لأسباب عدة، وتاريخية حصراً، أحرز المفكر المغربي موقعاً ريادياً في مجال النظريات السياسية وحول الدولة الخاصة. وهذا يعبر عنه العطاء الضخم والمفعم بالخصب والحيوية والهم الكوني الذي ساهم فيه، وكل بطريقته، عدد كبير من المفكرين الأوروبيين من العصرين الكلاسيكي والحديث ليس أفلاطون وأرسطو وميكافيلي واراسم اراسموس وتوماس مور وسبينوزا وهوبز ولوك ومونتسكيو وفولتير وروسو وكانت وهيغل وماركس الا الأشهر بينهم. ولا نقصد ان الفكر الشرقي ظل عاقراً أو قاصراً أو محلياً على الدوام. فهذا الأخير، في مجال الفكر السياسي أيضاً، كان متقدماً وخلاقاً هو الأخر في بعض الفترات على الأقل. وعلى العموم يظل الفكر الاغريقي مديناً بالكثير للفكر الشرق أوسطي القديم والبابلي منه خاصة فيما استفاد الفكر السياسي الأوروبي اللاحق بشكل مباشر أحياناً من مفكرين شرقيين كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون وسواهم كما هو ثابت الآن. انما نقصد ان الفكر الأوروبي نجح في لعب دور مباشر وحاسم في بلورة أو رسم أو توجيه صيرورة الحياة الفعلية للدول والمجتمعات الأوروبية وحتى لغير الأوروبية بل للعالم ككل، وهذا الشيء مستمر حتى الآن بينما، في الشرق، ظلت "المدينة الفاضلة" للفارابي مجرد مخطوطة يقرأها الغبار، ونسيت "مقدمة" ابن خلدون لخمسة قرون تماماً قبل ان ينبهنا الغربيون الى وجودها قبل بضع سنوات. بيد ان الفكر السياسي الغربي لم يكن عبقرياً كله كما لم يكن عسلاً الا نادراً خارج القارة الأوروبية العتيقة. وهذا الاستنتاج ينطبق على مرحلته "الواقعية" كلها والتي، منذ ارسطو لحد الآن، تميزت جوهرياً بتطليق سماء الكليات والهبوط الى جزئياته الأرضية نهائياً، كما لو ان تخلي المفكر المغربي عن التجريد أكثر فأكثر قاده بالضرورة الى التخلي ليس فقط عن حلمه الأول بالسمو وجودياً أو ميتافيزيقيا، انما التخلي ايضاً، وهذا بحد ذاته كارثة، عن مطلقية انتمائه الأرضي والتصاغر أكثر فأكثر للانبهار، في المطاف الأخير، بذاته الخاصة وحدها، الشيء الذي أوصله أحياناً، وفي حالات لم تعد نادرة أو استثنائية لسوء الحظ، الى التخلي عن انسانيته ذاتها وبكل بساطة. فالمالتوسية والكولونيالية والامبريالية والعنصرية والفاشية وأمثالها من هلوسات الذاتية الغربىة في لحظة أو غيرها، هي، وقبل ان تترجم الى كوارث كونية ملموسة، تعبيرات مباشرة عن شيزوفرينيا يتحمل "العقل" الفلسفي الغربي مسؤولية عظيمة في الوصول اليها. لكن المعضلة هي ان الذاتية الغربية لئن لم تدفع وحدها ثمن أوهامها تلك بل لم تدفع الثمن الأكبر، فإنها لم تعترف ولا يبدو انها ستعترف يوماً بضحاياها في هذا المجال باستثناء حالات محدودة ولأسباب ذاتية هنا أيضاً في الغالب. لسنا هنا بالطبع بصدد القاء مرافعة ضد العقل الغربي كما لسنا بصدد الترويج لذاتية اخرى في مواجهة النرجسية الغربية. فمرافعات من هذا النوع لا قيمة لها على الاطلاق لا سيما ونحن نعترف طواعية لهذا العقل بمنجزات انسانية