يشعر العائدون الى مدينة رام الله بعد غياب استمر ثلاثة عقود هي عمر الاحتلال الاسرائيلي بحنين الى المدينة التي عرفوها في الخمسينيات والستينيات والتي حلت الأبنية الشاهقة واختناقات السير محل شوارعها المخضرة بالأشجار وقرميد بيوتها الاحمر وان كانت حدائقها ومطاعمها لا زالت تجتذب المصطافين من الشمال والجنوب. وما زالت بؤر قليلة في المدينة تدل العائدين على بعض المعالم التي عرفوها في حينه بينما تغيرت اخرى ولم يعد في الامكان تمييزها. ويبحث العائدون عندما يصلون الى المدينة أول ما يبحثون عن كشك لبيع البوظة ما زال في مكانه على زاوية الشارع الرئيسي، إلا أنه اتسع وكبر وحلت الحداثة محل العمل التقليدي فيه. ويبحثون عن المكتبة العلمية المشهورة في حينه فيجدونها ضائعة في شارع تجاري تغطي الغبار واجهتها ومعظم كتبها بعد ان نجحوا في تمييز لافتتها التي لم تتغير منذ اكثر من ثلاثين سنة ولا زالت تحمل هاتفاً من رقمين رغم ان أرقام الهواتف في رام الله تغيرت مراراً لتصبح من أربعة أرقام ثم ستة و... سبعة الآن. وعبثاً يحاول البعض البحث عن "فندق حرب" في شارع الاذاعة الذي اتخذ اسمه منذ ايام اذاعة الشرق الادنى وعرف بشارع العشاق قبل الاحتلال الاسرائيلي لطابعه الرومانسي وتحول اليوم الى شارع تجاري مزدحم مرصوص بالمراكز التجارية الشاهقة على جانبيه. وهذا الفندق لم يعد أكثر من مبنى مهجور ومهدم في معظمه لا تشهد على عزه سوى حدائقه الكبيرة التي تحولت الى موقف للسيارات. اما فندق "قصر الحمراء" المجاور فبقيت منه لافتته اما المبنى نفسه وقد مرت عليه سنوات تحول فيها الى سكن لطالبات جامعة بيرزيت ثم مكاتب ادارية للجامعة خلال فترات كانت المكاتب الرسمية مغلقة بأمر عسكري. وأصبح الآن معهداً للموسيقى يتبع الجامعة. وعبثاً أيضاً يحاولون البحث عن مطعمهم المفضل "مطعم نعوم" بحديقته المزهرة ومازاته اللبنانية وطبق المسخن التقليدي لدى أهالي رام الله والذي اشتهر به فيجدون ان المكان برمته لم يعد موجوداً وان مركزاً تجارياً حل محله يعلوه مقهى في الطبقة الخامسة، يصطف فيه الشبان لتدخين النارجيلة والاستماع الى أغان مسجلة لنوال الزغبي وكاظم الساهر. أما "فندق غراند" الذي اشتهر بحفلاته الراقصة التي اجتذبت ملوك وامراء من المنطقة فهو مغلق منذ سنوات وترفض صاحبته عايدة عودة فك السلاسل عن أبوابه لعلمها ان أيام الغراند القديمة لن تعود. ذهبت متعة التمشي في شوارع رام الله مساء يوم صيفي حار، فهذه الشوارع ضاقت بالسكان والسيارات التي تضاعفت اعدادها مرات عدة، خصوصاً منذ دخول السلطة الفلسطينية وعودة العائدين وعائلاتهم وسياراتهم. ويقول رئيس بلدية رام الله عيسى زيادة ان رام الله التي يبلغ عدد سكانها 40 ألفاً أصبحت تضيق بسياراتها ال 23 ألفاً وهو ضعفي العدد الذي كان مسجلاً حتى ما قبل خمس سنوات. ويضيف ان تحول رام الله الى مركز سياسي وثقافي ومصرفي وتجاري مع فتح معظم الوزارات الفلسطينية والشركات المقامة حديثا مقراتها فيها، طغى على الجانب الاصطيافي فيها وان كانت مطاعمها وفنادقها انضمت الى هذه الموجة من النمو وأصبحت لا تعد ولا تحصى. وتتحول المدينة خلال النهار الى شبه عاصمة مزدحمة، إذ يجتاحها سكان المحافظة باعتبارها المركز الاقرب مع تعذر الوصول الى القدسالشرقية بسبب سياسة الاغلاق المطبقة منذ العام 1993. ويقدر زيادة ان اكثر من 200 ألف شخص يؤمون رام الله خلال النهار ثم يعودون الى قراهم وبلداتهم المحيطة خلال الليل ما يعني ان شوارع المدينة لم تعد قادرة على استيعاب هذا الكم الهائل من القادمين، خصوصاً في غياب عدد كاف من مواقف السيارات العامة. أما بالنسبة الى أهالي رام الله الأصليين، فإن قدوم السلطة والعائدين أضر بالمدينة بقدر ما نفعها. فقد احضرت السلطة معها قوات شرطة فنظمت السير في وسط المدينة بعد سنوات من الفوضى لم تكن شرطة الاحتلال ولا شبان الانتفاضة من بعدها قادرين على ضبطها. في المقابل، فإن الكم الهائل من العائدين الذي سعى الى الاستقرار في هذه المدينة لانفتاحها أولاً واقترابها من لعب دور العاصمة ثانياً رفع اسعار الشقق وايجاراتها بنسبة لم يعهدها أهلها من قبل. وأمام الطلب الكبير على استئجار الشقق شهدت المدينة حركة عمرانية نشطة سبقت عملية التنظيم فارتفعت بنايات اشبه بناطحات سحاب وسط البيوت الصغيرة التي ميزت جمال رام الله في سابق عهدها. فلم يجد المجلس البلدي الذي عينه رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في صيف العام 1996، إلا أن يوسع حدود المدينة لتشمل 22500 دونم ويمنح الصفة القانونية لكل ما هو مخالف لقوانين التنظيم ويحدد منطقة سكنية جديدة يمنع بناء العمارات المرتفعة فيها لتصبح المنطقة المختارة لرام الله مع دخولها القرن الجديد بدل تلك التي تحولت الى مركز تجاري. وتشهد المنطقة الصناعية على اطراف المدينة مداً متزايداً فمن بؤرة لتجار الاخشاب والحديد بالجملة، أصبحت تلك المنطقة تتحول شيئاً فشيئاً إلى منطقة صناعية حديثة بعد ارتفاع لافتات مصاعد "اوتيس" وسيارات "هونداي" ومشروبات "كوكا كولا" على مبان حديثة التصميم إثر حصول فلسطينيين على وكالات أو امتيازات لتلك الشركات الكبرى التي اعترفت تجاريا على الاقل بانفصال السوق الفلسطيني عن السوق الاسرائيلي واصبحت تتعامل معها كوحدة قائمة بذاتها. إلا أن وصول العائدين جلب معه متنفساً من نوع آخر لأهالي رام الله، إذ تحول ناد للياقة البدنية افتتحه عائدون لينافس نواد تحويها الفنادق الفخمة في القدس الغربية الى حديث المدينة. ففي هذا المكان يجتمع وزراء ومستشارون للرئيس الفلسطيني وصحافيون وشبان وشابات رام الله للتنفيس عن الصغوط التي يفرضها الحصار المفروض على الضفة الغربية منذ خمس سنوات والقيود على التحرك خارج بضعة كيلومترات هي حدود المنطقة أ في أجهزة الحديد بدل التنفيس في وجه بعضهم بعضاً.