في رده المعنون "العقل اذ يتحول عبوة ناسفة... يجود بالكوارث" المنشور في صفحة "افكار" بتاريخ 23/2/1998 على مقال لي بعنوان "اضعاف النظام العراقي خدمة للعراقيين" والمنشور في الصفحة نفسها بتاريخ 17/2/1998 يعبر السيد فيصل جلّول عن قراءة للمقال اقل ما يقال عنها انها مغرضة وتحتوي على احكام يمكن تلمس اسبقيتها على القراءة بشكل واضح. اذ تخونه على سبيل المثال حتى الجملة التي يختارها لما فيها من تناقض مع هدف الاختيار. يأخذ الكاتب من مقالتي جملة ان "الخيار اليوم هو بين انقاذ العراقيين من كابوس طال امده ولم يكن فيه الا ضير العرب وخسارتهم وبين وحدة العراق المهددة وهمياً في اغلب الاحتمالات" لينصب محكمته التفتيشية لمحاكمتي مع غيري بتهم منها "عدم الاكتراث بمصير العراق وبمصير الشرق الاوسط بعد تدمير بغداد ووسط البلاد، باعتبار ان المناطق الكردية وربما الشيعية، لن تشملها الحملة الاميركية - البريطانية". مثل هذا الحكم المتسرع يفتح قبل كل شيء باب الجهل بالتوزيع السكاني في العراق على مصراعيه وينم عن مشاعر غير ودية تجاه هاتين المجموعتين اللتين تشكلان ثلاثة ارباع سكان العراق. ففي بغداد ووسط العراق ما يقرب من مليون ونصف مليون كردي، ناهيك عن مئة ألف من الأكراد الشيعة الذين هجرتهم الحكومة الى ايران في السبعينات والثمانينات. ثم ان هناك القليل من الاكراد الساكنين في شمال العراق ممن ليس لديهم اقارب أو اصدقاء في بغداد والمدن الأخرى في وسط العراق، أكانوا من المهاجرين الى هذه المناطق بارادة منهم في البحث عن لقمة العيش او ممن تم تهجيرهم وخاصة الى مدينة الرمادي التي كانت حتى قبل اعوام معقلاً للجماعات القريبة من النظام. اما في ما يتعلق بتواجد الشيعة في الجنوب فقط فالخطأ افدح. ذلك ان اضعف الناس موضوعية ومعرفة بالعراق لا يمكنه ان ينكر ان عدد الشيعة في وسط البلاد ان لم يتجاوز ثلاثة ملايين ونصف مليون فانه ليس اقل من هذا العدد بكثير. ويبدو، رغم عدم توفر الاحصائيات الرسمية، ان الشيعة والاكراد يشكلون حتى في مدينة بغداد اكثرية في مقابل السنة العرب. فليطمئن الكاتب الى ان اي قصف للسكان المدنيين في الوسط لن يستثني الشيعة "المجوسيين" ولا الاكراد "الانفصاليين"، هذا اذا تجرأ الاميركيون على قصف المدنيين امام الرأي العام الغربي الرافض لذلك واضطرار الخبراء العسكريين الاميركيين انفسهم لتغيير الخطط العسكرية، تجنباً لضرب المدنيين، كما تؤكد ذلك مصادر لا يمكن اتهامها بالميل الى الولاياتالمتحدة. فضرب مدينة بغداد هو ضرب الأكراد والشيعة أيضاً، على خلاف ما يتصوره السيد جلول من ان بغداد مدينة سنية. فهذا التصور هو بالذات من صنع النظام العراقي ليحصل على تأييد العرب من غير العراقيين، ضد الشيعة والاكراد. ولا يبدو انه فشل في جهوده في هذا المجال. فما من جهة غير النظام تستفيد من ضرب الناس وموت العشرات منهم مثلما يفعل بنفسه منذ ثلاثين عاماً. وهو لا يزال يشدد قبضته عليهم عن طريق قتل كل من تظهر عليه علامة رفض او معارضة. والاجدى بالشرق اوسطيين ان يفكروا