الكتاب: "سيرة النبي محمد" المؤلفة: كارين ارمسترونغ ترجمة: فاطمة نصر ومحمد عناني الناشر: سلسلة سطور - القاهرة - 1998 الكتابات الغربية التي تناولت الإسلام بالدراسة والبحث، منها التي كانت موضوعية وعكست بصدق ما يحتويه الإسلام كدين بغض النظر عن أسلوب تناولها وقناعاتها المسبقة. ومنها أخرى أعطت صورة غير واقعية وغير حقيقية عن الاسلام، سواء تلك التي تناولت القرآن أو السيرة النبوية أو غيرهما من المسائل المتعلقة بالدين عموماً. وفي المجموعة الاولى نجد ما قامت به الباحثة الانكليزية كارين ارمسترونغ في كتابها "سيرة النبي محمد" الذي ألفته لاعتقادها - كما تقول في المقدمة - أن الدين أصبح من جديد قوة يحسب لها ونحن نقترب من نهاية القرن الجاري. أو كما تلمح في موضع آخر: "القرب من العالم الإسلامي ظهر في حرب الخليج الثانية". وكتاب كارين ارمسترونغ يشمل درجة عالية من أسلوب التخاطب لاقتناعها أولاً بما يطرحه الإسلام ومحاولة إقناع الآخرين به. وهو الاسلوب الحضاري نفسه الذي نجد له تأصيلاً واضحاً في كتابات مالك بن نبي. غير أنها ذات تجربة خاصة إذ عاشت جانباً من حياتها راهبة، ولإيمانها بأن الرسالات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية تحمل رسالة الحب والعدالة والسعادة، فقد إهتمت بها وكرست جانباً من حياتها للدراسة المستنيرة والبحث الدؤوب، كما أشار إلى ذلك المترجمان. ومع أن الكتاب يحتوي على عشرة فصول مترابطة بدرجة ترابط حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الذي أوقفنا كثيراً هو الفصل الأول لا لأنه البداية، وإنما لكونه يعرض تلك النظرة الغربية الضيقة التي اختصرت الرسول في العدو، كما هو معنون بذلك. وترجع الكاتبة السبب إلى كون الغرب لم يواجه تحدياً مستمراً من دولة أو من فكر منهجي يوازي التحدي الذي واجهه من الإسلام. ولتلك العداوة جذورها التاريخية منذ وجود المسلمين في الاندلس. وإذا كان هذا الطابع العام يعد مقبولاً من طرف العامة لتأثرهم بالمناخ الإعلامي السائد لعقود من الزمن، فإن ما قام به علماء الغرب في مهاجمتهم للإسلام على رغم ادعائهم اتباع الأسلوب العلمي يعتبر محل استفهام وإثارة للدهشة. خصوصاً تحريفهم لإسم محمد وتحويله "ماهوميت" واعتباره "بعبعاً" يخيف الناس في أوروبا، واستعمال هذه اللفظة من طرف الأمهات في أوروبا لتخويف أطفالهن العاصين ص18. أهمية الكتاب تكمن في العودة إلى المراجع التاريخية واستعمال المنهج والمقارنة والمتابعة للاستنتاج في نهاية المطاف بأنه لا بد من التمييز بين الاسلام والمسلمين. فالإسلام بالنسبة الى الكاتبة دين عالمي ولا يتصف بأي سمات عدوانية شرقية أو معادية للغرب، في حين أن المتطرفين الإسلاميين الذين اعتقد الغرب بأنهم يمثلون دينهم ليسوا كذلك بالفعل. وفي نظرها أن الانفجار السكاني هو السبب في ظهور النزعات المتطرفة في العالم الإسلامي تجاه الغرب خصوصاً أن معظم اولئك السكان شباب، وبالتالي فإن صورة الإسلام الأصولية والحلول التي تتضمنها تلك الصورة التي تتسم بالتطرف ولا ترى درجات بين اللونين الابيض والاسود هي صورة تمليها عقيدة الشباب ص 18. وتعرضت الكاتبة للكثير من المواقف المعاصرة، من ذلك الفتوى التي أصدرتها ايران ضد سلمان رشدي ومسألة ختان المرأة... وغير ذلك من الأمور. وأعطت رؤيتها المعاكسة لرؤى كثير من الكتاب الغربيين في الإسلام، ووصلت إلى النتيجة التالية: "أن التفسير الإسلامي لعقيدة التوحيد يتميز بعبقرية خاصة، وعلينا أن نتعلم منه أموراً مهمة. ولقد تزايد وعيي بهذه الحقيقة وبصورة مضطردة منذ أن بدأت أتعرفُ على الإسلام، وكان أول ما نبهني الى أن التقاليد الإسلامية يمكن أن تخاطبني فتلقى مني آذاناً صاغية، رحلة قمت بها الى مدينة سمرقند في اثناء عطلة من العطلات إذ رأيت أن العمارة الإسلامية تنطق بروحانية حافلة بأصداء الكاثوليكية التي كنت أدين بها يوماً ما". ليس هذا فقط، بل إن الكاتبة تحدد رؤيتها الى الإسلام من خلال مطالعتها للصوفية إذ اكتشفت ان الصوفيين المسلمين يحملون تقديراً خاصاً للأديان، وهو ما لم