«فار مكسور»    نفاذ تذاكر "كلاسيكو" الاتحاد والنصر    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    بسبب المخدرات .. نجوم خلف قضبان السجن!    مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يوقع عددًا من مذكرات التفاهم    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «مبادرات التحول الاقتصادي».. تثري سوق العمل    في عهد الرؤية.. المرأة السعودية تأخذ نصيبها من التنمية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    بالله نحسدك على ايش؟!    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    عريس الجخّ    كابوس نيشيمورا !    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    رئيس مجلس أمناء مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يعقد اللقاء السابع عشر    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاماً على حرب 1948 : مرحلة القتال الثانية من 8 إلى 18 تموز 1948 6 من 9
نشر في الحياة يوم 20 - 05 - 1998

شكّل مشروع الوسيط الدولي الكونت بارنادوت الخلفية السياسية والاطار العام لهذه المرحلة من الحرب ولما تلاها من مراحل إلى نهايتها وكان اللباب في مدلولات المشروع الأساسية تثبيت الاعتراف الدولي بوجود الدولة العبرية وإن كان برنادوت اقترح لها حدوداً تختلف عن الحدود التي وردت في قرار التقسيم الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947.
واستند برنادوت في إعادة رسمه لحدود الدولة العبرية الى ما استنبطه من خريطة الواقع العسكري على الأرض كما تجلّى له عند الخطوط الأمامية الفاصلة بين الطرفين المتحاربين فنظر الى الجبهة الشمالية ورأى ان القوات الصهيونية تقدمت من حيفا على الطريق الساحلي شمالاً لتحتل عكا فالناقورة الفلسطينية على الحدود الشمالية مع لبنان وانها حافظت على مواقعها في الجليل الشرقي الممتد من أعلى "الاصبع" الذي يبدأ عند المطلة شمالاً على الحدود اللبنانية ويشمل حوض نهر الأردن جنوباً لغاية الشاطئ الجنوبي من بحيرة طبريا وأنها أي القوات الصهيونية تمكنت من صد هجمات الجيشين العربيين الرئيسية هناك السوري عند سمخ والعراقي عند جسر المجامع فأوصى على رغم رأس الجسر السوري الصغير عند مشمار هايردين وتوغل جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي في الجليل الأوسط عبر المالكية الى الناصرة، أوصى بضم "كل أو جزء" من الجليل الغربي الذي كان يقع ضمن الدولة العربية بموجب قرار التقسيم الى الدولة اليهودية.
ونظر برنادوت الى الجبهة الوسطى فرأى الجيش العربي الأردني مسيطراً على القدس الشرقية بما فيها البلدة القديمة وعلى ضواحيها كما رآه يصد الهجوم تلو الهجوم للقوات الصهيونية عند موقع اللطرون الستراتيجي المتحكم في الطريق من تل أبيب الى القدس فأوصى بضم القدس بكاملها الى الدولة العربية على رغم ان قرار التقسيم كان اخرج القدس وضواحيها من حدود الدولتين العربية واليهودية ليجعل لها نظام وصاية دولياً منفصلاً corpus separatum وعلى رغم علمه ببدء شق الطريق الالتفافية الاسرائيلية جنوب اللطرون.
ونظر برنادوت الى الجبهة الجنوبية فرأى القوات المصرية تنتشر من المجدل شرقاً عبر عراق سويدان فالفالوجا فبيت جبرين فالخليل وأنها بذلك تعزل النقب بمستعمراته اليهودية ال 27 عن سائر المناطق اليهودية شماله فأوصى بضم "كل أو جزء" من النقب الى الدولة العربية على رغم ان النقب كان "يقع" ضمن الدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم.
