعاتها وسياساتها للزمن الجديد، بديموقراطية أكثر وعولمة أكثر، وبفساد وقيم آسيوية أقل. فلربما كانت هذه وسيلة القارة الضخمة الى نفخ الحياة مجدداً في نموذجها!