في رأس قائمة التحديات التي تواجه اجيالنا المتعاقبة، تقع من دون ريب مسألة التعامل مع عدو مغتصب للوطن ذاته محل وجود حياة المجتمع وديمومته. فتوريث الاجيال المقبلة قضية محو الامية او كهربة الريف، يختلف بالتأكيد عن توريثها وطناً مسلوباً مسكوناً بالاعداء، نزولاً عند اعتبارات تتعلق بموازين القوى الحالية، وعدم استطاعة "هذا الجيل" الوفاء بحق التحرير كاملاً. ولكن كيف يتم التصرف في حال اثبت التحليل الموضوعي لمواهب الجيل الحالي وقدراته وامكاناته والمحددات المختلفة التي تؤطر معالجته لقضية مستقبل الوطن، عجزاً واضحاً عن استكمال مقتضيات التحرير؟ لعل النموذج المعاصر الممثل بجدارة لهذه الحالة هو مسار الصراع الصهيوني العربي، والبعد الاسرائيلي الفلسطيني منه بخاصة. ففي هذا النموذج، نعثر على أكثر من وقفة عربية أمام قضية ادوار الاجيال في مواجهة الخطر الصهيوني. والمدهش أن التناظر بخصوص هذه القضية برز خلال العقود الخمسة الماضية في لحظات الانكسار 1948، 1967 تماماً كما عرفته اوقات الصمود واضاءات المقاومة حرب الاستنزاف، حرب 1973، الانتفاضة، وهو أمر يحتاج الى تقصي اسبابه تفصيلاً. على الصعيد الفلسطيني تحديداً، يجوز القول بأن هذه القضية تقع في بؤرة الجدل الفكري - السياسي المستعر منذ 1993. إن كلا ً من القوى المنغمسة في عملية التسوية والرافضة لهذه العملية، وفق صيغة مدريد - أوسلو وتوابعها، على حد سواء، تدفع، وإن بنسب ومن منطلقات مختلفة، بأهمية دور الجيل المقبل في إطار المواجهة مع الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين. فالمنغمسون يتحدثون على نحو صريح عن عدم إمكان الجيل الحاضر الوصول الى ابدع مما هو كائن، وفق معادلات القوة والتحالفات والاوضاع المحلية الإقليمية والدولية، وهم يذكرون في مجالسهم الخاصة ويهمسون بأن الجيل أو الاجيال اللاحقة قد يكون له أو لها رأي آخر في زمن له معادلاته الأخرى.والرافضون يشيرون بدورهم الى دور الأبناء والاحفاد في استئناف النضال، إن كان الجيل الحالي قد آنس في نفسه وهناً أو قصوراً عن اداء المهمة بسبب معطيات المرحلة الراهنة. ويقع ضمن آيات هذا التكييف ما طرحته حركة "حماس" من إمكان ابرام هدنة موقتة مع اسرائيل. لقد ذكر زعيم الحركة الشيخ أحمد ياسين حرفياً: "قلت للاسرائيليين أنا مستعد أن اتوقف عن محاربتكم في مقابل هدنة لسنوات عدة وليس صلحاً، بغرض وقف نزيف الدم لفترة من الزمن، ثم بعد ذلك يحمل الراية الجيل التالي من الشعب الفلسطيني ليقرر التاريخ المقبل". ومن المفهوم أن هذا الطرح مقبول لدى شطر واسع من معارضي صيغة التسوية المتفاعلة ويدخل في هواجسهم الحالية تجاه المستقبل. لعل مما يستبصر من هذا التوافق الظاهري بين الفريقين، نزوعهما الى عدم الاقتناع بصحة مسار التسوية بمضامينها الجارية ومنتجاتها قياساً بالأهداف الاساسية للطرف الفلسطيني والعربي او حتى الاسلامي، وامتداد أنظارهما الى الغد، وما قد ينطوي عليه من احتمالات لتوفير معطيات افضل من المتاح اليوم لهذا الجيل. غير أن منطلقات الطرح تختلف بشدة على ضفتي هذا التناظر، وهو ما يستشف من تفصيلات رؤية الفريقين للحدود التي يجب أن يتوقف عندها اداء الجيل الحالي، سواء تعلق هذا الاداء بعملية التسوية، او بالاتجاه الى الهدنة. إذ أن العاكفين على التسوية، متهمون عند خصومهم، بأنهم يقومون بتمرير تسوية من شأنها