في بداية الستينات تحديداً، عرف المشهد النقدي الأدبي العربي الحديث غالي شكري كناقد، من خلال ثلاثة كتب متتابعة - وربما دفعة واحدة - اشارت - ربما بعنف - الى اهمية مشروعه النقدي الوليد: أولها "سلامة موسى وأزمة الضمير العربي" الذي صدر في القاهرة عام 1962، ويعد بمثابة دراسة وافية وشاملة عن مشروع "سلامة موسى" الفكري. وثانيها "ازمة الجنس في القصة العربية" الذي صدر في بيروت عام 1962، وتميز بالجرأة والمقدرة على اقتحام آفاق جديدة وشائكة في النقد الادبي العربي لا يقدر على اقتحامها - في ذلك الوقت - سوى ناقد قوي الحجة والمنطق والارادة والثقافة- إذ أنه حصرٌ جاد وواعٍ لنتاجات كبار مبدعينا آنذاك "نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، محمود البدوي، وغيرهم". اما وثالثها فهو "المنتمي" ويعتبر أول دراسة جادة ومنهجية وكبيرة عن أدب "نجيب محفوظ". وفي عام 1968 ظهر اول اسهاماته - وربما اهمها - في النقد الشعري "شعرنا الحديث.. إلى اين" الذي نشرت فصول منه في مجلة "حوار" اللبنانية، وتعرض فيه لتجارب اقطاب حركة الشعر الحر نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، ادونيس، صلاح عبد الصبور، أحمد عبدالمعطي حجازي، خليل حاوي، بلند الحيدري، انسي الحاج. عن ذلك الكتاب قال الدكتور زكي نجيب محمود: "لا اذكر أنني قرأت كتاباً في الشعر الحديث بعامة، والشعر العربي بخاصة، فيه من سعة النظرة وعمق النظر وفيه من الألف الحميم بين الكتاب وكاتبة والموضوع وباحثه، وفيه من التشريع والتوضيح ما يجلو الغامض ويكشف عن المستور، وفيه من الاضاءة المرشدة الهادية، وفيه من الاحكام ما يستثير الجدل والنقاش والاتفاق والاختلاف، مثل ما في هذا الكتاب "شعرنا الحديث... إلى اين"، على الرغم من أن غالي شكري في هذا الكتاب تعرّض بنقد لاذع لمشروع زكي نجيب محمود النقدي". وقال عنه رياض نجيب الريّس "انه يبقى مرجعاً اساسياً من مراجع الشعر العربي الحديث وعلامة اساسية وحيوية في بناء النقد العربي، ونقد الشعر بالذات، فغالي شكري - الذي لا يمكن أن نتجاهل آراءه السياسية في الشعر - من النقاد الذين فتحوا أكثر من نافذة واحدة على الشعر العربي ونقده". عن تلك الفترة من حياة غالي شكري يقول الروائي خيري شلبي: "كان من الواضح ان لديه مشروعاً نقدياً كبيراً يريد أن يتفرغ له ويستكمله هو مشروع سرعان ما اتضح ونضجت ثماره: الاسهام في رفع مستوى الاداء في الادب العربي، والوصول بالادب العربي الى مستويات تناطح الآداب العالمية، ونشر الكثير من القيم الادبية على الساحة وإشاعة مناخ من التنوير الادبي. ويضيف خيري شلبي قائلاً: "غالي شكري طول عمره مهموم بالأدب العربي في جميع حقوله، يحلم بتطويره وتطوير النقد الادبي، والربط بين اجيال الادب وإنشاء قنوات اتصال بين القديم والجديد، التقليد والحداثة الأصالة والمعاصرة، وتعميق الروابط الادبية بين ادباء الوطن العربي في جميع بقاعة النائية". بعد هذه المداهمة الثلاثية للمشهد النقدي العربي، تلك المداهمة التي كشفت عن ملامح مشروعه النقدي، والفكري تتابعت اسهامات غالي شكري في كتبه التالية: ثورة المعتزل 1968، ادب المقاومة 1970، مذكرات ثقافة تحتضر 1970، معنى