هل تخلت الولاياتالمتحدة الاميركية عن ادارة الملف العراقي كما يبدو؟ وهل وافقت على تسليم مجلس الأمن القضية التي ما كانت تريد تركها؟ وهل سنسمح برفع الحظر النفطي حين يتوصل مفتشو الاممالمتحدة للاستنتاج بأن العراق لم يعد يملك أبداً اسلحة محظورة دولياً من نووية وكيماوية وبيولوجية وجرثومية؟ عن كل هذه الاسئلة اجاب صموئيل بيرغر، أحد المهندسين الرئيسيين للسياسة الخارجية الاميركية، بالنفي. ففي مقال نشرته "الواشنطن بوست" في 2 آذار مارس أكدّ مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي أن واشنطن تحتفظ لنفسها أيضاً بحق ضرب العراق عندما ترى ذلك ضرورياً بموافقة المجتمع الدولي أو من دون موافقته، وأن اليونسكوم اللجنة الخاصة لنزع أسلحة العراق الناظمة لعمل مفتشي الأممالمتحدة، التي يقودها ريتشارد بتلر هي الحكم الوحيد على حسن نيات حكومة بغداد وليس فريق الديبلوماسيين الذين عيّنهم الأمين العام للأمم المتحدة، وأن الولاياتالمتحدة الأميركية لم تغيّر رأيها بعد في مسألة تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 687. وأكدّ السيّد بيرغر أن الإنتهاء من نزع أسلحة العراق لن يقود الى رفع الحظر النفطي كما تنص المادة 22 من هذا القرار، وبعكس أعضاء آخرين في مجلس الامن، فإن واشنطن تعتقد ان على بغداد ان تؤكد "نياتها السلمية" اولاً بتطبيقها كل قرارات الاممالمتحدة، التي يزيد عددها عن الستين، قبل رفع العقوبات. وبمعنى آخر، فإن هذه العقوبات ستبقى الى اجل غير مسمّى على الاقل حتى سقوط صدام حسين، وهذا السقوط لا يبدو قريباً، حسب السيد بيرغر. ويبدو واضحاً ان مستشار الرئيس الاميركي يردّ على المواقف الفرنسي من دون ان يسميها. فرئيس الجمهورية الفرنسي جاك شيراك ورئيس الوزراء ليونيل جوسبان ووزير الخارجية هوبير فيدرين، كانوا صرّحوا في الأيام الاخيرة بأنه يجب ألا يرفع الحظر فحسبب بل ان يعاد العراق ايضاً الى المجتمع الدولي، وطبعاً بشرط الانتهاء من ازالة الاسلحة العراقية. ويبدو ان الرئيس شيراك زاد من ضغطه على القيادات الاميركية عندما صرّح من جهته بأن الحل الديبلوماسي للأزمة العراقية من جانب الاممالمتحدة يؤكد ان الادارة المتعددة الاقطاب ستضمن السلام بشكل أفضل من العالم الآحادي القطب. وبذلك يكون الرئيس الفرنسي قد وضع اصبعه على المشكلة الاساسية التي اثارها التصرف الاميركي في الاسابيع الاخيرة. فالهم الاساسي لواشنطن لم يكن نزع اسلحة العراق او قلب نظام حكم صدام حسين أو تأكيد حقها المطلق في التدخل العسكري سواء وافق المجتمع الدولي ام لم يوافق، في مواجهة كل حال تشكل تهديداً ل "مصالحها الحيوية" سواء كانت محقة ام لا. هذا الحق المطلق تولت السيدة مادلين اولبرايت تعريفه بدقة، عام 1994، عندما صرّحت قائلة "أن الولاياتالمتحدة ستتحرك مع أطراف متعددة في كل مرة تستطيع ذلك وبشكل آحادي في كل مرة يتوجب عليها ذلك. فأبعد من العراق استهدفت الولاياتالمتحدةايران وليبيا والسودان وسورية وكوبا وكوريا الشمالية، وكل دولة اخرى يمكن ان تضعها وزارة الخارجية الاميركية على لائحة "الدول المنبوذة" اللائحة الحمراء و"الارهابيين". والسؤال الذي يطرح مذاك هو معرفة ما اذا كانت الولاياتالمتحدة تراجعت امام اتفاق بغداد لتبتّ بشكل افضل. ويبدو انه من السابق لأوانه الاجابة عن مثل هذا السؤال لأن بيل كلينتون لن يتخذ قراراً بهذا الشأن الا بعد ان يأخذ في الحسبان الظروف الدولية والاقليمية والاميركية. فتطور الوضع الاميركي يرتبط بعوامل وبالأخص بضغوط "لوبي الحرب" اللامتجانس ولكن القادر. ومن ذلك ايضاً أن تكون هناك خاتمة للفضائح الشخصية المختلفة التي تهدد رئيس البيت الابيض واذا كان الامر ضرورياً فإن واشنطن ستملك الوسائل لرفع وتيرة التوتر على