لقد استحكمت روح المناكفة الصورية من الجدل المنهجي. وتحديداً من المكتوب الناقد لمشاريع قراءة التراث، حتى اصبحت ظاهرة مكينة موجهة للكثير من طروحاته وطموحاته. فكان استعمال المناهج وتطبيقاتها محلاً لتجاذبات وتنافرات غدت معها الاستعارة المفاهيمية من حقول معرفية متعددة مدار إشكال كبير في هذا المكتوب النقدي، بل بدت معيبة ومثيرة للقدح احياناً. ونلاحظ جزءاً من هذه المناكفة في الانتقادات الموجهة لمشروع الجابري في "نقد العقل العربي". لسنا هنا في معرض الدفاع عن الجابري أو نقده ولا حتى التطرق الى مدى النجاعة التطبيقية لمنهجه بقدر ما نهتم في مدى المقبولية المعرفية لهذه الاستعارة وتوظيفها اجرائياً. وما اذا كان لهذه المفاهيم بعد معرفي يمكن الافادة منه، ام ان تشكيل وبلورة المصطلحات مفاهيمياً عملية تبقى مغموسة بالايديولوجيا ولا تكون الا دوال محكومة بسياقاتها كلياً. واجهت المزاوجة المنهجية الجابرية بين التحليل البنيوي والتحليل التاريخي مناكفات عديدة. فمطاع صفدي، يرى، ان الجابري في قراءاته التكوينية للعقل العربي يثير قضايا منهجية كثيرة ليس من السهل تبريرها، ناتجة عن جمعه بين منهجين متعارضين منطقياً ومعرفياً منذ الأصل: التكوينية التاريخية والبنيوية السكونية. اما محمود اسماعيل فيكتب: القول بأن منطلقات الجابري النظرية بنيوية وتاريخية وأيديولوجية لا يكون مقبولاً طالما البنيوية وهي ايديولوجيا ايضاً لا تستقيم مع التاريخية. وكل المحاولات التي جرت لتلقيحها بالنقدية التاريخية أسفرت عن عجز كامل في التطبيق، فضلاً عن تناقض هذه اللقاحات مع البناء النظري للبنيوية أصلاً. وضمن هذا الاتجاه يرى رسول محمد رسول ان مشكلة الجمع بين النزعة البنيوية والنزعة التاريخية في سياق منهجي واحد غير محلولة، بل هناك تضاد جوهري بين الطرفين. ويعتقد طيب تيزيني ان هذه المزاوجة لا تفقد المناهج جاهزيتها المسبقة، "فما هي المسوغات الابستمولوجية التي تؤسس لعملية الانتقال من مناهج مفردة وغير ملتئمة الى مناهج مفردة يُنظر اليها ملتئمة حالما تستجمع بصيغة المزاوجة؟ فهل فقدت المناهج المذكورة ما كان يقف دون التئامها، ويشكل حواجز منهجية بينها؟ لا نظن هذا او ذاك، وانما نرى في الامر شكلاً من اشكال الاختراق المنطقي وانتهاكاً لما يجعل من المناهج المتعددة انساقاً منهجية محددة. اذ ان من شرائط "الوضوح المنهجي" ان تكشف الحدود القائمة والمحتملة بين "المناهج"، وذلك كخطوة لازمة تفضي الى تقصي هذه الاخيرة والى وضعها في السياقات الفكرية المعرفية، التي انتهت اليها وجعلت منها ما اصبحت عليه كأنساق مختلفة ومتمايزة". ان عملية المزاوجة تعبر عن نزعة تلفيقية تضع المناهج كلها في كيس واحد. انها خطوة باتجاه المفارقة المنطقية، اذ يرفض الجابري المناهج الجاهزة وفي الوقت نفسه يأخذ بمناهج متعددة يتصور انها تفقد جاهزيتها بمجرد جمعها سوية ومزاوجتها على نحو يسمح بدفع "شبه الجاهزية" عنه. تعبر هذه المناكفة عن الاستجابة السلبية للمناهج والتسليم بطريقة امتثالية لصورها بدون فاعلية. تنظر اليها كقوالب جاهزة مكتملة البناء، اما تؤخذ كلاً او تترك كلاً. وبنوع من الولائية يجعل الاستفادة منها ضعيفاً. لا ينكر ما للمناهج ومفاهيمها من مشروطية ضمن سياقاتها التاريخية والفكرية تُبرز اهمية التأصيل الاصطلاحي للمفهوم. ولكن على رأي اركون ان "قيمة اي فكر وقوته تثمن بالقياس الى المفاهيم والمصطلحات التي يمتلكها او التي يعدل من محتواها، ونتائجها، وطريقة استخدامها". فالمفاهيم في توظيفها الفعّال والمنتج تتعرض لعملية تفكك واعادة تكوين وإضافة. فهي عندما تدخل نسيج الخطاب تعيد ترتيب عناصر وعلاقات مختلفة في خارطة معرفية جديدة تتأثر لها المفاهيم ذاتها فيمكن ان تمارس دوراً منهجياً واجرائياً آخر في الخطاب المتشكّل. فعند استعمال المنهج بفعاليته الاجرائية لا تقصر المفاهيم على آلية اشتغالها الأولى ولا تبقى صورة برسم التجريد، انها تدخل اجراءات العملية الخطابية فتبعد وتضم لها توظيفات جديدة تحمّلها سمات الخطاب الذي وظفت فيه. ان المناكفة الصورية ناتجة عن استحضار مرجع اخير لكل منهج ومفهوم ببعد واحد مضيق، تغدو معها المفاهيم حبيسة علاقة دلالية بصورة نهائية. في حين تتبلور للمفاهيم فعاليتها الاشتغالية وأساليبها الانتاجية في سياق الخطاب الداخلة فيه. فليست المناهج ادوات صورية ولا قوالب قارة ذات حدود اسمنتية ولا هي اطر فارغة تملأ بمضامين مرة واحدة لا انفكاك لها بعدها. وهناك الكثير من الامثلة المخالفة لروح التناكف هذه. التوسير اعاد قراءة الماركسية مستثمراً عدة مفهومية من حقول معرفية مختلفة: البنيوية، اللسانيات، التحليل النفسي، باشلار، جاك مارتيان. فوكر الذي اعتمد اللسانيات، الاثنولوجيا، والتحليل النفسي، وأيضاً ريكور يطور وينمي فلسفة التأويل عند شيلر ماخر ودلتاي مستعيناً بأدوات مختلفة المصادرة. والحال ينطبق على رورتي واركون وآخرين. فاستعارة المفاهيم لها مشروعيتها لاجتراح حقل معرفي او صياغة فكرية اذا ما تم التعامل معها بطريقة شغالة منتجة تنمّي قدراتها وتمرن من نطاقها في التطبيق ارهافاً وتشفيفاً، حتى تمسح مساحات لم تمسح وتخترق تخوماً لم تداس، وينبجس معها خطاب في غير متناول المنهجيات التي انتهت انساقاً مغلقة.