يهيمن الدولار منذ قرن من الزمن تقريباً على النظام المالي الدولي، وبسبب الاستعمال المكثف للدولار في جميع أنحاء العالم كعملة دولية، بما يتضمنه ذلك من وظائف العملة المختلفة، من خزن للقيمة إلى تحويل للثروة وتسعير السلع والخدمات، فقد اكتسب الدولار أهمية تفوق بكثير حجم الولاياتالمتحدة الاقتصادي في العالم. حيث لا يتجاوز الناتج الاجمالي الأميركي 27 في المئة من اجمالي الناتج العالمي. غير ان الدور يشكل 56 في المئة من احتياط العملات الأجنبية في العالم و48 في المئة من قيمة فواتير الصادرات العالمية، و84 في المئة من عمليات تبادل العملات الأجنبية الثنائية الدولية. ومع تزايد استخدام العملات وتنامي سيولة الأسواق المالية الدولية، ازداد التعامل بالدولار من قبل الشركات والأشخاص على حد سواء في جميع النشاطات المالية والتجارية، وأصبح الاستغناء عنه أمراً صعباً بعد أن اكتسب ثقة دولية واسعة تعززت بمرور السنين بسبب القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة الأميركية. ولم تستطع عملات قوية أخرى مثل الين الياباني والمارك الألماني والفرنك الفرنسي والجنيه الاسترليني أن تحد من هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي طيلة القرن الماضي. غير ان الوضع أصبح مختلفاً جداً الآن بعد تبني 11 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها المانيا وفرنسا، للعملة الأوروبية الموحدة "الأورو" التي ستصبح العملة الرسمية للاتحاد الأوروبي في كانون الثاني يناير من السنة المقبلة. ويتجاوز الناتج المحلي الاجمالي الحالي للدول الإحدى عشر 6 ترليون دولار، ومن المتوقع ان يصل إلى 7 ترليون دولار في السنة المقبلة، خصوصاً أن هناك انتعاشاً اقتصادياً في العديد من الدول المكونة لمنطقة "الأورو" الحالية. وعندئذ سيقترب حجم الاقتصاد الأوروبي من حجم الاقتصاد الأميركي، الذي بلغ الناتج المحلي الاجمالي فيه 8 ترليون دولار. وستكون منطقة "الأورو" أكبر مستورد ومصدّر للسلع والخدمات في العالم حتى عند استثناء التجارة البينية لدول الاتحاد. ومع انضمام كل من بريطانيا والسويد والدنمارك، التي اختارت البقاء خارج منطقة "الأورو"، واليونان التي لم تستوف شروط الانضمام، فإن الاتحاد الأوروبي، وبالتالي منطقة الأورو، ستكون أكبر اقتصاد في العالم. ومع توسع الاتحاد الأوروبي إلى وسط أوروبا وشرقها، فإن "الأورو" ستزداد قوة ونفوذاً في الاقتصاد الدولي، وسيكون هذا بالطبع على حساب الدولار الأميركي. إن تناقص تكاليف التحويل والعمليات المالية، بسبب غياب العملات الأوروبية المتعددة واندماجها في عملة واحدة، سيزيد من جاذبية "الأورو" حيث لا تحتاج الشركات أو رجال الأعمال إلى تغيير العملة كلما ارادوا القيام باستثمار أو نشاط مالي أو تجاري في دول الاتحاد المختلفة. كذلك فإن الاتحاد النقدي الأوروبي سوف يوسع من اقتصادات الحجم التي ستقلص من تكاليف الانتاج وتسهل انتقال المبادلات التجارية بالسلع والخدمات، وهذا من شأنه ان يشجع الشركات على استخدام "الأورو" بدلاً من الدولار. وقد طلبت شركات بريطانية مثل "بريتش غاز" ودولية تتخذ من بريطانيا مقراً لها، مثل "آي سي آي"، من مورديها القبول بتسديد قوائمها ب "الأورو"، ما يعني أن الشركات الأوروبية والدولية ستتعامل ب "الأورو" حتى في البلدان التي لم تنضم إلى منطقة "الأورو" مثل بريطانيا والسويد والدنمارك واليونان. ومن المرجح جداً أن تُستخدم "الأورو" في التعاملات المالية في أوروبا الوسطى والشرقية، لأن معظم دول المنطقة تطمح إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب، ولا بد لها من التكامل الاقتصادي مع الاتحاد، وأن التعامل ب "الأورو" أو ربط عملاتها بها سيكون من وسائل التكامل مع الاتحاد. كذلك فإن دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالتحديد، مثل مصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب التي تتعامل تعاملاً وثيقاً مع أوروبا، سوف تحتاج إلى التعامل ب "الأورو". ومن المحتمل جداً ان تبدأ الدول الآسيوية مثل اليابان وأعضاء منظمة آسيان وغيرها باستخدام "الأورو" في تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي على الأقل والتي تتم بالدولار حالياً. ومن المرجح ان تخفّض البنوك المركزية من احتياطاتها بالدولار وتستبدلها ب "الأورو"، خصوصاً أن معظم البنوك المركزية تحبذ تنويع مخزوناتها من العملات الأجنبية لكي تتجنب الخسائر الناتجة عن انخفاض سعر الدولار، والتي طالما عانت منها في السابق. مقابل ذلك، هناك بعض المشاكل التي قد تعترض اكتساب "الأورو" للمكانة الدولية التي تستحقها. من هذه المصاعب هي حداثة الاتحاد الأوروبي ككيان مستقل والغموض الذي لا يزال يخيم على الشكل النهائي الذي سيتخذه الاتحاد، والاختلافات القائمة بين دول الاتحاد على العديد من القضايا، وصغر أحجام الأسواق الرأسمالية الأوروبية وتفككها مقارنة مع الأسواق الأميركية. إلا أن كل هذه الأسباب، باستثناء السبب الأخير، لا تشكل تهديداً حقيقياً على مستقبل "الأورو" مقابل التصميم الأوروبي، والألماني على وجه التحديد، على انجاح هذه التجربة. ولا ننسى أن المانيا هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدةواليابان، وأن الحكومة والمعارضة الألمانية، على حد سواء، متحمسان جداً للوحدة الأوروبية الشاملة التي تشكل الوحدة النقدية إحدى أهم ركائزها. ويضاف إلى التصميم الألماني الحماس الفرنسي للوحدة الأوروبية الذي لم يتغير بتغير الاتجاه السياسي للحكومة الفرنسية بعد فوز الرئيس شيراك بالرئاسة، أو بعد تولي جوسبان لرئاسة الحكومة. أما بريطانيا فسوف تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي عاجلاً أم اجلاً لأن البريطانيين يعلمون أن مستقبلهم سيكون داخل أوروبا لا خارجها، خصوصاً أن 54 في المئة من الصادرات البريطانية تذهب إلى الاتحاد الأوروبي، وأن المعارضة الشعبية البريطانية الحالية لأوروبا سوف تتضاءل مع زوال الغموض والشكوك بعدم نجاح الاتحاد النقدي. ويذكر أن سبب المعارضة الشعبية البريطانية سيطرة اليمين البريطاني على الإعلام في السابق، لكن هذه السيطرة بدأت تتغير بتحالف أكبر ناشر ومالك لوسائل الإعلام في بريطانيا روبرت مردوخ مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير منذ عامين أو أكثر. ومع تشرذم حزب المحافظين المعارض وانقسامه، فإن رأي الحكومة العمالية المؤيد لأوروبا سوف يسود في نهاية المطاف. وعندما تنضم بريطانيا إلى "الأورو"، فإن مكانة "الأورو" الدولية سوف تتعزز، خصوصاً أن بريطانيا تمتلك سوقاً رأسمالية كبيرة ومركزاً مالياً عريقاً في لندن. ولهذا السبب فإن الدول الأوروبية المؤسسة للاتحاد النقدي، كالمانيا وفرنسا، تحرص على انضمام بريطانيا إلى "الأورو" في أقرب فرصة، ولذلك فقد تساهلت كثيراً مع التلكؤ البريطاني ووافقت على استشارة بريطانيا في ما يخص البنك المركزي الأوروبي المقترح على رغم رفضها الانضمام له في المراحل الأولى. إن وضع الأسواق المالية الأوروبية سوف يتغير من دون شك بعد تحقيق الاتحاد النقدي، إذ سيتعزز الترابط والتنسيق في ما بينها لكي تتكامل في النهاية وترتقي إلى مستوى السوق الأميركية التي مضى على تأسيسها فترة طويلة من الزمن. لكن ذلك سيحصل بمرور الزمن وتوسع الاتحاد الأوروبي ليصبح أكبر اقتصاد في العالم في مطلع القرن المقبل. واستناداً إلى دراسة حديثة قام بها أكاديميان من مركز لندن لأبحاث السياسة الاقتصادية ونشرت أخيراً، فإن "الأورو" ستصبح عملة عالمية خلال أشهر وليس سنوات. ومن المرجح أن يسعى البنك المركزي الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة ب "الأورو" بهدف اجتذاب الأموال أولاً وتخفيض معدل التضخم ثانياً، ومن ثم رفع ثقة المستثمرين بالعملة الجديدة. وليس بالضرورة أن يقود التوسع الاقتصادي الأوروبي إلى الإضرار بالاقتصاد الأميركي، بل على العكس من ذلك، فإن الشركات الأميركية ستجد في "الأورو" خير ملجأ لها في حالة الأزمات المالية أو الصعوبات الاقتصادية في أميركا. إن استقرار "الأورو" وقوتها سيكون من دون شك في صالح الاقتصاد العالمي الذي سيتحرر لأول مرة منذ مطلع هذا القرن من انفراد أميركا ودولارها بالهيمنة الاقتصادية على العالم.