الارض، كما ان واشنطن تستطيع تحريك الرأي العام الاميركي لمصلحة ضربة عسكرية ضد العراق. فتشويه صورة العدو وتزويد المعلومات والدسّ مسائل تمارسها الدول في حالة الحرب او عندما تحضّر لصراع مسلح. فهذه آليات تلجأ اليها الدول الديموقراطية كما الانظمة الدكتاتورية. والولاياتالمتحدة ليست استثناء، بل هي تستخدم أفضل خبراء الحرب النفسية، كما فعلت بالصحافة الغربية التي خاضت التجربة المرّة وكانت ضحيتها قبل "عاصفة الصحراء" وأثناءها عام 1991. وقد صدر عدد كبير من الكتب في الولاياتالمتحدة، غداة الحرب، يدحض أكاذيب الدعاية الرسمية لواشنطن. لم تستطع هذه الكتب، للأسف، زرع الشك في ادعاءات واشنطن الاخيرة حول الترسانة العسكرية للأسلحة المحظورة دولياً الموجودة في العراق. القراءة المتأنية لحجم "المعلومات" حول هذا الموضوع والتي بثتها وسائل الاعلام الاميركية والبريطانية وتناقلتها معظم الصحافة العالمية، تظهر قبل كل شيء ان هذه المعلومات آتية بالتأكيد من مصدر واحد هو الأجهزة الاميركية الخاصة. وفي الواقع هي نفسها الاقمار الصناعية وطائرات التجسس "يو 2" الاميركية التي تحلق فوق الاراضي العراقية، وهي نفسها التي تؤمن المعلومات لمفتشي الاممالمتحدة، الذين هم في معظمهم بريطانيون واميركيون، بالاضافة الى ان "سي آي إي" وكالة الاستخبارات الاميركية المزروعة بشكل جيّد في شمال العراق والموجودة بشكل دائم في البلاد المجاورة هي التي تغذي أجهزة استخبارات الدول الغربية بالمعلومات، وليس لدى هذه الدول إلا وسائل محدودة للتثبت من صحة تلك المعلومات. وحتى نثق على الاقل بعصمة الاجهزة الاميركية عن الخطأ وبعدم انحياز الولاياتالمتحدة في صراعات الشرق الاوسط ألا يجب على الاقل التساؤل حول المصادر الحقيقية لهذه المعلومات وهدفها الوحيد هو تبرير التحضير للتدخل العسكري وضرورته المطلقة؟ صحيح أن دقة الحملة الصحافية استطاعت اقناع اكثر الناس تشكيكاً. فكيف يمكن الشك في نزاهة المعلومة عندما لا تكون هذه منسوبة الى الاجهزة الاميركية، وعندما تكون فرضية محتملة وليست حقيقة ثابتة، وعندما لا تحمل أي تأكيد قاطع أو تلبس زي التأمل العميق وهي توجه اتهاماً ذا صدقية، أوحتى عندما تأخذ شكل الحقيقة التي لا تناقش من دون ان يكون هناك أي وسيلة للتحقق منها من مصادر مستقلة؟ وهكذا يتم التذكير، مثلاً، بأن العراق يملك الوسائل التقنية لتصنيع اسلحة كيماوية وبيولوجية، وهذا يبدو دقيقاً، قبل ان يتم التأكيد ان مئات الاطنان من المواد التي يمكن ان تستخدم بهذه الاسلحة قد اختفت ولم يتم استعمالها في الصناعات الكيماوية والغذائية، كما تدعي بغداد. ويبدو مسّلماً به ان كلام صدام حسين ليس له وزن في مواجهة كلام بيل كلينتون. كذلك، أكدّت صحيفة "واشنطن بوست" ايضاً ومن دون ان تسمّي المصدر ان موسكو قد وقّعت عام 1995 اتفاقاً مع بغداد تزوّد بموجبه روسيابغداد عناصر تصنيع مئات الاسلحة البيولوجية. وتضيف اليومية الاميركية انها تجهل ما اذا كانت هذه المواد قد تم تسليمها ام لا. لكن موسكووبغداد كذّبتا بشدّة هذا الامر الى درجة نفي ان يكون هناك اي عقد بينهما لكن السيدة مادلين اولبرايت أبدت قلقها وعرضت، بكل براءة، فتح تحقيق في الموضوع. وعلى رغم ان شيئاً لم يمكن اثباته الا انه تم زرع الشكوك في النفوس. وهناك "معلومات" اخرى ليس بالمستطاع التحقق من صحتها قد انتشرت في وسائل الاعلام. ففي 10 شباط فبراير اشارت وثيقة "سرية" للاستخبارات العسكرية الاميركية الى أن العراق قد نجح في تصنيع "عشرات" من صواريخ "الحسين" سيصل مداها الى 600 كلم وعدد من صواريخ "العباس" يصل مداها الى 800 كلم تستطيع ان تطال اسرائيل وتركيا ودول الخليج. لكن أحداً لم يخطر له ان يتساءل ليعرف أين ومتى وكيف يمكن انتاج هذه الاجهزة