في الثامنة والربع صباح السادس من آب أغسطس 1945، انفجرت قنبلة من نوع غير معهود. حصل ذلك على بعد 300 متر الى الجنوب الشرقي من ساحة مدينة غير معروفة كثيراً في اليابان، وعلى علو 580 متراً فوق جسر إيوي ومستشفى شيما. حرارة الهواء لحظة الانفجار في هيروشيما بلغت ملايين الدرجات الحرارية، فيما ظهرت كرة من نار. وما هو الا جزء من عشرة آلافٍ من الثانية حتى بلغ محيط الكرة 28 متراً. انها القنبلة الذرية. الغيوم التي صنعها الهواء الاعتباطي الذي أثارته، رفعتها تيارات ريح جارف فانتشرت أفقياً في محيط من كيلومترات عدة، واتخذت شكل الفِطر. لم يستطع أحدٌ أن يقدر بالتمام عدد الضحايا. الرقم المتداول يضعهم بين 280 و290 ألفاً من المدنيين وقرابة 40 ألف عسكري. في الحادية عشرة والدقيقتين قبل ظهر التاسع عشر من آب نفسه، انفجرت قنبلة ثانية على علو 500 متر فوق مدينة يابانية صغيرة هي الأخرى اسمها ناغازاكي. لفحٌ هوائي حارق وحياةٌ تصير، في لحظة، صحراء. أكثر من 70 ألفاً ماتوا للتوّ، ومثلهم أصيب، وأعداد أكبر قضوا في السنوات اللاحقة بسبب التسمم الشعاعي. بعض المناطق أصبح غير صالح لا للسكن ولا للزرع، فيما امّحى 11574 بيتاً ودُمّر بالكامل 1326، وأصيب 5509 بأضرار فادحة. كيف بدأ هذا الحجيم الذي وجّه صفعتيه الأوليين لليابانيين، ولا يزال يهدد العالم بنكبات أخرى؟ تبدأ القصة مع غزو ألمانيا النازية بولندا في 1939. يومها حذّر الفيزيائيان الكبيران ألبرت إينشتاين وليو سزيلارد الحكومة الأميركية من الخطر الذي سيهدد البشرية إذا ما نجح النازيون في انتاج القنبلة الأولى. جاء التحذير في رسالة موجّهة الى الرئيس فرانكلين روزفلت عززتها معلومات العالِمين بأن برلين تجري أبحاثاً نووية وتملك الطاقة الاحتياطية لانتاج القنبلة. والرسالة لم تكن كاذبة، ولا كان الخوف من البربرية النازية في غير محله، إلا أن الحروب تنجح في إخضاع الجميع لمنطقها القاتل، فينتصر المنطق هذا وينهزم الجميع امامه. وفعلاً بادر روزفلت الى تشكيل لجنة خاصة لمتابعة الأمر، فيما باشر الفيزيائي روبرت أوبنهايمر أبحاثه لفصل اليورانيوم - 235 عن اليورانيوم الطبيعي، ولتقدير الحجم المطلوب منه لصنع قنبلة. وفي آب 1942 تعهد الجيش الأميركي المسؤولية عن تنظيم جهود الفيزيائيين الأميركان والبريطانيين في سعيهم الى تسريع الطاقة النووية للاستخدام الحربي، وهو ما بات يُعرف لاحقاً بمشروع مانهاتن. وفي لوس ألاموس، قريباً من سانتا في، أشرف أوبنهايمر شخصياً على المشروع. لم تستغرق النتائج وقتاً طويلاً لتظهر. ففي 16 تموز يوليو 1945 حدث التفجير الاول في ألاموغوردو، في نيو مكسيكو. يومها كانت المانيا استسلمت، غير ان المارد كان قد خرج من القمقم معلناً عن نفسه لعصر مقبل. وفي تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه استقال أوبنهايمر مفجوعاً بهذه العلاقة بين العلم والموت، كما بين العلم والجيوش. فالقنبلة النووية لم تكن لتشهد النور لولا تطور العلوم نفسها، منذ اكتشاف ولهلم روينتغن في 1895 ال X-Rays الى اكتشاف ماري مدام كوري بعد ثلاث سنوات، العناصر الاشعاعية، ومن تطوير اينشتاين في 1905 نظريته عن الطاقة الى اكتشاف جورج فون هافيسي في 1911 استعمالات أخرى لما اكتشفته كوري. وجاءت القفزتان الكبريان عشية ولادة القنبلة مع هيرمان بلومغارت الذي عثر، في 1927، على امكان استخدام