تتآكل على نحو متسارع مفاهيم الرقابة على المعلومات كلما توغّل العالم في الحداثة والعولمة وتطوير أجهزة الاتصال وهو ما يعده علماء الاجتماع الثورة التقنية الأبرز في تاريخ البشرية. ويبدو من يتجاوز هذه الاحداثيات، ويتغافل عن أثرها، كمن يغرّد وحيداً خارج السرب، حيث في معنى "الوحدة" هذه تتكثف العزلات التي تمسي مع التقادم الزمني أقرب الى التحجر والصنمية. ذلك أن مثل هذا الخيار القاسي يؤول الى نتائج غير مجدية إن لم تكن مدمرة في المدى البعيد. ولعل ثورة المعلومات وتفجرها على هذا النحو الذي نلمسه، تكون واحدة من أكثر الأسباب التي أدت الى تفكك منظومات دولية، وزعزعة ايديولوجيات كانت تبشّر بعتق الناس، بمختلف أصولهم ومشاربهم وأقطارهم من أغلال الهيمنة الرأسمالية/ الامبريالية، وصولاً الى العالم الفاضل الذي حلم به أفلاطون في زمن يوناني غابر. وحدها دول العالم النامي، أو قل أكثرها، أدارت ظهرها للتحولات الدراماتيكية الجارية بتتابع مدهش في العالم، ووحدها من بقي ينظر الى مفاهيم العسكريتاريا والقبضة الحديد والإعلام المركزي الموحّد، بوصفها سواتر لا يخترقها الإعلام مهما اشتدت رياحه وتدافعت، على رغم أن شواهد في العالم المعاصر - ليس أقلها الاتحاد السوفياتي السابق - أثبتت عقم النظرة التوتاليتارية، وتهافت القيم الشمولية في التعاطي مع الظاهرة البشرية في أكثر حالاتها غموضاً وتحولاً وعصياناً على الحبس في أُطر جاهزة، وقوالب مفاهيمية ايديولوجية تتجاوز إيقاع العصر ومتطلبات الروح التوّاقة للتحرر من أسر النموذج. ويغدو الرقيب في بعض الدول النامية، والعربية ليست استثناء من ذلك بالتأكيد! أشبه ب دونكيشوت الذي يصارع بسيفه الخشبي طواحين الهواء في الليل البهيم، وفي ظنه أنه يجندل الأعداء ويصرعهم بغضبته الفتاكة، من دون أن يعلم - لغفلته وقلة حيلته - أنه انما يخوض حرباً عبثية مع خصوم وهميين أنتجتهم ذهنيته التي تبحث عن جدوى لأفعالها المُخفِقة. ازاء هذه الحقائق الصلبة التي لا مندوحة من الفرار من استحقاقاتها، تتبدى مسألة حجب المعلومة بوصفها سلوكاً عرفياً يشي بروح ديكتاتورية لا تقبل التعددية والانفتاح، وبالتالي يساهم التطور التكنولوجي على صعيد الاتصال المعرفي بصورة خاصة في تنامي الحاجة لدفع عجلة الحريات والتعددية الفكرية، وتجاوز الاختلافات، الى الأمام. ومن يصر على التنكر لهذه الحقائق والهزء بمفعولها فليعد بذهنه الى عشر سنوات خلت، وأي زلازل سياسية وفكرية طاولت من اختاروا الاستقالة - طوعاً - من التاريخ!