وكانت مقترحات برنادوت خصوصاً بشأن القدس والنقب على نقيض تام مع ما كان بن غوريون يحلم به ويخطط له وما كان قد قرره بصددهما في الاجتماع مع أركان الجيش وقادة الويته العشرة الذي عقد كما أسلفنا في الحلقة السابقة في 18 حزيران يونيو في الاسبوع الأول من الهدنة وقبل اعلان مشروع برنادوت بتسعة أيام فجعلت بن غوريون أكثر تصميماً وأشد تمسكاً بما نوى عليه. ولم يدرك برنادوت انه باقتراحه تعديل حدود التقسيم انما يفتح بذلك أيضاً "باب الاجتهاد" فسيحاً رحباً للطرف الأقوى اسرائيل وبالفعل ما لبث ممثلها في مجلس الأمن ان صرح ان قرار التقسيم لم يعط اسرائيل سوى الحد الأدنى غير القابل للخفض irreducible minimum من مساحة فلسطين وان القبول به في حينه انما انطوى على تضحيات جمة heavy sacrifices وان الحاجة باتت ماسة الآن لتحسين improvement حدود التقسيم نظراً لتعرض اسرائيل للعدوان العربي. اما جواب اسرائيل "غير الرسمي" على ما اقترحه برنادوت بالنسبة للقدس فكان اغتيال الوسيط الدولي في 16 أيلول سبتمبر التالي في القدس ذاتها كما سيرد لاحقاً.
وفي الساحة العربية زاد مشروع برنادوت ضغثاً على اباله ببعثه لفكرة ضم المناطق العربية في فلسطين الى شرق الأردن ضمن صيغة الوحدة الاقتصادية بين اسرائيل من جهة والدولة العربية المقترحة بما فيها شرق الأردن وهذه المناطق الفلسطينية من جهة أخرى بصرف النظر عن حيثيات فكرة ضم المناطق الفلسطينية العربية الى شرق الأردن موضوعياً فجاءت هذه الفكرة ناهيك عن صيغة الوحدة الاقتصادية لتؤكد لسائر العواصم العربية تأكيداً لا لبس فيه ولا ابهام وجود تدبير مسبق اشتركت عمان فيه للتصرف بالمناطق الفلسطينية العربية بموجبه وهو طالما كانت هذه العواصم تخشاه وتتخوف منه وسعت الى الحيلولة دونه عندما اتفق في نيسان ابريل 1948 في القاهرة الحلقة الثانية ان دخول الجيوش العربية فلسطين "اجراء موقت خال من كل صفة من صفات الاحتلال أو التجزئة لفلسطين وأنه بعد تحريرها تسلم الى أصحابها ليحكموها كما يريدون".
وهكذا اضافة الى الاعتبارات العسكرية التي أسلفنا من فشل تام في ايجاد القيادة العامة العربية الموحدة الى شح متزايد في العتاد بسبب الحظر الى نقص في الأعداد بالنسبة لطول الجبهات وخطوط المواصلات الى تعاظم قوات العدو عدداً وأسلحة ثقيلة وتنظيماً وثقة بالنفس وتصميماً ووضوحاً في أولوياته الهجومية واتجاهاتها الرئيسية استفحلت الشكوك بين العواصم العربية واكتسبت أبعاداً مكثفة مضاعفة شكلت حاجزاً نفسياً منيعاً حال دون الحد الأدنى من التنسيق العملياتي بين جيوشها في المرحلة المقبلة من القتال فماذا كان حصاد كل هذا في ميدان الحرب؟ وهل تطابق مع استنباطات برنادوت من قرائته لخريطة الواقع العسكري على الأرض؟.
الجبهة الشمالية
يذكر القارئ ان بن غوريون لخص في ختام اجتماعه مع القادة العسكريين في 18 حزيران الحلقة الخامسة خطة الهجوم العام المقبلة ومركز ثقله بقوله: "يجب تثبيت الجبهتين في الشمال والجنوب بقدر الامكان واعداد خطة لتحطيم الفيلق Arab Legion أي الجيش العربي الأردني واحتلال نابلس" إلا أنه عاد كما يذكر في يوميات الحرب بتاريخ 4 تموز وادخل بعض التعديل في هذه الخطة حين أصبح احتلال مدينتي اللد والرملة في المرحلة الأولى "وبعدها نتفرغ" كما يقول الى اللطرون تمهيداً لاحتلال رام الله وبعدها نابلس على أن يتزامن مع هذا هجومان في الجبهة الشمالية احدهما باسم عملية بروش Brosh لتصفية رأس الجسر السوري عند مشمار هايردين والثاني باسم عملية ديكيل Dekel لتصفية قوات جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي في الجليل الأوسط التي كانت قاعدتها مدينة الناصرة.
