لا نكون منصفين لو رأينا الى الادراك المستجد في الغرب نحو فن الاستشراق ان لم نربط الظاهرة بكتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد. فبعد الهزة التي أحدثها الكتاب لم يعد وارداً اقامة معرض أو تنظيم حدث ثقافي استشراقي من دون إلقاء الضوء على عنصر التخييل والاضافة والتحوير في مواضيع اللوحات المعروضة. وبات راسخاً أيضاً ان استيحاء الشرق لا يعني بالضرورة تسجيل وقائعه المعيشة، بل ما تثيره تلك الوقائع من احاسيس وتخيلات، معظمها مسكون برواسخ مسبقة تجانب الواقع. وفي المعرض الاستشراقي الضخم الذي أقامه المتحف الوطني في سيدني أخيراً، رأينا برنامجاً موازياً للمعرض تضمن عرض أفلام وثائقية وترفيهية ودرامية، وتنظيم ندوات مع عروض للرقائق المصورة. اضافة الى وصلات من الرقص الشرقي مع شروح لأنواعه ومصادره. كذلك جرى تنظيم دورات تصويرية يرتدي فيها الزائرون ملابس شرقية ويقلدون في جلساتهم ووقفاتهم صوراً حقيقية التقطها فوتوغرافيون عرفوا بلادنا في مطلع القرن. إلا أن الفرادة الأهم في معرض سيدني انه يضم للمرة الأولى لوحات وصوراً لم تشارك سابقاً في المعارض الدولية، خصوصاً معرض باريس، العام الفائت، علماً بأن معرض سيدني يجمع معظم ما تعلق على جدران المعرض الباريسي من ديلاكروا الى كلي. العام 1897 تجاوب الرسام الاسترالي الشاب آرثر ستريتون مع موجة الاستشراق التشكيلي في أوروبا فركب البحر الى مصر وطاف على ظهر جحش حول الأهرام معتقداً بأنه أدرك قبة السماء السابعة. كان ستريتون يومها في الثلاثين من عمره ومكث في القاهرة حوالى شهرين يرسم كل ما يجذب بصره ويغوي بصيرته. وخلافاً لمعاصريهم من تشكيليي أوروبا وأميركا، لم يجد الرسامون الاستراليون صعوبة في استقبال الشمس الساطعة والتعامل بارتياح مع الضوء القوي في فضاء الشرق. بل ان أحدهم، كوندر، كتب يقول في مفكرته: "هنا يشعر المرء بأنه في استراليا من جديد". وكان كوندر يتحدث عن المغرب ويتنقل في حياته البوهيمية بين مونمارتر وافريقيا الشمالية. وفي الفترة اللاحقة للحقبة الأولى من القرن العشرين غادر ملبورن ايمانويل فيليبس فوكس، وانطلق مع زوجته الرسامة الانكليزية ايثيل كاريك الى المغرب والجزائر. ثم تبعتهما من بالارات إي. هيلدا ريكس نيكولاس التي سكنت في غرفة عاش فيها ماتيس في طنجة، وارتدت ملابس البلد وكانت تتخفى في الزوايا والسطوح لنقل مشهد الشارع والناس. معرضها الأول في سيدني أحدث ضجة بلا نظير، ربما لأنه قليل الزركشة، من دون التخلي عن جمالية رومانسية كانت جزءاً من ثقافة زمنها. وربما لأنها أول امرأة في هذا المجال. لكن أشهر المستشرقين الاستراليين يبقى اتيان دينيت الذي عاش في الجزائر وتعلم اللغة العربية وأشهر اسلامه وأدى فريضة الحج، ورهن حياته وريشته لتبليغ الغرب صورة أعمق وأصدق عن الشرق وثقافته وناسه. وينتمي دينيت الى الرعيل الأول ممن فتحوا الباب أمام قوافل ما زالت تتدفق على ذلك الشرق، تستشرقه فيستغرب أكثر قليلاً كل يوم!