في مقال له تحت عنوان "اعادة الاعتبار للميكيافيلية في السياسة" المنشور في صفحة "أفكار" في 17/2/1998 يستعرض الكاتب عماد فوزي الشعيبي سيرة تحولاته الفكرية، وصولاً الى هذا المقال الذي يعتبره خلاصة هذه التحولات باعادة اكتشاف الميكيافيلية. ليس لنا اعتراض على هذه التحولات، فمن حق المرء ان يعيد النظر بقناعته ويغيّرها كما يشاء، فكلنا نتعرض للتحولات الواعية أو غير الواعية، حتى اننا لا نشبه ما كنا عليه قبل سنوات. ولكن عندما يعتبر ان القناعة الأخيرة هي الحل الأجدى للمسائل الأكثر تعقيداً، بوصفها تعبيراً عن الوعي "المطابق"، والذي هو شكل من أشكال الادعاء بامتلاك الحقيقة كاملة، فإن هذا يستحق التأمل، خاصة وانه يأتي في مقال مراجعة ذاتية؟! واذا تجاوزنا هذا الى جوهر المقال والنتائج التي وصل اليها الكاتب نستطيع تلخيصها على الشكل التالي: باعتبار الكاتب نفسه "وحدويا" وجد دليلاً لقراءة الميكيافيلية بحيث "تعتمد المحاسن فيها من اجل صنع مشروع وحدوي بأي ثمن". هذه القراءة أوصلت الى ان "المطلب لميكيافيلية عصرية هو ان تحمل الدولة عنصر تقدمها في ثنايا استقرارها". كيف ذلك؟ ان نبدأ من البداية ببناء دولة الاكراه: "ان ثالوث الدولة المعاصرة هو: 1 - الدولة/ الاكراه، 2 - الدولة/ القانون، 3 - الدولة/ المؤسسات. وعليه فاذا كانت "لعبة" السياسة تقتضي لبناء الدولة في شكلها الأولي اقامة دولة الاكراه، من اجل هذه الدولة نبرر ميكيافيلياً رعوية الحاكم بالمحكوم، فإن دولة الاكراه ليست الا عتبة على السلم…". هذا ما يدفع الكاتب الى "رفض الديموقراطية، لأنها لا تصلح لمجتمعاتنا لأنها غطاء للفعل الطائفي والاقليمي…". وبوصفها دولة انتقالية تستنفد دولة الاكراه وظيفتها "عندما تحول البشر المنفلتين من عقالهم الى مواطنين يخشون الأجهزة، وفي هذه الحال يصبح هؤلاء المواطنون مستعدين لقبول القانون عصا ترفع في وجوههم فتمنع التجاوز والخطأ دون ان تستخدم، بعد ان كانت الأجهزة هذه العصا، والخطر الذي يهدد هذا الانتقال وجود "عدو خارجي يجعل الالتفات الى ما عداه قلباً للأولويات ونوعاً من الترف". انها دعوة صريحة الى الاستبداد في نهاية القرن العشرين، فالاستبداد شائن وقذر، لكن اعتماده كوسيلة للوصول الى غاية أسمى - دولة القانون - في مجتمع من الرعاع المنفلتين من عقالهم، يبرره ويغسل أقذاره، ويحوله الى نظام ينجز مهمة تاريخية صاعدة على سلم التطور، هكذا ببساطة يصبح الاستبداد ايجابياً طالما وجدنا الغاية التي تبرره. هل يمكن تبسيط المسألة الى هذا الحد؟ وهل يمكن للاستبداد ان يكون منتجاً لدولة ايجابية لاحقة - دولة القانون؟ وهل تملك دولة الاستبداد ما يبررها فعلاً في الأوضاع العربية؟ هذا جزء من طيف واسع من الأسئلة التي تستدعيها الدعوة الى الاستبداد. وقبلها جميعاً، ولاعتقادنا بأن الدولة مزامنة للفرد والمجتمع، نقول مع عبدالله العروي، ان أي تساؤل عن الدولة تساؤل عن وظائفها ووسائلها. لأن الدولة أداة من أدوات تنظيم المجتمع، يجب ان تعمل على خدمة مصالحه بالطريقة المثلى، وبالتالي خدمة الأفراد المكوّن منهم هذا المجتمع، فالغايات والوسائل يجب ان تقوم على خدمة البشر. لذلك من حق البشر ان يختاروا الطريقة الأنسب لتحقيق هذه المصالح. ورغم ان هذا المطلب لم ينفذ تاريخياً الا جزئياً، فإنه شكل عاملاً ودافعاً رئيسياً من اجل تقليم أظافر الدولة وتحديد طغيانها، وجعلها تقترب الى مصالح البشر، حتى وان لم تتطابق مع ذلك. اما الاستبداد فهو يعمل على تدمير المجتمع، والانسان المصنوع تحت ضغط العنف لا يظهر الا كانسان. وكما تقول هنه ارندت فإن الغاية محاطة بخطر ان تتجاوزها الوسيلة التي تبررها فيعمل النظام الاستبدادي من خلال حكم شخص واحد يفرض ارادته على الشعب القاصر الذي لا يدرك مصالحه، وتكون ارادته مطلقة من دون مراقبة أو محاسبة. فالمستبد غير مجبر على تقديم أي حساب لأحد عما يمارسه، بل على العكس، فالآخرون مجبرون على تقديم كشف حساب له عما يقومون به من أعمال. ان الاعتقاد ان إلغاء الحريات الفردية عبر الاستبداد يؤدي الى بناء دولة قوية، هو اعتقاد وهمي، فالاستبداد هو الحكم الأكثر عنفاً والأقل قوة بين كافة أشكال الحكم على حد تعبير مونتسكيو. فمطالبة الفرد بتقديم كل التضحيات من اجل بناء دولة مستبدة قوية، ما هو الا مؤشر على ضعف الدولة التي تحتاج باستمرار الى التقوية. وافتراض عدالة المستبد لا تبرر الاستبداد، فمهما بلغت عدالة المستبد لا يجوز له ان يفرض على الآخرين آراءه وأفكاره بدعوة انها لصالحهم. رغم ذلك، فإن الدعوة الى الاستبداد وتقديس الدولة لا تحيل - كما قد يعتقد البعض - الى فكرة "المستبد العادل" التي صاغها جمال الدين الأفغاني في القرن الماضي، بل تحيل الى الفاشية، التي تنتهي الى تمجيد الدولة التي هي دولة كل شيء، انها الأقوى فيما الأفراد كلهم تابعون لها: كل شيء من أجل الدولة، كل شيء بواسطة الدولة، وكما قال موسوليني "ليست الأمة هي التي تخلق الدولة كما هو سائد في الاعتقاد الطبيعي القديم. بالعكس، الدولة هي التي تخلق الأمة وتعطي للشعب الواعي، لوحدته الأخلاقية، ارادة، وبالتالي وجوداً فعلياً". ان رفع الدولة الى مرتبة التقديس يحولها الى غاية بذاتها، وهذا ما فعله ميكيافيلي عندما حول الدولة الى اسطورة، وهذا مطلب كارثي لا يمكن الموافقة عليه، ونستطيع القول ان كل من يتغافل عن البشر يعطي الدولة أكثر مما تستحق ويبني حولها سياجاً من الأساطير لا تمت الى العقل بصلة، ومن هنا، لا يمكن القبول بالفكرة الأساس التي انطلق منها المقال "الوحدة بأي ثمن"، فلا يمكن القبول بوحدة ثمنها جبال من الجماجم البشرية بفضل الاستبداد الذي تحول الى مطلب "عقلاني"، وتعبير عن وعي "مطابق"، ودرجة على سلم التطور التاريخي!