الوضع الراهن في كوسوفو خطير للغاية, فالقوانين والاجراءات الصربية بلغت حد تقويض المعالم الثقافية للسكان الألبان المسلمين... وحقوق الانسان تنتهك في كوسوفو بصورة فظة في ما يتعلق بالألبان المسلمين ولا وجود هنا لأي تطبيق للمعايير الأساسية للقوانين الدولية في هذا الشأن. ليس هذا وصفاً للأحداث الجارية والاضطرابات الواسعة التي تعيشها مقاطعة كوسوفو الآن بين الغالبية المسلمة والأقلية الصربية وانما ناقوس خطر دقه في تشرين الثاني نوفمبر العام 1992 تاديوش مازوفيسكي رئيس وفد الأممالمتحدة بعدما قام مع تسعة عشر موفداً دولياً بتقصي الحقائق عن أوضاع المسلمين الألبان في كوسوفو، الا ان تصريح مازوفيسكي ذهب ادراج الرياح وواصل الصرب سياستهم تجاه مسلمي كوسوفو. وفيما كان العالم منشغلاً بعمليات الابادة الجماعية التي كان يقوم بها الصرب في البوسنة، كان الصرب في كوسوفو يقومون بعمليات تطهير عرقي من نوع آخر. ففي الفترة من العام 1992 وحتى 1995 فصلوا أكثر من تسعين في المئة من الموظفين الألبان من وظائفهم وأحلّوا مكانهم آخرين جلبوهم من صربيا. كما قاموا بعمليات تطهير ثقافي وديني وحضاري وسكاني للمسلمين الألبان، فمحوا بقايا آثار المسلمين الثقافية والدينية من المساجد والمدارس والتكايا والمكتبات والقلاع والجسور. وبالتالي فإن الوضع المتفجر الآن في مقاطعة كوسوفو ليس سوى نتاج طبيعي لأزمة البلقان الكبرى التي لم ولن يحلها سلام الضرورة الذي أبرمته الأطراف البوسنية والكرواتية والصربية بضغوط أميركية في دايتون العام 1995. فصربيا التي فجرت الحرب في البداية من اجل اقامة صربيا الكبرى لم تتخلَّ عن أحلامها التي وضع اتفاق دايتون حداً موقتاً لها. أما كرواتيا فإن تصريح الرئيس الكرواتي فرانيو توجمان، أثناء انعقاد المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الديموقراطي الكرواتي الحاكم الذي عقد في زغرب في 210و22 من شباط فبراير الماضي، عبببر بوضوح عن موقفها إذ قال ان البوسنة - الهرسك هي أرض كرواتية "لكن الشيوعيين فصلوها لأنهم تعمدوا بعثرة الكروات في الوقت الذي جعلوا اقليم فويفودينا ضمن صربيا على رغم ان وضعه مشابه للبوسنة" هذا التصريح أثار ردود فعل واسعة النطاق لأنه أكد على الهشاشة التي يتمتع بها اتفاق دايتون وان البلقان على فوهة بركان ربما هدأ قليلاً لكنه لم يخمد. وعلى رغم الترقيع الأميركي للوضع وخضوع الجميع للهيمنة والسطوة الأميركية في يوغوسلافيا السابقة، إلا ان مقاطعة كوسوفو التي يمثل سكانها المسلمون الذين يتحدرون من أصل ألباني ما نسبته 90 في المئة من عدد السكان يعيشون عزلة اقتصادية وحضارية واقتصادية فرضها عليهم النظام الصربي بعدما ألغى الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش في العام 1987 الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به سكان كوسوفو ووضع المسلمين الذين يبلغ عددهم مليونين تحت حكم الصرب الذين لا يزيدون عن 10 في المئة وأذكى نار الحرب والمواجهة حين خاطب الصرب في كوسوفو قائلاً قبل عشر سنوات: "لا أحد يستطيع ان يتجرأ عليكم أو يقوم بضربكم". ومن هنا بدأت المواجهة الصامتة بين الغالبية المسلمة المجردة من كل شيء حتى الوظائف الصغيرة والأقلية الصربية التي تملك كل شيء خصوصاً القوة العسكرية ووسائل القمع والتعذيب والحصار الاقتصادي والثقافي والحضاري حتى أصبح سكان كوسوفو أفقر شعوب أوروبا، إذ لا يزيد دخل العائلة فيها عن 20 ماركاً ألمانياً كما ان غالبية السكان من دون