عظيمة حتى في مجال الفكر السياسي، كما نعرف ان النرجسية ليست حصراً على الشخصية الغربية التي بدورها ليست نرجسىة كلها. ما أردنا قوله في المقابل ان اللهجة الواثقة التي تتحدث بها الفلسفات السياسية الغربية لا ينبغي ان تخفي الحقيقة الكبرى وهي ان هذه الفلسفات بسمينها وغثها تميزت بعمق، الا نادراً وجزئياً في كل الأحوال، بنزوعها الاعتباطي ولاأباليتها المدهشة كلما تعلق الأمر بعوالم الشعوب الأخرى التي تسميها بالشرقية دفعة واحدة وجزافاً، في حين، لعبقرية فيه أو لعقم أو لكسل لا فرق، لم يجرب الفكر الشرقي هذه الهاوية لحد الآن كما يبدو. ففي الواقع، هناك، في الفكر السياسي الغربي، مفاهيم تتعلق بنا نحن الشرقيين يأخذ بعضها هيئة يقين أخرس شبه مطلق الصدق ومهين في آن، يوحي أصحابها، وبعضهم من الأكبر بين ممثلي هذا الفكر، بأنهم استخلصوها من قراءة تأملية وموضوعية قاموا بها لتاريخنا كما هو، أو، على الأقل، كما بدا لهم ذلك التاريخ في خطوطه الكبرى ومظاهره الجوهرية العميقة، بعيداً عن المجانية في اصدار الأحكام أو النوايا السيئة، وفي منأى من التأثيرات الذاتية من أي صنف كان، منها مثلاً تلك الأطروحة القائلة بأن الشرقي فطري الميل الى التعامل بالقلب والايمان والتسليم، حيال ما يتعامل معه الغربي بالعقل والشك والتعليل، أو تلك التي ترى ان الشخصية الشرقية قدرية تقطنها روح الركون واللامبالاة مقابل روح النقد وحب الاستفهام التي تقطن الشخصية الغربية وتخترقها طولاً وعرضاً. بيد ان الأطروحة التي ترى وجود علاقة غربة واغتراب بل تنافر وتضاد بين الشخصية الشرقية اطلاقاً من جهة والحرية من جهة اخرى هي الأقسى والأخطر في ذات اليقين، وقد عبر مونتسكيو عن هذا المبدأ أوضح تعبير عندما كتب في "روح القوانين" ان "شعوب آسيا تحكم بالعصا، ولأن روح العبودية لم تغادرها مطلقاً، لا نجد في كل تواريخ هذه القارة، فرداً واحداً يحمل علامة من علامات البطولة باستثناء بطولات العبيد". هذه الفكرة نفسها نجدها لدى هيغل الذي يؤكد في دروسه حول فلسفة التاريخ، وبصرامته الثقيلة المعهودة: "الشرقيون لا يعرفون ان الروح أو الانسان حر بصفته هذه. ولأنهم لا يعرفون ذلك فهم ليسوا احراراً. انهم يعرفون فقط ان حراً واحداً هناك، وهذا الحر الواحد ليس سوى المستبد". لكن هذا الواحد المستبد ليس حراً هو أيضاً في الواقع، انما محض رئيس عبيد في نظر الفيلسوف الألماني الخالد. وقبل مونتسكيو وهيغل كانت هذه التصورات السائدة بشكل واسع حتى عندما كان المفكر الغربي لا يكاد يعرف شيئاً مهماً عن الحياة السياسية في الشرق، وحتى عندما كان ملوك أوروبا، المسيحيون جداً، يتصرفون كالأرباب في ممالكهم. ولعل داعية الحرية الأهم في القرن السادس عشر الفرنسي اتيان لابويسي مثل نموذجاً صارخاً في هذا المجال عندما كتب في مؤلفه "العبودية الاختيارية": "يعتقد الشرقيون انهم لم يولودوا الا ليكونوا مجرد عبيد كما لو انهم من طبيعة بشرية أخرى أو من طبيعة غادرت عالم البشر الى عالم