من ناحية مبدئية يعتبر فن الرواية البوليسية فناً انغلو - ساكسونياً بامتياز، لأنه يتطلب من العقلانية ما لا يتوافر إلا في المدينة الحديثة، المدينة العصرية. ومع هذا لم يخل الأمر من كتّاب بوليسيين ظهروا في مجتمعات لاتينية، لا سيما في فرنسا، حيث بلغت الشهرة ببعضهم ان تفوقوا على بعض زملائهم الأنغلو ساكسونيين، ومن هؤلاء غاستون ليرو صاحب "شبح الأوبرا". بالنسبة الى مؤرخي الرواية البوليسية يعتبر غاستون ليرو شخصية اقرب الى الشخصية الروائية منه الى الشخصية الواقعية، بمعنى ان حياته نفسها وتعاطيه مع الحياة كانا في حد ذاتهما رواية. فليرو ولد في باريس في 1972 لأسرة ثرية. وهو كان في العشرين من عمره حين اضحى يتيماً وارثاً فوجد نفسه مالكاً لثروة هائلة، يقدرها البعض بمليون ليرة ذهبية. غير انه ما ان مرّت ستة اشهر على حيازته تلك الثروة حتى اضاعها كلها على موائد القمار. فاضطر اثر ذلك للعودة الى المهنة التي كان قد درسها: المحاماة. وسرعان ما سئم المحاماة فانصرف الى الصحافة وبالتحديد الى الصحافة القضائية حيث راح يحرر اخبار الجرائم. وكان من شأنه ان يبقى صحافياً مغموراً في ذلك المجال لولا انه تمكن ذات يوم من تحقيق "خبطة" صحافية حين كتب، عيانياً، عن اعتقال مركيز تورط في دراما عائلية لطخت سمعة واحدة من أعرق العائلات الفرنسية. وكانت تلك هي البداية الحقيقية لغاستون ليرو. صحيح انه امضى بضع سنوات بعد ذلك محاولاً ان يوجد لنفسه مكانة، غير انه كان خلال تلك السنوات قد اشتد وثوقاً بنفسه وبإمكاناته ككاتب. وهو لئن كان قد فشل في كتابة مسرحيات اولى فانه سرعان ما نجح في كتابة الرواية البوليسية، حيث كان يقول عن نفسه انه بات قادراً على "كتابة ما هو اهم بكثير مما يكتبه آرثر كونان دويل". وهكذا ولدت، بالفعل، رواية "سر الغرفة الصفراء" 1907 - 1908 التي لا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من اشهر وأجمل الروايات البوليسية الفرنسية. قبلها كان ليرو قد كتب رواية اولى بعنوان "حياة ثيوفراست لونغي المزدوجة"، لكنها لم تلفت اليه الانظار، اما "سر الغرفة الصفراء" فكانت ضربة معلم لأنها أيقظت نوعاً روائياً بوليسياً كان قد نسي منذ ادغار آلن بو: الرواية التي تتحدث عن جريمة تدور في مكان مغلق. ومع هذه الرواية ولدت شخصية جوزف جوزفين، الملقب ب"رول تابيل"، وهي شخصية تحرٍ من نوع خاص، سيتولى بطولة الكثير من روايات غاستون ليرو بعد ذلك. حين كتب غاستون ليرو "سر الغرفة الصفراء" كان في التاسعة والثلاثين من عمره، وكان قد بدأ يشعر بأن العمر يتقدم به من دون ان يحقق الكثير من طموحاته. لذلك راح يكتب بدون هوادة، وراح يبتكر الشخصيات والمواقف، وينشر ذلك كله في حلقات مسلسلة كانت ذات شعبية كبيرة في تلك الأحايين. وبدا ذلك النوع من النشر اليومي كأنه يحتّم على الكاتب ان ينهي كل حلقة بشكل غامض يشجع القارئ على العودة غداً للمتابعة، ومن هنا امتلأت روايات غاستون ليرو بتلك المواقف والضربات المتعاقبة التي ميّزت عمله وجعلته، حين ابتدأت العلاقة الجدية بين الأدب البوليسي والسينما، مرغوباً من جانب المخرجين. وفي هذا الصدد لا بد ان نذكر روايته الأشهر "شبح الأوبرا" التي تحولت الى افلام عدة ولا تزال تتحول حتى يومنا هذا. صحيح ان غاستون ليرو، الذي تعتمد رواياته على الحوار في الأصل، قد مات قبل ظهور السينما الناطقة كان موته يوم 15 نيسان - ابريل 1927، ولكنه قيض له مع ذلك ان يشاهد السينمائيين وهم يتدافعون للحصول على حقوق تحويل رواياته الى افلام. وبعد موت ليرو حولت كل رواياته الكبرى الى افلام كما نعلم. المهم ان ليرو كتب "شبح الأوبرا" في 1910، ثم بعد ان اصدر روايات عدة تولى رول تابيل بطولتها، سئم من تلك الشخصية - موقتاً بالطبع - فابتكر شخصية جديدة هي "شيري بيبي" وخصّها برواية اولى هي "الأقفاص العائمة" 1913 وتتحدث عن ثورة سجناء فوق ظهر سفينة حيث كانت الاقفاص تقودهم الى معتقل كايين في اميركا الجنوبية. واللافت هنا ان هذه السلسلة الجديدة من المغامرات لم تعرف المجد الذي عرفته سلسلة مغامرات رول تابيل، خصوصاً أن الحلقة الاخيرة في السلسلة بعنوان "انقلاب شيري بيبي" ظهرت في 1925 لتوجه مديحاً غريباً من نوعه لليمين المتطرف، فيما كان هذا اليمين يحقق انتصاراته في المانيا وايطاليا، ويعيش مجداً في فرنسا. ومن هنا حلت لعنة الديموقراطيين والتقدميين على غاستون ليرو الذي اعتبر، منذ ذلك الحين، كاتباً فاشياً. غير ان ذلك لم ينقص من قيمته ككاتب بوليسي من طراز رفيع، ولكن ايضاً ككاتب للروايات الغرائبية، حيث كان رائداً في هذا الفن، لا سيما من خلال روايته "آلة القتل" 1923 التي تتحدث عن انسان آلي زرع له دماغ بشري. وبسبب هذه الروايات نرى السورياليين يمجدون ليرو ويعتبرونه واحداً منهم، نازعين عنه في وقت لاحق صفة "الفاشي".