أصدر الكاتب الانكليزي الارلندي جوناثان سويفت روايته "رحلات غاليفر"، وهي من كلاسيكيات الأدب السياسي الساخر، في 1727. وروى فيها قصة الانكليزي ليميويل غاليفر الذي يقرر مغادرة انكلترا، وينجو اذ تغرق سفينته ليروي احداث الرحلة الأولى من رحلاته الأربع عندما يصل الى جزيرة ليليبوت بسكانها الاقزام الذين لا يتجاوز طول الواحد منهم ست بوصات. الرحلة الثانية كانت الى بلاد بروبدغنانغ، بلاد العمالقة الهائلي الحجم. وهكذا فإن غاليفر يتحدث في ليليبوت عن نفسه كعملاق بين اقزام، فيما هو في بروبدغنانغ قزم بين عمالقة. وتعطي الحادثتان تصوراً للمشاكل المتعلقة بكون المرء اكبر من المناسب في وضع أو سياق ما، وأصغر من ذلك في غيره. ويتعرض غاليفر في ليليبوت، على رغم كونه عملاقاً هناك، لاضطهاد سكانها الذين يورطونه في مكائدهم، وفي النهاية يقررون له الاعدام أو النفي. اما في بروبدغنانغ فيجد نفسه دوماً في مأزق، مهدداً بالسحق من جانب سكانها الضخام. وعندما يسمح له الملك في النهاية بالكلام دفاعاً عن نفسه وعن العالم الانساني "السوي" الذي يأتي منه، يقدم خطبة طويلة عن حياة انكلترا وما فيها من الطبقية والتمايز ومؤامرات البلاط وقذارة السياسة وانعدام المبادئ والحروب والمؤمرات والعنف عموماً. وبدل ان يشعر الملك بالاعجاب بحياة "اقزام" مثل غاليفر يستنتج انه ينتمي الى "أبشع جنس من الهوام سمحت له الطبيعة بالزحف على سطح الأرض". يبدو لي ان سويفت، بنظرته الحالكة السواد للحياة السياسية وادانته الشاملة والمريرة لها، هو الكاتب الوحيد القادر على تناول الأزمة العراقية - الأميركية الأخيرة، بكل ما فيها من الغرائبية والدراما والمهازل. ذلك ان الولاياتالمتحدة، بكل قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط لم تحرز نجاحاً اكثر هناك مما احرزه العملاق غاليفر في ليليبوت، بعدما أدت بها أوهامها عن قوتها وسلطتها الأخلاقية الى السقوط في حبائل السياسة المحلية. القوة والحجم، كما يعلمنا سويفت، ليسا كل شيء. وكانت الولاياتالمتحدة تحت جورج بوش اكتشفت فجأة أهمية الأممالمتحدة وقراراتها، بعد عقود من "البلطجة" الدولية واحتقار القانون الدولي ومساندة حلفائها في انحاء العالم في مغامراتهم الدموية. ولم يسبق لقوة عظمى ان استعانت بالأممالمتحدة بذلك القدر من الاستهتار الاخلاقي والتناقض السياسي مثل الولاياتالمتحدة، التي لم تدفع حتى الآن الى المنظمة الدولية مستحقاتها المتراكمة التي تبلغ 1.3 بليون دولار. كما لم تستعمل قوة عظمى حق النقض مثلما استعملته واشنطن للدفاع عن سلوك مرفوض دولياً سلوك اسرائيل، كما لم تظهر قوة عظمى أبداً ما تظهره أميركا من احتقار للمنظمة الدولية. ثم كان أن وجدت واشنطن، في شكل انتهازي، ان من الأفضل التعبير عن موقفها من العراق من خلال حفنة من القرارات الدولية حصلت عليها قبل سبع سنوات وتستمر في محاولة تنفيذها حرفياً، وهو ما لا سابق له في تاريخ الأممالمتحدة. اثناء ذلك أدى نظام العقوبات على العراق الى تدمير البنى التحتية العراقية وكان معناه الفعلي قتل ما لا يقل 1.5 مليون من المدنيين العراقيين الأبرياء. وشهدنا قبل أيام الأداء المخزي من وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، التي فاقت كل من سبقها في المنصب في الكذب، ووزير الدفاع وليام كوهين امام مجموعة من المواطنين الأميركيين العاديين الذين أبدوا امتعاضهم الواضح لسياسات واشنطن. وأعلنت الوزيرة بفخر عن "انسانيتها وقلقها" على شعب العراق، فيما تباهت في الوقت نفسه بان العقوبات على العراق كانت الأشمل والأقسى في التاريخ. ولم يرد الرئيس بيل كلينتون، الذي يترنح تحت الفضائح الجنسية والمالية المتواصلة، ان يترك الحلبة لوزيرته، بل بلغت به الصفاقة ان وجه خطاباً الى الشعب العربي، مستعملاً لهجة من يتكلم مع جملة من البلهاء. واكد