لولا تصدي بعض "الديموقراطيين العرب" لإلقاء دروس في الديموقراطية، وفي حرية البحث والتنقيب والنظر في التاريخ، على المجتمعات الأوروبية المسكينة والسادرة في التضليل الصهيوني واليهودي في أثناء الموجة الغارودية الثانية، كانون الأول / ديسمبر 1997 - شباط / فبراير 1998" ولولا إلقاء المقارنات جزافاً مثل المقارنة الخرقاء والبائسة بين قسمة قضية دريفوس فرنسا في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر إلى الحرب الثانية شطرين، وبين الصدى الهزيل والدلالة الفقيرة ل"قضية" السيد روجيه غارودي - لما وقف الواحد سطرين على دعوى الزوجين المقاومين والشيوعيين ريمون ولوسي أوبراك على المؤرخ جرار شوفي Chauvy، صاحب كتاب "أوبراك - ليون 1943"، وعلى محاكمة جيرار شوفي بتهمة التعريض والقدح والذم و"المراجعة" التاريخية. لكن زعم بعض "الديموقراطيين العرب" أن القضاء الفرنسي، شأن كل قضاء مضلَّل، إنما خصَّ مسألة "الفيلسوف المسلم" بدعوى، تحاملاً وظلماً وتعسفاً، وليس لعلة إلا انتصار الرجل للعرب والإسلام وقيامه على الباطل الصهيوني واليهودي، هذا الزعم يكذبه نظر محكمة ليون في دعوى الزوجين أوبراك على المؤرخ "المراجِع". فموضوع المقاضاة هو حق المؤرخ والمتهم مؤرخ فعلاً وحقيقة، على خلاف "فيلسوفنا" و"باحثنا" القومي في نسبة الأسطورة، والأَسْطرة، إلى رواية تاريخية يتلقاها الجمهور بالقبول بذريعة وثيقة جديدة، غير محققة، تشكك في الرواية التاريخية المقبولة والسائرة، أو بذريعة غموض يعتري رواية بعض الرواة. فيتوسل المؤرخ "المراجِع" بالقول المتشكك، ولو صدر عن أضعف "الرجال" والرواة وعن أقلهم عدلاً، إلى الطعن في صدق الخبر كله. ويتوسل بالغموض إلى تهمة الرواة ونسبتهم إلى الوضع. ويخلص من الرواية الواحدة، ومن الغموض الجزئي، إلى ترجيح رواية مخالفة، ثم إلى إثباتها خبراً موثوقاً ويقيناً. وعلى هذا جرى السيد غارودي. فحمل بعض "الديموقراطيين العرب" فعله على الفتح الفكري والخلقي والسياسي. أما السيد جيرار شوفي فتناول كتابه حادثة غامضة من حوادث المقاومة الفرنسية للإحتلال الألماني هي الوشاية بجان مولان، "منسق" حركات المقاومة، الكثيرة المشارب والمنازع والمصادر، بتكليف من الجنرال ديغول، نزيل لندن يومها. ففي 21 حزيران يونيو عام 1943، أوقعت المخابرات الألمانية، بكالوير، وهي ضاحية من ضواحي مدينة ليون، بجان مولان، وكشفت صفته ودوره تحت الإسم المستعار. ونقلت المخابرات صيدها الثمين إلى باريس، وعذبته، وقتلته في التعذيب. ومذ ذاك وجان مولان، وهو نقلت رفاته إلى "مقام" الخالدين الفرنسيين البانتيون، عَلَم على المقاومة الجمهورية الواحدة، أي الصادرة عن القيم الجمهورية الفرنسية، دون القيم المتحزبة الشيوعية، على سبيل المثال أو القومية المتعصبة بعض الحركات القريبة من الفاشية المحلية، مثل حركة "صلبان النار" التي ترأسها عقيد في الجيش. وحف الغموضُ، بعض الوقت، الوشايةَ بمولان، والواشين أو الواشي به، على ما تبين من بعد. ولما كانت مقاومة الإحتلال الألماني ركناً بارزاً وراجحاً من أركان الجمهورية الرابعة، أي النظام السياسي الفرنسي الذي خلف "الدولة الفرنسية"، على ما سمت حكومة فيشي المارشالية نفسها، ثم الجمهورية الخامسة، التي استفتى ديغول في عام 1962 الفرنسيين في دستورها - عمد اليمين القومي والفيشيّ الفرنسي إلى التشكيك في الركن هذا. فنسب حركات المقاومة الفرنسية إلى أيدٍ "غير فرنسية"، ونفى عنها وطنيتها وأصالتها، وحمَّلها التبعة عن انهيار