الاشعاعيات لعلاج أمراض القلب، ثم مع العالمين الألمانيين أوتو هاهن وفريتز ستراسمان اللذين برهنا على امكانية الدمج والفصل الذريين. وعلى أية حال لم يكن الخراب هو ما حدا بهؤلاء، وآخرهم أوبنهايمر، الى القيام بما قاموا به. لكن اللعبة مزدوجة بالتعريف مثلها مثل التقدم نفسه: بيد تبني وبالأخرى تهدم. هكذا اعتكف اوبنهايمر لتوجه له المكارثية في الخمسينات تهماً بشعة، منها التجسس للسوفيات والعلاقة "المشبوهة" بالشيوعيين، فلم يُصَر الى تنظيف اسمه الا أواسط الستينات. وفي سنواته الأخيرة انصرف الى التأمل والبحث في العلاقة بين العلم والحرب والمجتمع، ليصير رمزاً لاعتراض ضميري انتسب اليه لاحقاً كثيرون، كالروسي السوفياتي أندريه زاخاروف والاسرائيلي موردخاي فانونو. في غضون ذلك كانت الذرة تكسب أرضاً أخرى. ففي قمة بوتسدام، في 24 تموز 1945، وقبل ايام معدودة على ضرب هيروشيما، أخبر الرئيس الأميركي ترومان "حليفه" ستالين بأمر القنبلة الأميركية. اكتفى ستالين باعلان استحسانه آملاً "حُسن استخدامها ضد اليابانيين"، وغيّر الحديث كأنه يتجنّبه، أو كأنه لا يحتاج الى العلم بما يعرفه أصلاً. بيد أن خبث العينين الآسيويتين الصغيرتين الذي نجح الزعيم السوفياتي في الاختباء وراءه، لم تكن تنقصه الارادة الحديدية التي لازمته دائماً. فقد خاف ستالين من تعديل موازين القوى نوعياً، بنتيجة الذرة، في عالم ما بعد الحرب الثانية. وفي ظل العزلة السوفياتية وأوهامها المتضخّمة عن "المؤامرة"، لم يستبعد الكرملين استخدام الغرب "الرأسمالي" هذا السلاح الجديد الفتاك ضد "قلعة الاشتراكية" في العالم. واستمرت أخبار الذرة السوفياتية أشبه بالألغاز الى أن كشفها، بعد تفسخ الاتحاد وسقوط جدار برلين، كتاب "ستالين والقنبلة: الاتحاد السوفياتي والطاقة النووية 1939 - 1956" لديفيد هولواي، منسّق مركز الأمن الدولي وضبط التسلح في جامعة ستانفورد الأميركية. فقد أخبرنا هذا الكتاب، بالعودة الى الأرشيفات العلمية السوفياتية والى ما لا يُحصى من المقابلات مع المعنيين بتلك الفترة، قصةً تتنافس فوائدها المعرفية وإثارتها البوليسية. ذلك أن قبضة من العلماء الروس بدوا قادرين على بلوغ البرامج النووية الأميركية - البريطانية بما فيها سرقة الأسرار، لاجراء تفجيرهم الأول في آب 1949. فقبل ان يسمع ستالين من ترومان ما سمعه، وفي وقت يرقى الى ايلول سبتمبر 1941، كان أحد الجواسيس الروس في لندن قد أخبر موسكو بنيّة الغربيين انتاجَ القنبلة. وتدفقت معلومات رديفة من جاسوس آخر اسمه كلاوس فوخس كان يعمل بنفسه في مشروع مانهاتن بلوس ألاموس. هذه المعلومات قصّرت طريق السوفيات ووفّرت عليهم الكثير من الجهد. لكن ما نقله فوخس ساهم في تهدئة ستالين قليلاً إذ جزم بأن الولاياتالمتحدة لا تملك الا القليل من تلك القنابل. وبقليل من القنابل يُستبعد امكان التهديد السريع لبلد في ضخامة الاتحاد السوفياتي. على أية حال ظهرت القنبلة الروسية وسط توتر بالغ في العلاقة مع واشنطن محوره برلين، وتبين ان عدد الذين عملوا في المشروع، بشتى مستوياته، وبانتظام أقرب الى مؤسسة العبودية منه الى مؤسسات الجيوش، بلغ 460 ألف شخص. وفي سياق التوتر الدولي للحرب الباردة كرّت المواقف المتشنجة تسابق الاجراءات المرعبة. ففي كانون الثاني يناير 1950 أمر ترومان لجنة الطاقة النووية بتطوير قنبلة هيدروجينية، وفي شباط فبراير بدأت الحملة