بمصير العراقيين لا النظام، لأن في بقائه استمراراً لمأساتهم واطالة لها. ومن الأكثر نباهة ان يكون الموقف واضحاً من حاجة الاغلبية الغالبة منهم الى تغيير النظام، لا الاختباء وراء كلمات نقدية لا تخدع الا الكتّاب انفسهم. فالذين يتمنون اضعاف النظام العراقي اغلبهم عراقيون والذين يدافعون عن بقاء النظام هم من العرب غير العراقيين. وهذا بحد ذاته مسألة تجلب الانتباه وتستحق النظر وتعيد في الوقت ذاته الى اذهاننا صوراً من الماضي لا يمكن نسيانها، صوراً تبين كيف ان الكثير من العرب بسكوتهم عن مجازر النظام الحالي ضد شعبه وتشجيعهم اياه في الوقوف بوجه القوة العظمى في العالم يتحملون الكثير من المسؤولية في كوارث العراقيين. وما الدموع على العراقيين الا دموع التماسيح في اغلب الاحيان، لأن الدموع الحقيقية تذرف على النظام وعلى قوة الدولة لا على الشعب. فمن منا نسي صور الملايين من العرب وهم يتظاهرون تأييداً لصدام حسين في احتلاله الكويت وتشجيعه على البقاء ومقاومة الحلفاء؟ ولكن حين بدأت الضربات، من منهم تحرك للذهاب الى العراق وحمل السلاح الى جانب جيشه، رغم ان المسافة لم تكن طويلة بينهم وبين ساحة الحرب وكانت طرق المواصلات سهلة ووسائل النقل متوافرة وصيحات قائد ام المعارك مستمرة في الاستنجاد بهم وبجميع المسلمين في العالم؟ فلا أحد لبى الدعوة على ما هو معلوم. بل الكثير ممن كانوا موجودين في العراق تركوه بين ليلة وضحاها وعادوا بعد الحرب يطلبون التعويض عما خسروه! ما لم يفهمه الكاتب هو كونه يضع الارض والبلاد والوطن والدولة وقوة الدولة في مرتبة تعلو على مرتبة الانسان. لذلك لا يمكنه الا ان يصب جام غضبه على من يضع الانسان في مرتبة تعلو على تلك الكلمات التي جاءت لتخدم الانسان لا لكي يُقتَل هو باسمها. اذا كان هناك من يفضل عراقاً خالياً من سكانه، فليسمح لآخرين بحق تفضيل العراقيين على العراق. ولا شك في ان هذه المسألة صعبة الفهم على من تقوقع عقله في حلبة الايديولوجيات ولم يقترب من الجحيم الحارق وانما رأى في العراق نظاماً يغدق الملايين على من يؤمن في العالم العربي باناشيده القوموية ويسكت عن قتله مليون عراقي باسم العروبة ودفاعاً عن اسطورة البوابة الشرقية ويشوه البقية الباقية من المواطنين ويقدم البلاد وخيراتها للاستعمار الاجنبي بشكل لم يفعله قبله حتى النظام الملكي الموالي للاستعمار. فأين كانت الاقلام مختفية يوم نهض اكثر من ثلاثة ارباع العراقيين ضد النظام في عام 1991؟ وأين كانت حين سحق النظام بالدبابات والاسلحة الكيماوية شعب العراق؟ وكيف تحلل تلك الاقلام، سيكولوجيا، حملات الانفال وشعار "لا شيعة بعد اليوم"؟ أليس من الاجدى التفكير في تساؤل، سيكولوجي قبل كل شيء، عن سبب نعت الضحية بصفات الجلاد في ما يتعلق بروح الانتقام العرقي بشكل خاص؟ فقلب الادوار، كما يقوم به السيد جلول، هو الذي يهم التحليل النفسي، لا هذا المنطق الساذج في استعمال قشرة علم النفس الذي كنا نلوذ به في الحالات العصبية في زمن لم نكن بعد قد تخطينا عتبة المراهقة الثقافية.