تقديم تنازلات بنيوية للعدو، تقتطع بشكل جذري من حقوق الشعب الفلسطيني الامة العربية والاسلامية! تنازلات سوف تقطع الطريق على فاعلية الجيل التالي الذي سيجد نفسه مكبلاً بواقع محبط يصعب عليه الفكاك من إساره. بتعبيرات اخرى، يدفع خصوم التسوية بأن ما يجري الآن، ليس من شأنه تسهيل مهمة الجيل المقبل، بل هو عمل استراتيجي سيكون معوقاً جوهرياً لأي تحرك ايجابي من جانب الابناء والاحفاد، عمل يترك للاحقين ينابيع جافة، وأرضاً مواتا يصعب عليهم تماماً البناء عليها. ويمثل هذا التوجه قمة الاستهتار بحقوق الجيلين الحالي والمقبل، ويمضي هؤلاء الى أن الحديث عن تسليم المسؤولية للجيل التالي، تأسيساً على منتجات تسوية معيبة كلياً، لا يراد به إلا تنصل جيل التسوية الحالي من عبء النضال والاتجاه الى الدعة، بما يصادر ميراث الاحفاد في الوطن لمصلحة جيل قائم شعر بالتعب فآثر الترجل بثمن قليل. ما العمل إذن؟ من وجهة نظر المعارضين، قد يكمن حل إشكالية عدم مواتاة المرحلة لتحقيق الاهداف كاملة، ليس في التعجيل بقبول التسوية المعيبة هيكلياً، وإنما في بذل جهد حقيقي من هذا الجيل، يبغي في الحد الادنى عدم إغلاق باب فرص استكمال الجيل المقبل لفروض النضال. ومن المرجح أن هذا التفسير للعلاقة بين الاجيال والتأمل في دور كل جيل، هو الذي يقوم بدور المرجعية الفكرية السياسية لطرح خيار الهدنة الموقوتة. والحق أن تصوراً كهذا يبدو وكأنه متسق منطقياً، ولعله يحظى عند البعض بصدقية كبيرة. وحين نعرض الخبرات العربية - الفلسطينية الموازية، لتحري الكيفية التي واجهت بها اجيال سابقة السؤال المعضلة وكيف تصرفت في لحظات الاختيار الحاسمة المشابهة، نجد أن الاتجاه الراجح كان من نصيب هذا التصور: ترك الباب موارباً أمام امكانات الجيل المقبل وإن جاء ذلك على حساب مزيد من معاناة الجيل القائم. حدث هذا الامر، مع تباينات نسبية، اثناء مرحلة الانتداب البريطاني في الحالة الفلسطينية، وكذلك غداة نكبة 1948، وحدث بالطبع في خبرات الشعوب الاخرى التي رفضت تسويات معينة مع مستعمريها حين استشعرت خطرها الجذري على طموحاتها الوطنية، بينما قبلت تسويات اخرى رأت فيها خطوة تتلوها خطوات على طريق تحقيق تلك الطموحات. مع ذلك، فإنه يمكن للبعض الاتكاء على جانب من هذه الخبرات لمنازلة التصور المذكور. ففي الحالة الفلسطينية بالذات، يدعونا للتدبر المعمق أن تأجيل التسوية النهائية الى ما بعد "جولات الجيل المقبل مع العدو"، قاد الى خسائر مضافة على صعيد القضية الوطنية الأم. ويبدو أن انصار التسوية الجارية يعمدون الى إثارة هذه الخاصة الظاهرة المؤلمة. ومن ثم، قد يدور في خُلد هؤلاء ان الاستدراك بتسوية غير مناسبة الآن، في حياتهم، ربما درأ عن الخلف الوقوع في شراك تسوية اكثر عيباً وسوءاً. ورب قائل منهم بأنهم يقومون الآن بحصاد نظرية الآباء والاجداد حول ادوار الاجيال التي اورثتهم واقعاً مريراً، وما عليهم، أي على انصار التسوية، الا التوقف عند هذا الحد، وتحصيل ما يمكن تحصيله. وفي حقيقة الامر، يثير هذا التحليل الاخير، اكثر من سؤال بما يعقد القضية، منها مثلا: ما الذي منع الآباء والاجداد من التعاطي بمثل هذه العقلية مع القضية الوطنية في جيلهم، غير التحسب من لعنة سابقيهم ولاحقيهم بسبب ميراث ساهموا في ضياعه وعدم ثقة في إمكان دوران الزمن لمصلحة الاجيال اللاحقة، كما يحدث الآن بالضبط؟