تعثر عليه - كما قالت - قطعاً في المسيحية. وكان ذلك بمثابة الطعن لكل ما كانت تعرفه ظناً عن الإسلام وتسلم به من دون مناقشة على حد قولها، بل إنها نتيجة لذلك تقول: "ووجدتني متعطشة لمعرفة المزيد، وأخيراً حدث أن إهتديت الى سيرة محمد والى القرآن الكتاب المنزل الذي أتى به الى العرب، أثناء دراستي للحروب الصليبية والصراع الدائر في الشرق الأوسط. ولم أعد الآن من المؤمنين بالمسيحية أو الممارسين لشعائرها، بل لا أنتمي رسمياً إلى أي دين، لكنني عكفت على مراجعة أفكاري عن الإسلام". هكذا إذن اتخذت ارمسترونغ موقفاً واضحاً معتمدة في ذلك على البحث العلمي. وطرحها السابق نجد ما يشابهه في كتابات روجيه غارودي إذ يأتي دخوله في الإسلام لكون هذا الأخير يؤمن بالديانات السماوية السابقة له. في حين لا تقوم اليهودية والمسيحية على الايمان بما سبقهما، أو الاعتراف بما بعدهما. عموماً فإن الكاتبة جاءت إلى الإسلام باحثة، وكشفت لنا عن الرأي الآخر في الغرب الذي لا يصادر الحقيقة ولا يحاصرها بل على العكس من ذلك مستعد للتضحية من أجلها، وإن كانت وقعت في بعض المطبات من ذلك مثلاً قولها في الفصل الثاني إن محمد بن عبدالله اعتاد وزوجته وعائلته الانتجاع في غار حراء في وادي مكة في خلوة روحانية، وكانت تلك الخلوة من الممارسات الشائعة في بلاد العرب في ذلك الوقت ص17. وحسب علمنا فان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته لم يكن يختلي في غار حراء مع زوجته بل كان يعتكف منفرداً. وأيضاً قولها إن الدول الاسلامية كافة لا توافق على فتوى الإمام الخميني التي أصدرها ضد سلمان رشدي. غير أن هذه وغيرها لا تقلل من أهمية الكتاب الذي يطرح من خلال فصوله العشرة القضايا التالية: 1- أن هناك صوتاً في الغرب، وربما أصواتاً ليس من الضرورة أن تكون مسلمة ولكنها على استعداد لأن تكشف عمق الدين الإسلامي وصلاحيته. بل وعلى استعداد لأن تحارب فكرياً من أجل كشف خلفيات العداء الغربي للإسلام. 2- أن النتائج التي وصلت إليها الباحثة تعكس اهتمامها بتأريخية الأحداث، وعدم الكلام في العموميات، واتباع المنهج العلمي. وهو أسلوب غير جديد، لكنه يؤكد لنا مجدداً أهمية المتابعة والبحث لدى الكتاب الغربيين. 3- المراجع التي اعتمدت عليها الكاتبة هي المراجع نفسها التي طالما اعتمدنا عليها في بحوثنا، لكن بما أن الكاتبة غير مشبعة بروح الاختلاف السائدة بين المسلمين جاءت نتائجها جد ايجابية ولمصلحة الإسلام. 4- ان العداء بين الغرب والعالم الإسلامي يعود في أساسه الى زمن الزهو والانتصارات في العالم الاسلامي، حيث التقدم الحضاري والرقي العلمي وبالذات في الاندلس. إن القضايا السابقة وغيرها من القضايا الأخرى التي لا يسع المجال لذكرها يعود فيها الفضل الى الكاتبة التي أرادت أن تبصر مجتمعها، وأيضاً يعود الفضل فيها الى المترجمين الدكتورة فاطمة نصر والدكتور محمد عناني اللذين أثريا المكتبة العربية بمؤلف صدر منذ العام 1992، لكن ترجمته جاءت في الوقت المناسب حيث التداخل القائم بين ضيق فكر بعض المسلمين ورحابة الدين، وبين نصاعة صورة الدين وضبابية الرؤية لدى الداعين الى تهديم الآخر من منطلق الكفر والايمان وهم في ذلك لا يختلفون عن الكتاب الغربيين الذين يعادون الإسلام من دون دراية أو بغرض التعتيم على الحقائق. لقد عمل المترجمان على تطويع الأفكار الغربية في قوالب اللغة العربية حتى بدت تلك الأفكار بصورتها العربية ترجمة ناطقة بعمق الفكر الغربي على رغم الاختلاف الأسلوبي بين اللغتين، وهما بذلك جعلا الكتاب أكثر جاذبية للقراءة وعرّفانا على صورة الإسلام ممثلة في "النبي محمد" لدى الغربيين، وصورتنا نحن المسلمين بجوانبها النورانية والمظلمة. لقد جاءت الترجمة في وقت نحن في أمسّ الحاجة إليها. وظهرت فيها شخصية المترجم لكنها لم تطمس عمق أفكار الكاتبة، وتلك في رأيي هي الترجمة التي نحتاج إليها في عالمنا العربي. وقد تكون قراءتنا متأخرة لهذا الكتاب، لكن تظل مفيدة ما دمنا لا نشكل الحقل العالمي للثقافة وحدنا، ونحتاج في ذلك دائماً إلى رؤى الآخرين.