عمل بعد فصل الأطباء والمدرسين والموظفين الذين يرفضون الهيمنة الصربية من أعمالهم ويعتمد هؤلاء على التحويلات المالية القليلة التي تأتي من أقاربهم الذين يعملون في دول أوروبية أخرى ويلعب الحصار الاقتصادي الصربي الداخلي على السكان المسلمين دوراً كبيراً في الحال الكئيبة والمتردية والمضطربة التي يلحظها زائر كوسوفو. منذ اعلان الألبان رفضهم الحكم الصربي واجراءهم انتخابات سرية العام 1992 صوتت فيها الغالبية المسلمة لمصلحة رابطة كوسوفو الديموقراطية، فاختارت ابراهيم رغوفا رئيساً لكوسوفو، وهي تعيش في حال اضطراب مستمر إذ يتم اعتقال الآلاف بتهمة التحقق من هويتهم حتى بلغ الأمر حدّ اعتقال رغوفا نفسه مرات عدة بدعوى التحقق من هويته. وقد ذكر ذلك في حوار نشرته "الحياة" في 6/9/1993 قال فيه: "قد يكون من الصعب ان تصدق انهم اقتادوني شخصياً مرات عدة الى مراكز الشرطة الصربية وهناك قضيت ساعات حتى يتأكد المسؤولون فيها بأني لست اجنبياً… مع انهم يعرفوني حق المعرفة ويراقبون كل تحركاتي وحتى أحاديثي". ولأن ألبان كوسوفو اختاروا المواجهة السلمية من البداية فقد اتخذ رغوفا من كوخ في مقر محطة الباصات الرئيسية في كوسوفو مقراً يستقبل فيه الصحافيين وممثلي لجنة حقوق الانسان وغيرهم ممن يريدون التعرف على حقيقة ما يدور في كوسوفو تحت سمع الصرب وبصرهم. وعلى رغم ان ما يحدث في كوسوفو منذ سنوات طويلةة يعلم به المسؤولون الأوروبيون والأميركيون ومسؤولو الأممالمتحدة ولجان حقوق الانسان كافة، فقد كتبوا التقارير وأنذروا المجتمع الدولي مراراً بأن القنبلة الموقوتة في كوسوفو ستنفجر في أي لحظة. غير ان الاتحاد الأوروبي لم يتحرك حتى لمجرد توجيه نداء الى الرئيس الصربي إلا بعد الأحداث الدموية التي وقعت أخيراً في كوسوفو وقتل فيها عشرات المسلمين. ومع ان بعض المراقبين اعتبروا المبعوث الأميركي الى يوغوسلافيا السابقة روبرت غيلبارد هو المسؤول عن تفاقم الأوضاع من خلال تصريحاته التي قال فيها ان فكرة استقلال كوسوفو "غير واقعية" ووصفه لجيش تحرير كوسوفو بالارهاب، إلا ان جعفر شاتري وزير الاعلام في حكومة المنفى التي أعلنها مسلمو كوسوفو برئاسة ابراهيم رغوفا أعلن في تصريح أدلى به لوكالة فرانس برس في جنيف في الثاني من آذار مارس الجاري بأنه "في حال عدم تدخل المجتمع الدولي في أسرع وقت ممكن وبشكل حازم ستقع حرب رهيبة عندنا، وهي لن تكون بالتأكيد حرباً معزولة كما كانت الحال في البوسنة لأن العديد من الدول سيتورط فيها… مقدونيا أولاً خلال العشرين دقيقة الأولى - 25 في المئة من سكانها من الألبان - وألبانيا بعد نصف ساعة على رغم المصاعب التي تواجهها حالياً، ثم بلغاريا وتركيا واليونان". وليس سراً ان ألبان كوسوفو يعدون للمعركة منذ سنوات فهم يدفعون الضرائب وما يستطيعون من مساعدات الى الحكومة التي انتخبوها في العام 1992 ويرأسها رغوفا كما ان الأسلحة التي أعلن الصرب عن استيلائهم عليها من أيدي الألبان تؤكد ان الألبان يدركون ان حصولهم على الحكم الذاتي أو الاستقلال لن يكون الا بالدماء ولعل العشرين قتيلاً والثلاثمئة الذين جرحوا في تظاهرة الثلاثين الفاً التي وقعت في سربيتسا اخيراً تؤكد ان الألبان لم يعودوا قادرين على تحمل المعاملة الصربية. واذا كان المجتمع الدولي لم يتحرك لتطويق الوضع بناء على النداء الذي وجهه مبعوث الأممالمتحدة تاديوش مازوفيسكي العام 1992، فإنه ربما يظل سنوات يشاهد مأساة مسلمي كوسوفو ثم يتحرك بعد فوات الأوان كما حدث في البوسنة.