وتضمنت عملية بروش محاولة اقامة جسر على نهر الأردن وعبوره بقوارب وطوافات والصعود الى الجولان لقطع الطريق الى القنيطرة على القوات السورية غربي النهر واستمرت معركة عنيفة ضارية خلال أيام أربعة في 10 و11 و12 و13 تموز فشلت فيها جميع محاولات الجيش الاسرائيلي لاسترداد مشمار هايريدن أو الصعود الى الجولان على رغم ارساله لقلاع طائرة كما يذكر التاريخ الرسمي الخاص به لقصف راس الجسر السوري ويضيف هذا التاريخ وعندما أعلنت الهدنة الثانية 18 تموز "كنا نحتفظ في هذا القطاع بالمواقع نفسها التي كنا نحتفظ بها وقت الهدنة الأولى".
واصابت عملية ديكيل قسطاً أكبر من النجاح ضد قوات القاوقجي فقط. وكان هذا بعد استقراره في الناصرة قد اختار مستعمرة السجرة على بعد حوالي 12 كلم شمال شرقها هدفاً لأول هجوم مركز له في الجليل، وكانت السجرة تشرف على تقاطع استراتيجي لطريقين رئيسيين أولهما الطريق من الناصرة شمالاً الى المالكية فلبنان عبر قرية عيلبون وقرية سعسع وثانيهما الطريق المباشر من العفولة اليهودية وسائر مستعمرات مرج ابن العامر الأوسط الذي يتجه شرقاً عند التقاطع الى طبريا فسائر المستعمرات في الجليل الشرقي.
ومع انتهاء الهدنة بدأ القاوقجي بشن هجمات على السجرة استمرت ثمانية ايام متتالية وكانت قواته تضم إضافة الى وحدات جيش الانقاذ وحدات من المجاهدين المحليين من سكان القرى المجاورة بقيادة القسامي الصلب توفيق ابراهيم أبي ابراهيم الصغير
وكانت قرية الشجرة المقابلة للمستعمرة منطلق هذه الهجمات، ويقول التاريخ الرسمي للجيش الاسرائيلي "ان المعارك دارت وجهاً لوجه عدة مرات احياناً في اليوم الواحد". وان القاوقجي "شن هجوماً تلو الآخر وموجة تلو الأخرى واقتحاماً تلو الآخر". وان يوم 14 تموز لوحده شهد ثماني هجمات كانت أواخرها في الليل غير ان جميعها صدّت وبقيت السجرة في أيد يهودية.
ويذكر ان السجرة كانت موقع استشهاد شاعر فلسطين أبي الطيب عبدالرحيم محمود في 13 تموز وهو القائل:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما ممات يسر الصديق
وإما حياة تغيظ العدا
ويروي المؤرخ عارف العارف ان شهيدنا كان يتمتم قبل ان يلفظ النفس الأخير وهو محمول في محفه على اكتاف أصدقائه:
احملوني احملوني
واحذروا ان تتركوني
وخذوني لا تخافوا
وإذا مت ادفنوني
وتلفت بسالة المهاجمين في السجرة أنظار القيادة العسكرية اليهودية فيدون بن غوريون في يوميات الحرب بتاريخ 16 تموز "في السجرة هدوء، يبدو ان العرب كابدوا خسائر جسيمة يشيدون بشجاعة العرب المحليين وجنود جيش الانقاذ".