المأساة في الرواية العربية 1971، العنقاء الجديدة 1971، ذكريات الجيل الضائع 1972، ثقافتنا بين نعم ولا 1972، التراث والثورة 1973، ماذا يبقى من طه حسين 1974، عرس الدم في لبنان 1975، غادة السمان بلا اجنحة 1977، يوم طويل في حياة قصيرة 1978، الثورة المضادة في مصر 1978، الماركسية والادب 1979، اعترافات الزمن الخائب 1979، دكتاتورية التخلف العربي 1986، اقواس الهزيمة 1989. وبلغت مؤلفاته خمسة وأربعين. عن مشروعه الفكري يقول الدكتور جابر عصفور: "غالي شكري واجه سؤال النهضة من خلال كتابه "اقواس الهزيمة"، وحاول عبره أن يفكك معرفياً العناصر التي تنطوي عليها صيغة النهضة. يقول الناقد إن النهضة قامت ومازالت تقوم على اساس من ثنائية تجمع بين طرفين متعارضين، الأنا مرة والآخر مرة أخرى، الأصالة والمعاصرة، في مرة ثانية، والقديم والجديد في مرة ثالثة، التراث والعلم الحديث مرة رابعة وخامسة او سادسة، هذه الثنائية التي تقوم عليها النهضة بغض النظر عن تغير طرفي الثنائية، هي الموضوع الاساسي لكتاب غالي شكري "اقواس الهزيمة" وهو من هذه الناحية استمرار لاطروحة "غالي" التي نشرها في كتاب "النهضة والسقوط الفكري المصري" وهو يرى باختصار شديد أن صيغة النهضة تحمل في داخلها بذرة للنمو، وفي الوقت نفسه تحمل جرثومة السقوط". لامس غالي شكري السياسة احياناً، واكتوى بنارها احيانا اخرى، ورغم ذلك ظلت صفة الناقد الادبي - دائماً - هي الغالبة عليه. عن ذلك المنحى من حياته يقول الدكتور شكري عياد: "هذه من المتناقضات في سيرة غالي الادبية، مع أنه كاتب ذو قوام فكري واضح يمتد من اوائل ما كتب الى أحدث ما كتب، فهل هو تناقض ظاهري إذن؟ الغريب أنه ليس كذلك، فهناك من التناقضات ما يكاد يستحيل الجمع بينهما، حتى ليوشك المرء ان يصوغ له تعبيراً يناسب هذا التناقض وهو أنه مجموعة تناقضات لا تمس الجوهر، ذلك أن لكل ما لدى غالي من تناقض يعود مرجعه الى عصره، الذي ظل يضغط بثقله الفادح على فكره، فيبرز فيه من النتوءات والالتواءات ما يكاد يغلب على شكله العام. ويضاف الى ذلك اختياره للعمل في وسائل الاعلام الجماهيرية، بدلا من الاعتزال النسبي في صنعة التدريس او العكوف على الادب الخالص،و قد جعله ذلك مكشوفاً لمؤثرات العصر، تلك المؤثرات التي لم ينج منها كبير ولا صغير، وهو بعد ناشئ طريّ العود، فقد كان ميلاده الادبي مصاحباً - لحركة 23 يوليو". وعن جانب من مشروع غالي شكري النقدي يقول الدكتور صبري حافظ: "قدّم غالي أول دراسة من نوعها في تاريخ نقدنا العربي، تطرح بشكل منهجي كيفية معالجة احدي قضايا الحياة الهامة على الصعيد الفني، راصدة شتى طرق معالجة هذه القضية العلاقة الجنسية لدى كتَّابنا العرب، ومحاولة الخروج بنقدنا العربي الى آفاق الاستقلال بكيانه الفكري والفني. ساهم غالي شكري بدراسة طويلة ومهمة في التنظير النقدي لأدب "المقاومة"، تناول فيها الكثير من الاعمال الابداعية الروائية التي تندرج تحت هذا المسمى. عن نظرته في هذا المجال النقدي يقول سامي خشبة: "ادب المقاومة عند غالي هو ذلك الأدب الذي يبرز علاقة الصراع بين الانسان والكون، باعتبار هذا الصراع جزءاً لا يتجزأ من العلاقة الدينامية بين الطرفين، وسواء تجسد