فرنسا في صيف عام 1939. وأرجع اليمين هذا - ويتصدر اليوم السد جان - ماري لوبن انبعاثه القومي والفيشيّ ورعت مكتبة يتولاها أنصاره طباعة الطبعة الأولى من بيان السيد غارودي "الأساطير المؤسِّسة..." - أرجع انهيار فرنسا إلى إسلاسها مقاليدها إلى الأحزاب التي أنشأت فيما بعد المقاومة الفرنسية، وعمل ديغول على توحيدها ودمجها في جسم واحد، وأوكل إلى جان مولان، مثال الموظف الجمهوري و"خادم الدولة" على ما يقول الفرنسيون من غير خنوع ولا تذلل، هذا العمل. فالطعن في المقاومة، وحمل بعض أعلامها، ومن هؤلاء الأعلام بعض الشيوعيين، على الوشاية والخيانة، يعودان الطعن والحمل على اليمين القومي والفاشي نصير السيد صدام حسين على حربه على أميركا، ونصير عباسي مدني على استعادته الجزائريين من فرنسا بربح صافٍ. فالتشكيك في ركن الشرعية التاريخية الذي نهضت عليه فرنسا، وجددت بناءها السياسي والوطني، يضعف الأحزاب الجمهورية التي تتداول الحكم منذ غداة الحرب الثانية، وفيها الحزب الشيوعي، المجروح الصفة الوطنية في ضوء بعض فصول تاريخه. وتضوي صفة الأحزاب هذه اليمين الاجتماعي والكاثوليكي، والوسط الاجتماعي، و"التيار" الديغولي أو "الحالة" الديغولية، كناية عن اختلاط الأجنحة وترجحها بين يمين غالٍ ويسار مستقل، إلى ألوان اليسار المختلفة. وتكاد هذه الأحزاب والحركات والتيارات لا تجمع على شيء إلا استبعاد التحالف مع "الجبهة القومية" أو الوطنية، على ما تسمي نفسها درءاً للشبهة، وإنكار مهادنتها. ف"الجبهة" التي يترأسها السيد لوبن، وتحظى بتأييد قريب من مقترعٍ فرنسي واحد من ستة مقترعين ونصف المقترع، تدعو إلى التقوقع على "الأصالة" الفرنسية ونفي كل "غريب" وهجين ومختلط، عرقاً وثقافة وتاريخاً، منها. وعلى هذا يتشارك "الأميركي"، حامل لواء الأمركة، واليهودي، العَلَم على ضعف الانتساب إلى أرض وموطن، وداعية الإنسانية الجامعة والعامة، والليبرالي، يتشاركون في الهجنة، وفي تقديم العمومية المجردة والأسطورية على الخصوصية الملموسة والحقيقية وربما "العلمية"، نسبة إلى "علم" الأعراق، و"علم" الحياة الذي يدحض "أساطير" المساواة بين الناس وامتياز الإنسية من الحيوانية ومن "صراعها على البقاء"، إلخ.... ولا يرى اللوبني، نصير السيد لوبن، غضاضة في ضم الشيوعي، وهو "ليس له وطن" شأن الليبرالي واليهودي والكوسموبوليتي... بحسب السيد لوبن، إلى هؤلاء. وما جمعته الجمهورية الثالثة، تلك التي انهارت في صيف عام 1939، واستأنفت المقاومة جمعه، وضمته الجمهورية الرابعة بين دفتيها، لم يجتمع، على مذهب السيد لوبن وأنصاره، إلا على إنكار الأصالة القومية الفرنسية وتهجينها، وجعل الأساطير والأكاذيب الديموقراطية والليبرالية والإنسانية محل حقيقتها. وينبغي أن تتولى المراجعة التاريخية "نقد" الأساطير والأكاذيب هذه. ومن أولى مهمات المراجعة نفي كل سند تسوغ به قوى مقاومة الإحتلال النازي الألماني مقاومتها، وتسوغ طعنها على الماريشال بيتان وأنصاره تعاونهم مع المحتل النازي وامتثالهم لمطاليبه البوليسية والعنصرية. وسند مقاومة الاحتلال، ومسوغ المقاومة الأول، هو الإقامة على العقد الوطني والجمهوري الفرنسي وإنزاله إرادة المواطنية، وليس الدم والولادة الأصليين، منزلة الشرط والركن. وتحصَّل من هذا نهجٌ وطريقة امتحنا، وما زالا يمتحنان، في مسألة إبادة يهود أوروبا عن يد الأجهزة النازية، وفي التشريع الذي نص على معاقبة الجرائم في حق الإنسانية وأوكل إلى محكمة نورينبرغ القضاء فيها. ويترجح إنكار