استغلت القوات الصهيونية انشغال القاوقجي عند السجرة في الجليل الشرقي للبدء في عملية ديكيل انطلاقاً من شريطها الساحلي في غربه وحاولت في البدء التوغل الى اعالي الجليل الأوسط على الطريق الممتدة من مستعمرة نهاريا على شاطئ البحر شرقاً عبر قرية ترشيما لكنها صدت عند الاخيرة فحولت محور هجومها نحو الناصرة والجليل الأسفل وتقدمت قواتها المدرعة بسرعة منطلقة من قرية شفا عمور على بعد حوالي 15 كلم شرقي حيفا باتجاه الناصرة التي دخلتها في 16 تموز. وفي اثر سقوط الناصرة سقط العديد من القرى في الجليل الأسفل واضطرت قوات جيش الانقاذ والمجاهدين الفلسطينيين الى الانسحاب شمالاً لتحافظ على رقعة أضيق من الجليل الأعلى الأوسط تتاخم الحدود اللبنانية على شكل حرف "U" بالانكليزية، وكانت قرية ترشيحا عند رأس ضلعها الأيسر والمالكية عند رأس الضلع الايمن بينما كانت عيلبون عند قاعدتها ويدوّن بن غوريون في يوميات الحرب بتاريخ 18 تموز "امر موشيه كرمل قائد الجبهة الشمالية صباح أمس اقتلاع جميع سكان الناصرة، قائد اللواء 7 تردد، عندما تلقيت أمس سؤالاً بهذا الشأن من حاييم لاسكوف قائد عملية ديكيل ابرقت على الفور بعدم ابعاد السكان".
لم تقتصر عمليات الجيش الاسرائيلي في هذه المرحلة في الجبهة الشمالية على عمليتي بروش وديكيل بل شملت ايضاً عملية خاصة باسم شوطير ضد ثلاث قرى صامدة تقع على سفوح جبل الكرمل المطلة على البحر جنوب حيفا وهي جبع واجزم وعين الغزال التي عرفت بالمثلث الصغير. ويصف تاريخ جيش اسرائيل الرسمي هذه القرى "بالجريئة والعنيدة". ويضيف انها "لم تصمد فحسب وانما ايضاً واصلت منع حركة مواصلاتنا على الطريق الساحلي وخلال الهدنة الأولى وبعدها أقام سكانها حواجز على عرض الطريق وحفروا فيه حفراً لإغلاقه تماماً. ويحاول الجيش الاسرائيلي بحسب رواية تاريخه الرسمي اقتحام المثلث الصغير في 18 حزيران و8 تموز ويفشل في الهجومين وينظم في 24 تموز حملة ضده قوامها أربع سرايا من لواء غولاني وواحدة من لواء كرملي واثنتان من لواء الكسندروني وسرية مشكلة من خريجي دورة قادة جماعات وعدد من المصفحات ومدافع الميدان ومدافع الهاون والرشاشات المتوسطة، ومع ذلك تفشل هذه القوة في اقتحام المثلث ليلة 24 تموز وكذلك صباح 25 تموز، ولكن مدافع الميدان ومدافع الهاون كما يذكر التاريخ الرسمي "قامت بمهمتها خير قيام فطوال يوم 25 تموز قصفت القرى بشدة وشارك ايضاً سلاح الطيران بتركيز شديد في قصف الأهداف" مما أدى الى سقوط المثلث في 26 تموز.
الجبهة الوسطى
شملت الجبهة الوسطى قطاعين: القطاع العراقي والقطاع الأردني وامتد القطاع العراقي من جسر المجامع شرقاً على نهر الأردن الى جنين شمالاً فطول كرم غرباً حيث انحدر جنوباً الى قلقيلية وانتهى عند رأس العين أقصى طرف له في الجنوب على بعد حوالي 16 كلم شمال اللد. وكانت قصبته نابلس. أما القطاع الأردني فابتدأ عند رأس العين وامتد باتجاه جنوبي الى اللطرون والمسافة الهوائية بينهما حوالي 30 كلم حيث اتجه شرقاً لينتهي في أريحا عبر القدس الشرقية وكانت قصبته الأخيرة.
وكان طول الخط الامامي في القطاع العراقي من جسر المجامع الى رأس عين حوالي 160 كلم، ومع ان العراق كان اضاف في هذه الاثناء لواء ثالثاً معززاً Brigade Group الى قواته في فلسطين إلا ان طول خطه الامامي بدد طاقتها على القيام بعمليات تعرضية على نطاق واسع كما انه كلما زاد العراق قواته في الجبهة كلما زادت أعباؤه السوقية، حيث ان المسافة بين نابلس وبغداد مثلا تزيد عن المسافة بين لندن وبرلين وكانت القوافل العسكرية تحتاج بحسب تقدير رئيس أركان الجيش العراقي صالح صائب الجبوري الى عشرة أيام لكل سفرة ذهاباً إياباً بينهما وكان يحاذي الخط العراقي النظامي الامامي "شريط" سائر يتقدمه من القرى الفلسطينية التي بقيت صامدة الى ذلك الحين شأنها شأن قرى الجليل وكان مجاهدو هذه القرى يشاركون القوات العراقية في اشتباكاتها ضد العدو.