البهائم". وقبل الجميع كان الكبير أرسطو قد أسس الوهم هنا أيضاً عندما كتب: "البرابرة بطبيعتهم أكثر من الاغريق قبولاً للعبودية، والآسيويون أكثر من الأوروبيين. فهم يحتملون السلطة الاستبدادية دونما احتجاج، لهذا السبب اذن فإن انظمة البرابرة طغيانية، الا انها أكثر استقراراً بفعل كونها وراثية وخاضعة للأعراف". هذه الأقوال، والكثير غيرها، التي تؤسس تماهياً بين الشرق والعبودية، وحتى بين الشرقيين والبهائم أحياناً، لم تظل مجرد شطحات بليدة عابرة أو فلتات لسان غثة انما تجاوزت ذلك بأشواط بعيدة ومثيرة نظراً لأن بعض أصحابها ذهب بها الى حد ارسائها على أرضية نظرية أو عقلية بدت متينة ظاهرياً، فعزوا ذلك التماهي الى العوامل المناخية مرة كما فعل مونتسكيو أو الى العوامل الروحية أو الاقتصادية أو العرقية مرة بعد اخرى كما فعل هيغل أو ماركس أو ارنست رينان على التوالي، أو الى بعض أو جميع هذه العوامل لدى سواهم. ثم ما لبثت تلك المفاهيم ان وجدت نفسها مؤطرة في كيان ذهني خالص وخاص يحتضنها كلياً أو جزئياً يعبر عنه ما يعرف بنظرية أو نظريات "الاستبداد الشرقي" أو "الاستبداد الآسيوي" التي غدت محوراً رئيسياً من محاور الفكر الفلسفي السياسي الغربي طوال قرنين من الوقت ولحد الآن في الواقع. بل انها وجدت طريقها الى الشرقيين انفسهم بشكل أو بآخر. فحتى الكواكبي وقبله الطهطاوي وخيرالدين التونسي وسواهم لم يكتبوا ما كتبوه حول الاستبداد الا تحت تأثير منظور مونتسكيو في هذا المجال وان رفضوا ضمناً جوهر منظوره حول قدرية العلاقة بين الشرق والعبودية. وبالطبع، فإن الربط الايديولوجي في الأصل، والسطحي معرفياً والقسري منهجياً، الذي تقيمه هذه النظريات بين الشرق والاستبداد، أي بين الجغرافيا والنظام السيساسي، يجعلها منذ الجذور وكلياً وبالضرورة عجفاء فلسفياً بل مجرد قطعة مستحدثة اخرى في الترسانة الدوغمائية الغربية الموروثة منذ أعالي القرون الوسطى حتى أسافله. وهذا بحد ذاته يجعله مرفوضاً وشائناً. ونعرف النتائج المدمرة التي لحقت بالشرق وبالانسانية عموماً منذ ان عرفت وزارة الحربية في الامبراطوريات الاستعمارية الغربية ان تتلقف تلك القطع الدوغمائية لتضمها الى ترسانتها العسكرية هذه المرة ولتستخدمها كأحد أسلحتها الفتاكة في اخضاع الشرق وكل العالم خارج القارة الأوروبية لاستبدادها الرهيب. بل لا تزال تلك النظريات مصدر اخطار جسيمة اخرى قد تهدد مستقبل الشرق بأكمله. ذلك ان طابعها المجرد والأطلاقي لا يجعلها متعلقة بماضي الشرق وحاضره وحدهما انما لا بد ان تمتد لتشمل مستقبله أيضاً، كل مستقبله في الواقع، بما فيه البعيد والمجهول. محض توليفات دوغمائية ومصدر شرور هي تلك النظريات، وهذا مما لا شك فيه. لكن سؤالاً جوهرياً يظل يحاصرنا مع ذلك. وهو: الا يجوز ان تكون الحياة السياسية الشرقية نفسها، أو كما عرفوها على الأقل، سمحت أو أغرت مفكرين كباراً ونقديين بلا جدال، وانسانويين في الوقت نفسه كمونتسكيو أو هيغل أو ماركس باعتناق توليفات كهذه حول الشرق؟ لنلاحظ من الآن،پان بحثاً جدياً عن اجوبة واضحة في شأن الاستفهام أعلاه لا بد ان يقودنا الى الاعتراف بأن هناك فعلاً استبداداً في الشرق هو من البشاعة الى درجة تغرينا بالزعم بأن ما كتبه مونتسكيو أو هيغل حول بؤس حياتنا السياسية دوغمائي تماماً لكنه لم يكن اعتباطياً كله! ولئن لا نجد تناقضاً في هذا التصور فذلك لأن توليفات دوغمائية من طراز "الاستبداد الشرقي"، ككل التوليفات الذهنية الأخرى، والتوليفات الذهنية دوغمائية بالضرورة، لا بد لها من عناصر موضوعية الى هذا الحد أو ذاك، مستمدة من الوقائع الفعلية الخاصة بموضوعها. ومهما يكن الأمر فنحن لا نذهب، كما فعل البعض، الى اتهام أصحاب نظريات الاستبداد الشرقي بتعمد الاساءة الى الشرقيين عبر تلفيق تصورات قاتمة عن حياتهم السياسية، لا سيما وان ما دفع أولئك المفكرين الى تطوير منظوراتهم حول الاستبداد الشرقي، لم يكن، بطبيعة الحال، مجرد تنظير مكشوف حول الشرق أو ضده، بل كان يتضمن تحذيراً مبطناً من مخاطر الاستبداد في أوروبا، والذي يمكن ان يؤدي في النهاية الى التماثل مع الأوضاع الشرقية، في حال عدم التحذير من أخطاره. ندرك بالطبع ان عقلنة مفهوم "الاستبداد الشرقي" يعبر لدى أولئك المفكرين الغربيين جميعاً، بوعي أو بلا وعي وبدرجات متفاوتة انما بلا ريب في كل الأحوال عن استجابتهم ضمناً لهاجس الذاتية الغربية الجديدة النزاع الى عقلنة وهمها بتفوقها "الطبيعي" على غيرها من اجزاء البشرية الأخرى، كانعكاس لواقع تفوق القوة الأوروبية وشعورها بالثقة والانتصار في القرون الخمسة الأخيرة. كما ان هذا المفهوم لم يظل من الناحية التاريخية، محض فرضية كتابية أو فلسفية بل أصبح في القرنين الأخيرين اداة من أدوات الهيمنة الغربية على الشرق والعالم غير الأوروبي اجمالاً، كما من المؤكد ان المفهوم هذا ما كان له ان يحقق تلك الشهرة، لولا اقترانه العميق بما كان يعرف بپ"المسألة الشرقية"، المصطلح الديبلوماسي الخادع الذي تلبسته الأطماع الأوروبية بممتلكات الامبراطورية العثمانية الرجل المريض منذ كان بعد نطفة وجنيناً. الا ان كل هذا وغيره لا ينبغي ان ينسينا حقيقة ان تاريخ الدولة في الشرق لم يكن الا سلسلة لا تنقطع من الأنظمة الاستبدادية وغالباً البشعة. فهناك استبداد في الشرق لكن ليس هناك "استبداد شرقي" الا ان هذا الاستنتاج المطلق يقترن لدينا باستنتاج مطلق آخر، وهو ان التاريخ السياسي الغربي، حتى الثورة الفرنسية على الأقل، كان هو كذلك لوحة حافلة بالانظمة الاستبدادية والمطلقة غالباً، اذا استثنينا منه لحظة الديموقراطية الاغريقية التي هي من الصغر والقصر والهشاشة الى درجة تجعلها مجرد لحظة هامشية في المحصلة الأخيرة وعلى أكثر من صعيد. الأمر الذي يعني تالياً انه محض وهم القول بوجود علاقة قدرية بين الاسلام والطغيان أو بين الشرق والعبودية تماماً كما انه محض وهم القول بوجود علاقة قدرية بين الغرب والحرية أو بين المسيحية والديموقراطية.