للمرء ان يسمع، عبر مئات الأميال، نواح النواحين وندب النادبين. ذلك ان دعاة الحرب، خصوصاً الحرب على العرب، بدأوا يستفيقون الآن من الصدمة ويفهمون أنهم هذه المرة لن يشبعوا شهوتهم لرؤية القنابل وهي تنهمر من جديد على العراق. ها هو تشارلز كراوتهامر يزعق في مقالته المعنونة "السلام في وقتنا، مرة اخرى!"، مقارناً الاتفاق الذي توصل الىه كوفي أنان مع بغداد ب"سلام ميونيخ" الكاذب عشية الحرب العالمية الثانية، ويستهزىء من بيل كلينتون باعتباره نيفيل تشمبرلين الجديد، ازاء هتلر الجديد صدام حسين. أما وليام كريستول وروبرت كاغان فيلقيان موعظة تؤكد ان "احتواء صدام حسين وهم" ويدعوان بدل ذلك الى سياسة "الصدّ" أو "استراتيجية عسكرية سياسية جدية لازالة صدام حسين ونظامه". هل سمعنا هذا الكلام من قبل؟ انها بالطبع التعابير نفسها التي استخدمتها أميركا عندما كانت تشن الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي. أما الآن بعد زوال ذلك العدو فأن مروّجي الحروب، بكل بساطة، استعاروا هذه المركبة الأيديولوجية المهترئة واوقفوها امام أول مكان مناسب. المرجح في واشنطن ان مرحلة النقاهة من حمى الحرب ستكون مثيرة للاهتمام. ويواجه كلينتون، من دون حرب خارجية يستطيع تعبئة الأميركيين حولها، عودة فضائحه الجنسية الى الأضواء. وفي اجتماع عقده أخيراً قادة الحزب الجمهوري في ولاية مسيسيبي للنظر في المرشح المناسب للمعركة الرئاسية في 2000، سخر المتكلمان الرئيسيان دان كويل وستيف فوربز من كلينتون ل"انهياره" امام صدام حسين من جهة وافتقاره على الصعيد الشخصي الى "مكارم الأخلاق" من الثانية. وقال نائب الرئيس السابق كويل ان أميركا "بحاجة الى رئيس يخصص كل وقته للعمل" في اشارة الى ان كلينتون قضى الكثير من الشهور الأخيرة في معالجة الأزمة التي اثارتها فضائحه الجنسية على حساب ممارسة دوره القيادي المفترض في الأزمة مع العراق. انه انتقاد مبرر. فكما لاحظتُ من قبل، قامت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت بالدور القيادي في الأزمة، يساعدها في ذلك بدل مساعدة الرئيس وزير الدفاع وليام كوهين ورئيس مجلس الأمن الوطني ساندي بيرغر وسفير واشنطن الى الأممالمتحدة بيل ريتشاردسون. ولوحظ ان الخطاب الوحيد الذي القاه الرئيس عشية بلوغ الأزمة ذروتها كان ضعيفاً ومفتقراً الى التماسك. ووقع عبء ادارة الأزمة سياسياً وتنفيذياً على عاتق وزيرة الخارجية، ويمكن القول ان اداءها في "الاجتماع البلدي" في أوهايو لمناقشة الأزمة كان كارثياً. هل يتوقع ان تنحسر شعبية وزيرة الخارجية بعد التراجع عن ضرب العراق؟ هذا هو المرجح، لكن ليس بدرجة الانحسار المتوقعة لشعبية الرئيس. واذا كان من الصحيح، كما بيّن اجتماع أوهايو، ان موقف الكثيرين من الأميركيين كان اللا مبالاة ازاء احتمال ضرب العراق او القلق من خط الادارة، فإن الرأي السائد في أوساط النخبة السياسية يبقى على عدائه للعرب ويتخذ موقفاً بالغ التشكك وحتى العداء للاتفاق الذي توصل اليه كوفي أنان. ان النخبة هذه، المكونة من أعضاء الكونغرس وكبار الاعلامين وممولي الحزبين، هي بالتالي من يقرر مصير رئاسة كلينتون. النتيجة الأولى: يجب عدم توقع قيام الرئيس خلال الفترة المقبلة بأي خطوة تزيد من سخط النخبة. والمؤكد ان من بين ما يعنيه هذا عدم التحرك البنّاء والفاعل ازاء عملية السلام. يمكن اعتبار جاك كيمب، الذي كان مرشحاً ليكون نائب الرئيس مع جورج بوش في انتخابات 1996، الاستثناء المرموق الوحيد لهستيريا العداء للعرب التي تسيطر على قيادة الحزب الجمهوري. أما البقية - من رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ ترينت لوت، الى رئيس مجلس النواب نيوت