وبالفعل اقتصرت عمليات الجيش العراقي على سلسلة من الاشتباكات المحدودة ضد هذه المستعمرة أو تلك أو الغارات لاسترداد هذه القرية العربية أو ذاك التل من العدو وكان أبرز ما قام به في مطلع هذه الفترة استرداد بعض التلول والقرى شمالي جنين مما ابعد عنها خطر الهجوم المفاجئ ولكنه في الوقت نفسه لم يستطع ان يقدم اي عون يحول دون سقوط الناصرة او المثلث الصغير في الجبهة الشمالية كما انه لم يقدم اي عون الى اللد والرملة كما سيلي. بل انه اضطر عند بدء الهجوم الاسرائيلي على هاتين المدينتين على الانسحاب من اقرب نقطة له منهما: رأس عين.
معلوم في الحروب والمعارك ان اخطر المفاصل في أية جبهة امامية هي خطوط التلاقي البينية داخل كل جبهة بين مناطق او قطاعات كل وحدة من قواتها او كل جيش من جيوشها اذا كانت الجبهة تضم جيوشاً متحالفة ومن اكثر مناهج الهجوم شيوعاً ان يحاول الطرف المهاجم استهداف هذه المفاصل لضعف التنسيق عادة عندها بين الوحدات او القطاعات او الجيوش المعنية وهذا تماماً ما حصل في القطاع الاردني من الجبهة الوسطى عند المفصل بينه وبين القطاع العراقي عند رأس العين.
كان الخط الامامي "العربي" في القطاع الاردني من الجبهة الوسطى يبدأ نظرياً عند رأس العين في الشمال ويتجه جنوباً ليلتف من الغرب حول اللد والرملة ثم يتجه جنوبي الرملة شرقاً الى اللطرون، نقول "نظرياً" لان الخط الفعلي للجيش الاردني لم يكن هذا الخط المتقدم الواقع غربي اللد والرملة ولكنه كان خطاً ممتداً شرقي اللد والرملة ومنتشراً على التلال التي تشرف على القرى ما بين رأس العين واللطرون ومنها مجدل يابا وقوله وطيرة ودير طريف وبيت نبالا وحديثه، وسلبيت فاللطرون، فاذا لم يشمل خط الدفاع الاردني اللد والرملة والقرى الواقعة شرقها فمن كان يدافع عن الخط الامامي "العربي" غربي اللد والرملة؟ الجواب ان الذي كان يدافع عن هذا الخط انما هم اهالي اللد والرملة والقرى المجاورة لها فحسب ويخبرنا الجنرال غلوب انه كان قد اعلم كلاً من الملك عبدالله وتوفيق ابو الهدى رئيس وزرائه قبل انتهاء الانتداب اي قبل 15 ايار ان لا قدرة للجيش الاردني على ان يهبط من التلال عند اللطرون وشمالها الى السهل حيث مدينتا اللد والرملة للدفاع عنهما وان الملك وابو الهدى وافقا على ذلك في حينه وانه اي غلوب كان يتوقع ان يحاول الجيش الاسرائيلي بعد احتلاله اللد والرملة التوغل عند المفصل ما بين جناح الجيش العراقي الايسر وجناح الجيش الاردني الايمن ما بين رأس العين واللطرون للاتلفاف على اللطرون والدخول بعيداً الى وسط فلسطين باتجاه نابلس وضرب الجيش العراقي من الجنوب مما يقتضي بقاء الجيش الاردني على التلال لدرء هذا الخطر الاعظم على الجيشين الاردني والعراقي وهكذا دخلت اللد والرملة وقراهما معركة الحياة او الموت وحيدتين باستثناء سرية اردنية رمزية قوامها 125 جندي وبعض المصفحات ارسلت اليهما.