ان ليس من نزاع بين أميركا وشعب العراق، بل ان ذلك يقتصر على صدام حسين، فيما يعرف الكل ان الرئيس العراقي لا يعاني شيئاً يذكر من الحصار، بل ان من يعاني منه ويموت من جرائه هو شعب العراق. وقدم كلينتون هذا على انه تبرير مقنع للهجوم العسكري على العراق. لكن هذا ليس كل شيء. فقد ثابرت وسائل الاعلام الأميركية طوال اسابيع على تغذية الرأي العام بقصص عن أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها العراق. ولم يبرهن أحد على وجود تلك الاسلحة، لكنها حتى ان وجدت لا تشكل خطراً على اي جهة. وأعطت الولاياتالمتحدة نفسها حق تجاوز كل اعراف السلوك الدولي، وتأكيد العزم على توجيه ضربة عسكرية في حال فشل المساعي الديبلوماسية. وهكذا ارسلت الأساطيل والطائرات والقوات الأرضية في عملية تكلف دافع الضرائب الأميركي خمسين مليون دولار يومياً ولا ننسى المشاركة البريطانية الضئيلة في هذا الجهد، التي جاءت لتشكل تعبيراً ممجوجاً عن خنوع لندن أمام واشنطن. ولم يبرز خلال أسابيع من التبجح والتهديد هدف حربي واضح. كما لم يظهر أي ضمان بأن الهجوم سيؤدي الى الاضرار بقوات صدام حسين، او ما تبقى منها، بل استمر تدفق القوات على المنطقة والكلام عن تفكيك العراق واحتلاله وسيلة للقضاء على نظام صدام حسين المخيف. النتيجة لكل هذا كانت تقليص العملاق الأميركي الى حجم صدام حسين، وبرهنت الولاياتالمتحدة على انها تقف على المستوى نفسه الذي يقف عليه صدام حسين، من حيث افتقارها الى القاعدة الاخلاقية وغرورها وضربها عرض الحائط بالقانون. واصبحت مثل غاليفر، العملاق الذي يكبله سكان ليليبوت الأقزام ولا يستطيع سوى التباهي والتبجح. ما لا يقل عن ذلك أهمية ان نتذكر ان واشنطن، التي لا تزال تسيطر عليها عقلية الحرب الباردة العقيمة، تخبطت من فشل الى آخر في ما يخص قضية الشرق الأوسط. إذ عاث بنيامين نتانياهو تخريباً بالأشلاء المتبقية من عملية السلام، التي يفترض ان تكون تحت "رعاية" الولاياتالمتحدة. وأستطيع ان اقول بعد عودتي اخيراً من رحلة استمرت عشرة أيام الى فلسطين ان الاخطبوط الصهيوني بعد خمسين سنة من اقامة اسرائيل يستمر يوماً فيوماً في سلب الأراضي وتدمير المساكن وتشريد السكان، وهي اكثرها عمليات عاد الصهاينة اليها بحماس متجدد بعد أيلول سبتمبر 1993. وفقدت الولاياتالمتحدة دعم الدول العربية والمسلمة التي يفترض انها حليفاتها، وذلك نتيجة تبلدها الاخلاقي وريائها الفاضح اذ تمالئ اسرائيل الى ما لا نهاية فيما تطالب العرب بالخضوع الكامل. وشكلت "قمة الدوحة" في تشرين الثاني نوفمبر الماضي كارثة ديبلوماسية لواشنطن، تبعتها كارثة الفشل في تعبئة تأييد مصر والمملكة العربية السعودية للحملة على العراق. فوق كل ذلك هناك الخداع الصارخ في الخطاب الأميركي، كما يتجسد في الوزيرة اولبرايت المقيتة التي لا تضيع فرصة للتصرف مثل "بلطجي" محترف - ذلك الخداع الذي ينم عن المباديء المهترئة اذا جاز وصفها بمبادئ لسياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط. لكن ما يكاد يستحيل على التصديق تلك الجدية التي يتكلم بها الناطقون الرسميون الأميركيون عن استنكار العنف وادانة الارهاب، متناسين سجل أميركا الطويل الذي يتفوق على كل الدول الأخرى في الاعمال الدموية اللا قانونية في كل انحاء العالم الثالث. فهل نسينا ان الولاياتالمتحدة هي التي قتل ثلاثة ملايين فيتنامي، وكانت وراء المجازر التي أودت بنحو عشرة في المئة من سكان غواتيمالا في الخمسينات، وتواطأت مع نظام سوهارتو في اندونيسيا في غزو تيمور الشرقية وأيضاً في قتل نحو نصف مليون من الذين اتهمهم سوهارتو بالشيوعية، وزرعت الألغام في موانئ نيكاراغوا ونالت بذلك ادانة المحكمة الدولية وساندت ثوار الكونترا ضد النظام السانديني في الثمانينات، وغزت بنما وغرانادا ومولت الأصوليين