الآن أبصرهم يسيرون وجهاز الهاتف النقال بين أيديهم، يقودون سيارات حديثة أوتوماتيكية، يعقدون صفقات مع رجال السياسة، يتحدثون في كل محطات الرادىو ويظهرون أيضاً على شاشات كل برامج المحطات الفضائية، يتحدثون عما يفكرون به في صدد قضايا حدثت. انهم الصحافيون. أوجينيو ايسكالفارو الصحافي الايطالي المشهور يقول: "الصحافيون ناس يخبرون الناس ما حدث للناس". اليوم، نحن في مرحلة اخرى، نقول للناس ما نعتقد به نحن. نحن حكماء عالمون بكل شيء. اننا صحافيون. اليوم لا نكتب فقط في الصحف، لنخضع كتاباتنا لفحص عام، لأنها هي ما يُري درجة عارنا، أو وقاحتنا، انما نعبر عن انفسنا في كل وسائل الاعلام التي توصل اليها هذا العصر. نحن متواضعون، ومغرورون في الوقت نفسه، نؤلف الكتب. تدخلنا اليومي أيضاً له علاقة بما لا يُسبر غوره في حياة الناس الخاصة. لذلك نحاول منح الانطباع عند حديثنا عن شخصية ما بأننا نعرف أدق الأشياء في حياته، أمر لا يعرفه حتى المقربون منه. نحن في رؤوس كل الناس، نعرف كل ما يحدث وما لا يُعتقد بحدوثه، نعرف ما يفكر به الناس، نشيّد اعتبارات وعدم احترام، بعدها نُصلح بإيمان قاطع ما هدمناه في أعمدة قليلة، واذا كانت هناك أحكام قاطعة لا يمكن الشك فيها ننشرها بتوسع يخفي خلفه الادعاء، بأننا نحن من رمى الحجر، ندافع عن انفسنا مثل طائفة، لكننا لا نتحمل وجود طوائف، نرثي الغباء، ونشتكي منه كل صباح، وكأن مشكلة المحنة لا تشملنا نحن، وكأننا لسنا من يبث هذا الغباء يومياً. نطالب بحق النقد حتى يبح صوتنا كما لو كان جزءاً من جلدنا ذاته، لكن عندما يُطبّق ضدنا يُكرمش جلدنا، ونصرخ بصوت رنان. نحن صحافيون، الخليقة التائبة المتواضعة أمام الحقيقة، لكن في لحظة ما نعتقد اننا الحقيقة. نظرتنا مثل طيف يمر فوق فانوس سحري، ولكن في لحظة أثناء أدائنا العمل نعتقد اننا من يصنع الضوء الأصلي للفانوس. انها مهنة، وليست شيئاً آخر، مهنة شجاعة وجميلة، تشبه القصص التي كانت تحكيها أيام الطفولة جداتنا، لأن تأثيرها يظهر ويختفي مثل تأثير الأمور السحرية، انها مهنة، لا أكثر ولا أقل، ولكن من زاوية نظر معينة، هي اجمل المهن في العالم. يقول غارسيا ماركيز، في واحدة من مقالاته، المحملة بشغف حزين بفقدان الروح الساحرة في هذه المهنة، والمنشورة في جريدة "الباييس" المدريدية تحت عنوان "أجمل مهنة في العالم"، يقول ان لا أحد ولد لكي يربي "هذا الولع المتعذر التحقيق بأن يستطيع فقط ان يصبر ويُهذب نفسه بواسطة مواجهاته العارية حتى العظم مع الحقيقة … وانه رغم ذلك من الممكن ان يواظب على العمل في مهنة غير مفهومة وشرهة، عملها ينتهي بعد كل خبر، وكأنه انتهى الى الأبد، لكنه لا يقبل لحظة سلام واحدة عندما لا يعود ليبدأ في الدقيقة التالية أكثر حماسة من ذي قبل…". الصحافة هي مثل حكاية، قصة في متناول اليد، وليس من الغريب أن يكون غارسيا ماركيز مايسترو الحكاية هو من يقول ذلك، والذي يُريه على طول ما يكتبه كقاص في ذلك الكتاب الرائع "كيف تُروى قصة؟" الذي صدر عام 1996. انها مهنة مثل حكاية، تبدأ وتنتهي في نفسها هي: "ان أكثر ما يهمني في هذا العالم من الحكاية"، يقول ماركيز، "هو عملية الخلق. أي صنف من الألغاز هذا هو الذي يجعل هذه الرغبة البسيطة بالقص تتحول الى ولع، يكون الكائن البشري على استعداد للموت من اجله، الموت برداً أو لأي سبب كان، بسبب عمل شيء لا يمكن رؤيته ولا لمسه، وانه في النهاية، اذا أمكنت رؤيته، لا يصلح لشيء؟". الصحافة هي حكاية، الرغبة بالقص، كما لو كانت فيها الحياة، قصص رائعة أبطالها أشخاص آخرون، الذين نحكي عنهم نحن لكي يسمعهم الآخرون. انها أجمل مهنة في العالم لذلك يطيب الحديث عنها بهذا الشكل من الفقدان الحنين، من النوستالجيا.