الكون الضخم في صورة وحش بحري أو غاز أجنبي، او سلطة طاغية، او قهر اجتماعي عات. ثم أن هذا الادب قد يتسع لكي يعبر عن مضمون انساني عام حين يتجاوز سمات مشكلة قومية بعينها، ويضعنا امام مشكلة من مشاكل الضمير البشري. وأدب المقاومة قد يعبر عن بعد قومي حين تبرز سمات الروح الخاصة لشعب معين وتصبح هي الرمز الذي يحاول العمل الادبي أن يبرزه او القضية التي يدافع عنها. وقد يعبر ادب المقاومة عن بعد اجتماعي حين يدور العمل حول قضية من قضايا التطور الاجتماعي بعينه، هذه هي الحدود النظرية التي حدد بها غالي شكري رؤيته لأدب المقاومة. ناقش غالي شكري بشكل تطبيقي الخصائص الجمالية للتجربة الشعرية في الستينات، حتى أنه يمكن تلمس الروح الرومانسية الحميمة في ابداع الستينات من خلال تعقيباته النقدية التطبيقية على بعض نصوص شعراء هذه المرحلة، كأن يقول: "على الحافة المقدسة بين القلب والعقل يفترش الشاعر ارض الله والناس، ويسقى شعره حلاوه الكشف والحدس والرؤيا برج بابل - ص 169". وعن دوره في التنظير لشعر الحداثة المصري يقول الشاعر امجد ريان: "سعى غالي شكري لتصحيح كيفيات تعاملنا مع الثقافة الغربية ورأى ان الحداثة رؤى ثورية تقتحم السائد في عقر دراه اللغوية والفكرية والاجتماعية، لتعبّر عن اللغة الجديدة والتجربة الجديدة والافق الانساني الجديد". وأضاف: "إن تجربة شعراء السبعينات طرحت قضايا كبرى رصدها غالي شكري في أكثر من موضوع في دراساته، وشرع في اعادة النظر في المسلّمات، واحلال التنوع مكان الثبات". حتى عام 1956 لم يمارس غالي شكري النقد الادبي، وكان معتكفاً على كتابة القصص والاشعار التي ظل بحتفظ بمخطوطاتها طول حياته. عن هذا الجانب المجهول منه يقول حسين حمودة عن روايته "مواويل الليلة الكبيرة" مخطوطة "تستنهض هذه الرواية تجارب وأصواتاً متنوعة، متناغمة ومتعارضة في آن، لعدد كبير من الساسة الأحياء وأيضاً - الاموات ممن صاغوا حركة التاريخ السياسي والثقافي المصري والعربي، أو كانوا ضحايا لهذا التاريخ. فمن شهدي عطية الى غسان كنفاني ومن جمال عبدالناصر الى راشد الخاطر ومن علي فودة الى اسماعيل المهدوي، ومن مصطفى خميس الى امل دنقل، تتحرك الروايات المتعددة داخل هذه الرواية، مستعيرة "خطابات" داخلية لهؤلاء جميعاً، مانحة اياهم مساحات متكافئة تقريباً". لم يقتصر دور غالي شكري في حياتنا الثقافية على اسهاماته النقدية والفكرية والابداعية - رغم اهميتها - فحسب، بل كان له دور ملحوظ في قيادة العمل الثقافي من خلال اشرافه على الكثير من المجلات العامة والمنابر الثقافية المضيئة مثل "الملحق الثقافي الادبي للطليعة"، "الشرارة"، "دراسات ادبية" و"الوطن العربي"، ودعمه المادي والفكري لمجلة "ادب ونقد" وجريدة "الاهالي" وتأييده لما سمّاه "ثورة الماستر" التي أخرجت الكثير من المجلات الثقافية والشعرية المستقلة في السبعينات، ثم مجلة "القاهرة" التي تحولت على يديه الى واحدة من اهم المجلات الثقافية العربية، وظل رئىساً لتحريرها حتى وفاته بعد صراع مع المرض دام عامين. * غاب الناقد المصري غالي شكري عن 63 عاماً نهار السبت 9 أيار مايو وشيّع نهار الأحد في جنازة حضرها جمع من أهل الادب والثقافة والسياسة.