الأمرين والسيد غارودي يجمع الأمرين في إنكار واحد، والإحتجاج له، بين حدين: حد التكذيب الصريح الذي تترتب عليه تبرئة النازيين من جرائمهم وينبغي أن يحمل هذا الحد على تسويغ التعاون مع محتل لا يصدق فيه التجريم، وحد مساواة أفعال الحلفاء من غربيين وسوفيات بأفعال النازيين وعلى هذا الحد حُمل تسويغ حركات التحرر الوطنية و"تعليل" مجازرها ومقاتلها الأهلية، ويُحمل نقد الجرائم السوفياتية وتقدمها، زمناً، على الجرائم النازية. ويُمتحن النهج والطريقة هذان في مسألة غير المسألتين المتقدمتين، والعامتين، هي مسألة مقاومة الإحتلال الألماني، الفرنسية والداخلية. و"وثيقة" جيرار شوفي، وحجته على جواز المراجعة، هي مذكرات كلاوس باربي، الضابط الألماني الذي أشرف جهازه على اعتقال جان مولان، واستردته فرنسا في أوائل العقد التاسع وقاضته في عام 1989 وكان محامي الدفاع عنه السيد جاك فيرجيس، محامي السيد غارودي في قضيته الثانية ونصير شعوب المستعمرات الأوروبية دون "المحميات" السوفياتية، ودانته بارتكاب جريمة في حق الإنسانية. وكان كلاوس باربي زعم أن لوسي أوبراك وشت، في 20 حزيران، عشية الموعد، بجان مولان وبموضع اجتماع التنسيق المزمع، لقاء إخلاء الضابط الألماني سراح خطيبها وحبيبها، ريمون أوبراك. ولما كان الغموض يلف استبقاء أوبراك في السجن بمدينة ليون، حيث أفلحت لوسي برنار السيدة أوبراك من بعد في تحريره، عوض نقله إلى باريس، شأن مولان، القتيل، خلص المؤرخ "المراجع" من الغموض إلى إثبات مقالة "واضحة" تعلل الإخلاء بصفقة لا قرينة عليها إلا مذكرات باربي التي "كتبها" محاميه جاك فيرجيس أو كانت من "أماليه" إملائه. وإذا اقتصرت القرينة على زعم لا سند له سرى التشكك في كل الروايات الأخرى، وفيها رواية سابقة رواها الضابط الألماني نفسه. ففي عام 1948، غداة الحرب، استردت الأجهزة الأميركية بعض كبار رجال المخابرات الألمان. وكان كلاوس باربي بين هؤلاء. ويومها أفشى باربي اسم العميل الفرنسي الذي وشى بجان مولان، وهو رينيه هاردي، أحد رجال المقاومة الفرنسية. وكانت الشرطة الألمانية اعتقلت هاردي صدفةً واتفاقاً. وأخلي سبيله لقاء وشايته، من غير جلاء الطريق التي انتهى إليه منها علمه بالموعد العتيد. وفي أثناء محاكمته، في كانون الأول 1989، زعمَ باربي نفسه أنه أوكل إلى أحد أعوانه، الضابط فلوريك، معالجة قضية "العميل المزدوج أوبراك"، على قول كلاوس باربي. وكان ذلك في آذار مارس عام 1943، وهو الشهر الذي اعتقل فيه أوبراك، وقضاه في الاعتقال. لكن المحفوظات القضائية العائدة إلى محاكمة فلوريك تدل، من غير لبس، على أن مساعد باربي هذا لم يأتِ ليون إلا في أواخر تشرين الأول أوكتوبر من العام. وكانت انقضت أربعة أشهر وثلث الشهر على الإيقاع بجان مولان. وينقض زعمَ باربي، في أثناء محاكمته، لوسي أوبراك كانت "رسول" الوشاية وواسطتها، اقتصار العلم بالموعد المسائي على جان مولان. ومولان لم يُعلم ريمون أوبراك بالموعد والمكان إلا في يوم الموعد، في 21 حزيران، وبعد الساعة الثانية بعد الظهر. وكانت لوسي غادرت الشقة التي التقى فيها الثلاثة، مولان والزوجان أوبراك. فمن المحال أن تكون السيدة أوبراك هي ناقل الخبر إلى كلاوس باربي. وكان رينيه هاردي، المقاوم الواشي، أقر في محاكمتيه، في سنة 1948 وفي سنة 1950، بالوشاية، ولو زعم أن داعيه إليها هو التعذيب. فإذا ذهب جيرار شوفي، وقبله جيرار هيزار في عام 1983، بحسب أحد مساعدي جان مولان، دانييل كوردييه، الذي تحول في الخامسة