كان من الطبيعي الا تصمد المقاومة الشعبية في اللد والرملة امام عملية داني DANI التي حشد لها بن غوريون اربعة الوية وكان سقوطهما بين 11 و14 تموز رغم استبسال المدافعين كما سقطت خلال عملية داني 23 قرية مجاورة اهمها رأس العين وبيت نبالا اضافة الى سقوط مطار اللد الدولي الذي كانت المقاومة الشعبية حافظت عليه الى ذلك الحين واقترفت القوات الاسرائيلية مذابح بشرية في اللد قدّر عارف العارف ضحاياها بپ426 شهيداً منهم 176 شهيداً في جامع دهمش لوحده. واخذت القوات الاسرائيلية تطرد اهالي المدينتين وتقول لهم بحسب رواية اسبير منيّر احد ابناء اللد وشهود العين "اذهبوا الى الملك عبدالله الى رام الله" ويصف منيّر احد المشاهد بقوله "صار السكان المطرودون يركضون ويصيحون لا يسألون عن أم او أب او اخت او اخ والرصاص يطلق فوق رؤوسهم وامتلأت المدينة باصوات الاهالي فالنساء يصرخن ويولولن وقد اضعن اطفالهن والاطفال يبكون ويصرخون ويسألون عن آبائهم وامهاتهم". وتدفق سيل بشري على الاقدام عبر طريق وعر طوله 25 كلم باتجاه الخطوط الاردنية في جو حار خانق فمات منهم في الطريق جلهم من العطش والاعياء 335 شخصاً بحسب تقدير عارف العارف، وحرص الجنود الاسرائيليون على سلب النساء ما عليهن من حلى وانتزعوها منهن انتزاعاً عند مخارج المدينتين ثم انصبوا على النهب من آلاف المنازل والمتاجر الخالية من اصحابها بنهم ما بعده نهم وكان عدد المطرودين حوالي 000.70 نصفهم من سكان المدينتين والنصف الآخر من اهالي يافا والقرى المجاورة الذين كانوا نزحوا سابقاً اليهما. وكان الدكتور جورج حبش الطبيب الناشئ اللدّاوي في عداد من شرب هذا الكأس المر في طريقه لاجئاً الى رام الله.
لم يشفع للجيش الاردني انه تمكن من احباط المرحلة التالية من عملية داني: الالتفاف على اللطرون من الشمال عبر المفصل بينها وبين جناح الجيش العراقي الايسر للتوغل باتجاه نابلس لا ولا صموده في اللطرون ذاتها ونجاحه في صد هجوم شرس باسم عملية كيدم Kedem شُن في 16 تموز لاحتلال البلدة القديمة في القدس بيد ان العدو تمكن من توسيع الطريق الالتفافية جنوب اللطرون مما زاد من امكاناته لامداد احياء القدس العبرية واضعف من قبضة الجيش العربي عند اللطرون على خطوط مواصلاته الى الساحل.
اوصل سقوط اللد والرملة والناصرة الوضع الى درك الدرك ولاحت امام الرأي العام العربي طلائع الهزيمة للمرة الاولى منذ بدء الحرب النظامية واجتاحت الجمهور الفلسطيني مشاعر النقمة والغضب وراحوا كما يروي عارف العارف "ينددون بالجيش العربي وبالانكليز الذين بيدهم مقاليد هذا الجيش ينددون بهؤلاء واولئك في السر والجهر في الطرق والاسواق في المنازل والمقاهي كما راحوا ينددون بملوك العرب وامرائهم ورجال جامعتهم وذكروا بهذه المناسبة مصر والعراق اكثر من اي قطر آخر".