الأفغان، وتستمر في تمويل الاحتلال والنهب الاسرائيليين اللذين لا يعرفان حدوداً، كما تتواطأ يومياً الآن في هجمات تركيا على الأكراد. المذهل انها اذ عملت وتعمل كل هذا تعطي نفسها الحق في القاء المحاضرات على العرب عن القانون الدولي، صارخة بغضب مثل غاليفر وهو يعنف الاقزام من سكان ليليبوت، قبل ان يتمكنوا بتكتيكاتهم واحابيلهم من اخضاع العملاق الثقيل الحركة. اضطرت الولاياتالمتحدة، رغم حجمها وقوتها، الى الاعتراف بالواقع العالمي الفالت عن سيطرتها ولا يمكنها يوماً ما ان تخضعه تماماً لرغباتها. وها هو بيل كلينتون، الذي يبدو محرجاً خجلاً من نفسه مثل طفل شقي أمسكه بالجرم المشهود استاذ حازم لكن بالغ الهدوء، يوافق على التسوية التي توصل اليها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. واذا كانت تفاصيل الاتفاق وآلياته لا تزال قيد البحث فالواضح ان الديبلوماسية نجحت هذه المرة ربما لفترة قصيرة فقط في لجم الآلة العسكرية الجبارة. مع ذلك يمكنني المخاطرة بالقول ان "موسم العز" الأميركي في الشرق الأوسط على وشك الأفول. واذا كان من الصحيح ان واشنطن لا تزال تحتفظ بقسط كبير من الهيمنة، فالذي افتضح تماما هو فراغ ورثاثة ادعائها ان في امكانها السيطرة على الكل في كل الأوقات. ان المسؤولين الأميركيين سيستمرون من دون شك في التشدق بقوة اميركا العسكرية وسعة حيلتها. لكن تبجحهم يبقى واضح الهشاشة، مثل ادعاءات غاليفر امام ملك بروبدغنانغ، اذ انشكف تماما فراغ سياستهم تجاه الشرق الأوسط - السياسة التي يتلاعب بها اللوبي الصهيوني وتموسقها تلك الجوقة من الصحافيين الذين لا يزالون يؤمنون ب "رسالة" الولاياتالمتحدة من أمثال توم فريدمان وجيم هوغلاند وأ. م. روزنثال وفؤاد عجمي وغيرهم، ويحاولون اقناع انفسهم بصحة رأيهم على رغم ان الأحداث برهنت مرة بعد اخرى على سخفه. ولا ننسى أيضا "الاستراتيجيين" المتقاعدين مثل هنري كيسنجر، بآرائهم التي أكل الدهر عليها وشرب، المشابهة للبالون في ايام ال "جمبو جت". مع ذلك فإن ما نتشوق اليه هو ان يكون لعالمنا العربي ما يكفي من الهمة لكي يستفيد من بؤس وضع غاليفر. ان صدام حسين، كما أرى، وصل الى درجة من فقدان الصدقية والتلطخ بالدماء لا تسمح له بأن يشكل اكثر من مضايقة لجيرانه لكن لا ننسى ان بقاءه يعني العذاب المستديم لشعبه. ولا يبدو ان هناك الكثير من المعنى في البحث في ما اذا كان صدّام هو "المنتصر" أو "الخاسر" في المواجهة الأخيرة، لأن بلده تعرض للدمار وعاد عقوداً، بل ربما حقباً، الى الوراء من حيث التنمية، وأفضل ما يمكن ان يفعله هو الاستقالة على رغم انه اكثر عناداً وجبناً من أن يفكر في ذلك. وأخشى ان الكثيرين من العرب يقدسونه كبطل، رغم كل حماقاته وفشله. انه سيستمر على وضعه، مثل نظرائه في العالم العربي، الى ان يطيحه مغامر آخر، لتبدأ بذلك عملية جديدة تحمل التقدم او المزيد من الانهيار. لا يجد القادة العرب أمامهم، في غياب الديموقراطية، سوى الاستمرار في مداولاتهم الخافتة واجتماعاتهم التي تأخذ مظهر الطقوس الفارغة، وصفقاتهم المالية التي تؤجل اكثر فأكثر الاستثمارات الكبرى المطلوبة في التعليم والصحة والممارسات الديموقراطية. في حال سويفت نجد انه أجبر بطله غاليفر في النهاية على ان يواجه نفسه ويدرك انه ليس سوى بربري لا سبيل له الى الترقي يستمع الى محاضرات يلقيها عليه حصان صاهل وليس من انسان حكيم. من السهل، أيامنا السود هذه، ان نذهب الى الحد الأقصى في ادانة انفسنا كبشر يعانون من عجز متأصل عن تحقيق أي انجاز. لكن مشهد الفلاحين والعمال والسكان الفلسطينيين العاديين وهم يقاومون بصبر وصلابة حملات السلب المتواصلة التي يقوم بها المستوطنون الاسرائيليون والجيش الاسرائيلي يبقيني على ثقة بأن لنا، على رغم كل نواقصنا، معركة لا بد من خوضها وقضية لا بد من نصرتها.