المكارثية، وفي حزيران يونيو غزا الكوريون الشماليون، ومن ورائهم موسكو وبكين، كوريا الجنوبية. ووجد المسار الخمسيني تتويجه في ايلول 1957 حين أجرت الولاياتالمتحدة التجربة النووية الأولى تحت الأرض في نفق جبلي داخل صحراء تبعد 100 ميل عن لاس فيغاس. وبدورها حملت الستينات رياحاً جديدة مع "حركة الحقوق المدنية" في أميركا، والأجواء الشبابية والثقافية المعادية للتسلح النووي، غير ان تحولات الرأي العام على أهميتها ما كان يمكنها أن تنعكس مباشرة على صنع القرار. فالعقد افتُتح بالتوتر في كوبا وكان النزاع موضوعه الصواريخ السوفياتية التي سُحبت من هناك فيما سحبت واشنطن صواريخ نصبتها في تركيا. ومع تعاظم النزاع في فيتنام والشرق الأوسط، أمكن انشاء بعض الضوابط التي ظهرت بدايتها في تشرين الاول 1957، حين شُكلت لجنة الطاقة النووية الدولية لتطوير الاستخدام السلمي للذرة. وفعلاً ففي حزيران 1963 اعتُمد "الخط الساخن" المباشر بين الكرملين والبيت الأبيض، وفي آب وقّعت معاهدة المنع الجزئي للتجارب تحت الماء وفي الفضاء الخارجي، ثم في تموز 1968 وقّعت معاهدة عدم الانتشار التي تجاوز عدد المصدّقين عليها 135 بلداً. واختلطت في السبعينات والثمانينات مياه كثيرة. فمنذ اقرار السلام الفيتنامي في مطالع 1973، أعلنت الولاياتالمتحدة عن تطوير قنبلتها النيوترونية التي تدمّر الحياة دون المنشآت، ثم الغتها في نيسان 1978، وتواجهت الصواريخ السوفياتية والأطلسية فوق برلين فيما ظهرت في الغرب حركة متعاظمة لنزع السلاح النووي. وفي حزيران 1979 وقعت واشنطن مع موسكو على سالت - 2 التي تحد من ترسانة الاثنتين كما تحد من تطوير سلاحيهما وتحديثه. شيء من هذا يوازنه شيء من ذاك لينتهي الأمر بتوازن أعلى انفراجاً من سابقه. الا ان ما تحقق بسالت - 2 عاد لينتكس مع الغزو السوفياتي لأفغانستان في كانون الأول ديسمبر 1979، ومن بعده اعلان الرئيس رونالد ريغان في آذار مارس 1983 خطته لحرب النجوم. لكن القناعة التي كانت ترسّخها التجارب، فضلاً عن النظريات، استبعدت الحرب النووية تماماً: فالعالم ممسوك من قطبيه، يلوّح واحدهما للآخر بالسلاح النووي لا ليستخدمه بل ليردع الخصم عن استخدام سلاحه. وتبعاً للمعادلة هذه بدت أوروبا آمنة، وبدا ما عداها عرضةً لحروب دون - نووية يصار معها الى تنفيس التوتر النووي. بيد أن المعادلة المذكورة، رغم ما تنطوي عليه من قلق متواصل ومشروع، لم تعمّر طويلاً، فاتحةً الباب لقلق أكبر وأكثر مشروعية. ففي نيسان ابريل 1986 كانت كارثة تشيرنوبيل التي دلّت على أن امتلاك الذرة قد لا يضمن صاحبه الا قدر ما يضمن المستَهدَف به! وأبعد من هذا أن الكارثة المذكورة دلّت على الضعف التقني للاتحاد السوفياتي، فيما كانت تنكشف عيوبه الأخرى الاقتصادية والايديولوجية. ومع ميخائيل غورباتشوف الذي اعلن عن طموحه لانهاء التسلح النووي في العام 2000، شرعت تتسارع الاتفاقات النازعة للأسلحة، ما استؤنف بعد تفكك الاتحاد وقيام عهد بوريس يلتسن. لكن السؤال الأكبر الذي طرحه التفكك ذاك، ولا يزال يطرحه: كيف ستُدار آلة الرعب هذه بعد انتهاء القطبية الثنائية؟ فإذا كانت اليابان دفعت ثمن ولادة النظام التالي على الحرب العالمية الثانية، فهل من يابانات مرشحة لأن تدفع أكلاف النظام التالي على الحرب الباردة؟ هنا نصل الى الهند وباكستان، غير اننا قد نصل ايضاً الى الشرق الاوسط!