والسبعين من العمر إلى مؤرخ محترف، إلى التشكك في تاريخ توقيف ريمون أوبراك" وإذا تردد أوبراك بين 13 و15 آذار مارس تاريخاً لتوقيفه" وإذا زعم ضابط ألماني نازي، بإيحاء من محامٍ احترف المراجعة وساوى بين كل ضروب الجرائم، عمالةَ المقاوم الشيوعي" وإذا غمضت علة استبقاء أوبراك بمدينة ليون دون جان مولان على رغم ثبوت أفعال شبيهة، واحد منها في حق جان كافاييس، أحد أعلام الفلسفة الفرنسية المعاصرة، الذي أبقاه الألمان في السجن سبعة أشهر في النصف الثاني من 1943 إلى مطلع 1944، وقتل في آخرها - إذا اجتمع هذا، أو بعضه، توسل "المراجعون" بالاضطراب الذي لا ينفك منه تأريخ الأوقات المضطربة إلى إثبات يقينٍ نقيض. وحمل أمثالَ "الديموقراطيين العرب"، وديموقراطيتهم شأن حرية "بحثهم" و"حقهم في البحث عن الحقيقة"، "بلا ضفاف" و"واقعية بلا ضفاف" وسم كتاب للسيد... روجيه غارودي انقلب فيه على ستالينيته الأدبية والثقافية المزمنة، حملهم على الإثبات، وليس على الشك، على خلاف مزاعمهم. لكن احتكام الزوجين أوبراك إلى القضاء، واستفتاءه رأياً في مسألة تاريخية، تترتب عليها آراء خلقية، لا يخلو "من وجوه"، على ما كان نقاد الأخبار والآثار يقولون. وكان أوبراك ارتضى تحكيم المؤرخين في قضيته. وانقلبت المناقشة إلى "مشادة مؤرخين"، على قول الألمان في ما كان بين مؤرخي النازية والحرب الثانية بألمانيا في أوائل عقدنا هذا. ذلك أن أحوال فرنسا والفرنسيين تحت الإحتلال الألماني لم يتناولها التأريخ المدقق والصارم، على وجه "ماضٍ لا يمضي" إرنست نولت، الألماني، إلا منذ نيف وعقد من السنين. ولم ينفك التأريخ هذا من ملابسة تعاظم نفوذ اليمين القومي في صفوف ضحايا أزمة البطالة الاجتماعية المستشرية، ومن اضمحلال الثقافة العمالية التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي أحد ألسنتها ونَقَلتها البارزين، على نحو ما لازم التأريخُ أزمةَ الوطنيات الأوروبية "من تحت" من جهة النزعات المحلية والعصبية و"من فوق" صوب أوروبا وأزمةَ العروة الاجتماعية نفسها غلبة الفردية. ولم يعدم المدعي العام، ريغرو بيلليه، بعد إنكاره على جيرار شوفيه القدح والذم من طريق الغمز والإلماح، التنبيهَ على تربص التسطيح بالتاريخ إذا عُهد به، وبروايته، إلى وصاية القضاء ومراقبته. وطلب المدعي العام قصر العقوبة على نشر الحكم، فلا تتدعى النشر. ولم يذهب محامو الدفاع، على خلاف السيد فيرجيس محامي دفاع السيد غارودي والسيد غارودي نفسه، إلى تهمة القضاء والإدعاء والقانون نفسه و"الثقافة" الأوروبية، بالانقياد للوبي المقاومة، ديغولياً كان أو شيوعياً أو جمهورياً علمانياً أو كاثوليكياً إجتماعياً وتقدمياً. ولم ينادِ أحد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولم يقل بدوران الدوائر على "البحث العلمي" وحريته. وقد يكون بعض مرد الأمر، على رغم وطأة مسألة المقاومة، إلى أن الهوية التاريخية، وطبقاتها ووجوهها، ليست صناعة يومية في المجتمعات المتماسكة، ولا هي في مهب أهواء الكتَّاب المتخففين من سنن "الصناعة" وطرائقها وتقاليدها. وعلى رغم ثقل الحركة السياسية التي يحمل لواءها السيد جان - ماري لوبن، وتجاذب المراجعة العنصرية والقومية والثقافية آراء أهل هذه الحركة، بقي معظم المناقشة التاريخية بمنأى من اضطراب الهوية الذي أصاب ألسنة الحركة ومتكلميها ومثقفيها، وحملهم على نشدان "حقيقة" خالصة من الشوائب و"الأساطير" على مثال "قومهم" و"دمهم" و"أرضهم". وهذا المثال طالما أثخن فينا.