وبهذه الكميات في بلد يخضع للرقابة المشدّدة منذ 7 سنوات. لكن هذه المعلومة الخطيرة لم تؤدِ الى أي رد فعل في الدول المعنية. والسبب هو ان التقرير الاميركي اكد ان صدام حسين لن يستعمل هذه الصواريخ في الأمد المنظور - حتى في حالة الحرب - حتى لا يكشف مسبقاً ترسانة الاسلحة الخطيرة التي يبنيها بسرية تامة. وبديهي القول انه ليس في الإمكان التحقق من هذه المعلومة قبل وقت طويل وربما لن نستطيع ذلك ابداً. وكذلك في 10 شباط ايضا قدّم يوسف بنداسكي، رئيس لجنة شؤون الارهاب والاسلحة المحظورة في الكونغرس الاميركي، تقريراً اكد فيه، بناء على معلومات من اجهزة استخبارات عدة بريطانية، المانية، اسرائيلية ولكن للغرابة غير اميركية ان العراق عمد بعد غزو الكويت عام 1991 الى ارسال 400 صاروخ "سكود" الى السودان واليمن واقام مراكز لصناعة اسلحة دمار شامل في ليبيا والسودان، وعلى رغم تفاهة هذه "المعلومات" التي تناقلتها وسائل الاعلام من دون اي تعليق، فإن وزير الدفاع الاميركي وليم كوهين ورئيس فريق مفتشي الاممالمتحدة اليونسكوم ريتشارد بتلر صرّحا كل من جهته بأن هذه المعلومة تستحق أن تكون محلاً لتحقيق. وبعد ايام نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، استناداً الى الاستخبارات الاميركية، ان العراق قد طوّر اربع طائرات "ميراج أف 1" الفرنسية الصنع فجعلها قاذفات مواد كيماوية وبيولوجية. ونشرت صحيفة "التايمز"البريطانية المعلومة نفسها مستندة الى صحيفة "لوموند" من دون التذكير ابداً بأن الشكوك حول وجود اسلحة دمار شامل لم يؤكدها مفتشو الاممالمتحدة. ومن جهة اخرى كيف يمكن معرفة ما اذا كانت هذه الطائرات المشتراة من فرنسا قبل 15 عاماً لا تزال صالحة للاستعمال؟ ولإعطاء صدقية للمعلومات التي وزعت على وسائل الاعلام كشف البنتاغون للمرة الاولى عن الوسائل التي يمتلكها للتجسس على العراق خصوصاً الاقمار الصناعية الاثني عشر التي يقوم كل واحد منها بمهمة مختلفة، فواحد مثلاً مخصص للتنصت على كل الاتصالات الحكومية وآخر للتصوير عن ارتفاع 300 كلم أي عنصر يزيد طوله عن 15 سنتم. واذا كانت هذه هي الحال يصببح مشروعاً التساؤل لماذا استخدام هذا الاسطول عن الاقمار الصناعية ومئات اجهزة التطوير والمراكز الالكترونية والكشافات الحرارية التي وضعها مفتشو الاممالمتحدة للرقابة المتواصلة ليلاً نهاراً على الاراضي العراقية من دون الحديث عن الزيارات المباغتة التي قام بها مفتشو السيد ريتشارد بتلر طوال سبع سنوات. لقد اشتكت حكومات عدة من ريتشارد بتلر الذي سمح لنفسه بالقول ان بغداد تملك وسائل لتدمير مدينة مثل تل ابيب، من دون ان يقدم اي اثبات على ذلك، لكن يبدو ان احداً لم يفاجأ عندما صرّح السيد طوني بلير في مؤتمر صحافي عقده في البيت الابيض، بعد لقاء طويل مع الرئيس كلينتون، بأن العراق يملك اسلحة محظورة قادرة على تدمير كل سكان الكرة الارضية... لا أكثر ولا أقل. إنه لأسف كبير لهؤلاء الذين رغبوا في التبرير المسبق ل "الضربة الجراحية" التي استعدوا لتوجيهها للعراق ان يكون قسم كبير من الرأي العام العالمي، خصوصاً العربي والاوروبي، لم يأخذ على محمل الجد التهديدات العنيفة التي ركزت عليها وسائل الاعلام الانكلو-اميركية. وهذا ما أعطى الديبلوماسيين من مختلف الجنسيات، الفرنسية والروسية والمصرية خصوصاً لمنع حصول الحرب. لكن الحظر لم يزل بعد . فالولاياتالمتحدة لا تقبل بأن يؤدي تراجع، مهما كبر حجمه، الى انهاء دورها كقوة عالمية عظمى ووحيدة. فهي اعلنت ان على مفتشي الاممالمتحدة ان يتابعوا عملهم الى ما لا نهاية وهي تملك ما يجعلها تنفذ كلامها. ولا يبقى لها الا حصول تطورات على الساحة الدولية، خصوصاً في الشرق الاوسط، تردعها عن تنفيذ سياسة مسيئة لها وللآخرين.