وبالواقع اذا كان ثمة مبرر لسقوط طبريا وحيفا ويافا ايام الانتداب الاخيرة بحجة ان البلاد كانت تحت السيادة البريطانية وان الجيوش العربية لم تكن بعد قد عبرت حدود البلاد الدولية فلم يكن من مبرر لما حصل باللد والرملة مثلاً وقد صمدتا لوحدهما بانتظار الفرج طوال شهرين بعد عبور الجيوش النظامية الحدود لتسقطا وجيوش ثلاث دول عربية على قاب قوسين او ادنى منهما؟
الجبهة الجنوبية
تركنا الجيش المصري في هذه الجبهة وقد قرر التوقف عند اسدود وعدم التقدم شمالها كما انه كان قرر الانتشار شرقاً من المجدل جنوبي اسدود عبر عراق سويدان فالفالوجا الى بيت جبرين فالخليل وكان بعمله هذا يعلن ان هدفه انما هو الاحتفاظ بالنقب ومنع ضمه الى اسرائيل وذلك عن طريق عزل المستعمرات اليهودية الواقعة جنوب طريق المجدل - بيت جبرين عن سائر المناطق اليهودية شمالها وكان لتموضع الجيش المصري في الجبهة الجنوبية عند بدء الهدنة الاولى في 11 حزيران اثره في اجتهادات الوسيط الدولي برنادوت الذي اقترح في 27 حزيران كما اسلفنا فيما اقترح ان يضم النقب الى الدولة العربية بموجب قرار التقسيم علماً بأنه كان قد "منح" بموجبه الى الدولة اليهودية.
ويذكر القارئ ان بن غوريون كان قرر يوم اجتماعه مع قادة الجيش الاسرائيلي في 18 حزيران ان يكون مركز ثقل الهجوم القادم عند انتهاء الهدنة في الجبهة الوسطى على ان يتم "تثبيت الجبهتين في الشمال والجنوب قدر الامكان" بيد ان هذا لم يعن بخاصة في ضوء ما اقترحه برنادوت بالنسبة الى النقب الاكتفاء بموقف دفاعي في الجبهة الجنوبية وبناء عليه صدرت الاوامر لشن عمليتين ضد القوات المصرية الاولى باسم ان فار وهي الاحرف الاولى لكلمتي Anti Faruk بالانكليزية والثانية باسم مافيت لبوليش الموت للغازي وكان هدف كليهما احتلال قرى ومواقع شمال طريق المجدل بيت جبرين وجنوبها بالتنسيق بين القوات الاسرائيلية المنتشرة على طرفي هذه الطريق املاً بايجاد ممر يخترقه من الشمال الى الجنوب لفك الحصار الذي ضربه على المستعمرات والقوات الاسرائيلية جنوبه وشنت عملية ان فار ليلة 9 تموز واستمرت لغاية 15 منه بينما شنت عملية مافيت لبوليش في 17 تموز واستمرت لغاية بدء الهدنة الثانية في اليوم التالي وكان الممر الذي حولت ان فار شقه عبثاً يقرب من الطريق الساحلي ويوازيه بينما استهدفت العملية الثانية انشاء خط من الغرب الى الشرق يوازي طريق المجدل بيت جبرين املاً في ايجاد نقطة داخلية ضعيفة فيه تسمح باقتراحه.
وفي الوقت نفسه انتشرت القوات المصرية شرقاً على جانبي طريق المجدل بيت جبرين وجرت معارك عنيفة بين الطرفين في مثلث رأسه اسدود وقاعدته هذه الطريق. وكانت القرى والمواقع تسقط تباعاً احياناً في يد هذا الطرف واحياناً في يد ذاك واشتركت مع القوات المصرية قوات سودانية وسعودية كانت قد وصلت الى الميدان اضافة الى المجاهدين من اهالي القرى. ويذكر ان الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان اركان حرب للكتيبة السادسة جرح في صدره خلال هذه الفترة بالقرب من قرية الصوافير الغربية التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات الى الجنوب الشرقي من اسدود وكانت حصيلة هذه المعارك جميعها قبل بدء الهدنة الثانية في 18 تموز ان نجحت القوات المصرية كما يقول تاريخ الجيش الاسرائيلي الرسمي في "خلق حقائق تلغي منجزات الجيش الاسرائيلي العسكري ونجحوا ايضاً في هذه المرة وبقي طريق النقب مغلقاً".
وبعد فان السمة الاساسية الصارخة لمنهج قتال الجيوش العربية كما انجلت بوضوح تام للعدو في هذه الفترة كانت ان كل جيش منها كان في حرب خاصة منفردة ضده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.