غينغريتش، الى المتكلمين الرئيسيين في اجتماع مسيسيبي - فتستمر في الدعوة الى اجراءات قوية ضد العرب فيما تمجد كل خطوة أو تصريح من بنيامين نتانياهو. يشكل هذا بالطبع تغيراً عميقاً في طبيعة السياسات الرئاسية الأميركية كما كانت عليه قبل فترة، عندما كان الجمهوريون أقل ممالأة لاسرائيل بكثير من الديموقراطيين ربما احياناً لأسباب مشبوهة، مثل اللاسامية. وهناك عدد من الدوافع وراء التغيير. منها صعود القيادات اليمينية الاسرائيلية الى السلطة، بمواقف من القضايا الاجتماعية والاقتصادية تقترب الى حد كبير من مواقف الجمهوريين، وذلك بدل الايديولوجية "الاشتراكية" المائعة التي كانت تنادي بها حكومات حزب العمل. كما يتخذ نتانياهو خطاً انتقامياً متشدداً من المعارضين والجيران، يحاكي الطريقة التي يرغب فيها بعض الجمهوريين في التعامل مع كل الأجانب. المهم ايضاً أن غالبية الجمهوريين بدأ تدرك الفائدة من مصادقة الأميركيين اليهود من ممولي الحملات السياسية. هكذا فقد كان جاك كيمب يوجه كلامه الى هذه الفئات عندما قال في 23 من الشهر الماضي أن ل"العالم العربي بأسره والعالم الاسلامي كله الذي يضم 1.4 بليون نسمة" آراءه في الأزمة مع العراق، وربما كان على الادارة الاميركية أن تضع هذه الآراء في الحساب. علينا ان نشير، في سياق الكلام عن ممولي الحملات، عن الموت المبكر لآخر محاولة لتقوية قوانين السيطرة على الوضع الفالت الحالي، الذي يفتح المجال أمام شراء النفوذ السياسي. قام بالمحاولة عضوا مجلس الشيوخ الجمهوري جون ماكّين والديموقراطي راسل فاينغولد، اللذان قدما مشروع قانون لا يلغي النظام الحالي بقدر ما يقدم بعض الضوابط على ما يسمى تبرعات "المال السهل". لكن المشروع لقي معارضة اجماعية تقريباً من اعضاء الكونغرس الجمهوريين على رأسهم رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ السناتور لوت. مع ذلك حصل المشروع أولاً على غالبية 51 صوتاً من الأصوات المئة التي يتكون منها مجلس الشيوخ، لكنه فشل في الحصول على ال60 صوتاً اللازمة للتغلب على اسلوب "فيليبستر" البرلماني الذي استعمله لوت ضده، أي أسلوب الكلمة المفتوحة في المجلس التي لا يحق لرئيس الجلسة وقفها وتحول بالتالي دون مناقشة المشروع. من المستبعد بعد موت مشروع قانون ماكين وفاينغولد ان نرى محاولة جديدة في هذا المجال قبل انتخابات 2000. أي ان للرئيس كلينتون ان يستمر في تمتعه بالحفلات الفخمة لجمع التبرعات حيث يلتقي اصحابه الاغنياء. كلمة عن اجتماع أوهايو. هل تذكرون جون سترينج، ذلك المعلم والمواطن العادي الذي طرح على اولبرايت السؤال الصعب الأول عن ازدواجية معايير الادارة في التعامل مع صدام حسين من جهة وأنظمة القمع الأخرى في العالم، من ضمنها اسرائيل؟ وهل تذكرون كيف "أستذت" عليه اولبرايت عتدما قالت ان هذه قضايا معقدة، وباستطاعتها اعطاءه محاضرة من خمسين دقيقة بعد نهاية الاجتماع لكي يفهم الموضوع؟ المهم ان سترينج اخذ كلامها مأخذ الجد وذهب فورا بعد الاجتماع ليطلب المحاضرة، فقال له مرافقو اولبرايت انها غادرت المدينة! انه الموقف "الرسمي" الآن! خلال مرحلة سابقة من سياسة واشنطن تجاه الصراع العربي الاسرائيلي ألف احدهم كتاباً بعنوان "عملية سلام". ويصدر الشهر المقبل كتاب آخر عن الموضوع ألفه يوري سافير، الذي شارك في مفاوضات اسحق رابين وشمعون بيريز مع الفلسطينيين والسوريين. عنوان الكتاب؟ "العملية". الفرق بين العنوانين يوضح تماماً ما وصلنا اليه. انها الحضارة الغربية التي اتحفت العالم ب"البيتزا الخالية من الدهن" تقدم الآن اختراعها الجديد: "عملية السلام" الخالية تماماً من "السلام"! مع ذلك قد نجد في كتاب سافير ما يثير الاهتمام...