بصرف النظر عن مصادر منطلقات الدعوة الى اقامة "حكومة موقتة" في المنفى للمعارضة العراقية، وسمواً فوق "نظرية" شائعة تعيد المبادرات وأنماط التفكير المتباعدة عن السائد الى "مؤامرة"، فإن البحث - اذا ما أخذ بسلامة نواياه - في هذا الخيار، وفي الوقت الحاضر، يكشف عن اختلال اضافي في التفكير السياسي للمعارضة العراقية. ومما يضاعف هذا الاختلال الانشغال العبثي في سير الأسماء المرشحة أو التي تتصدر الدعوة بديلاً عن الوقوف أمام احتمالات اندفاع الراهن العراقي في شعاب الترتيبات والتوافقات والصراعات الدولية والاقليمية، حيث تطرح فكرة اقامة حكومة منفى نفسها كواحدة من تجليات هذا الاستطراد الشائك للأزمة السياسية في العراق. واذ يستدعي البحث الموضوعي استبعاد سوء النية في فكرة أو دعوة اقامة حكومة منفى للمعارضة العراقية، وهو شرط الجدل المسؤول، فإنه لا يمكن نكران "الضرورات" التي تستلزم بناء مرجعية شرعية ادارية موازية للحكومة القائمة، لكي تنهض بادارة شؤون ما يزيد على خمسة ملايين عراقي أكثر من مليونين تحت الادارة الرسمية بما يتطلبه ذلك مما لا حصر له من الخدمات التي تتركز في مهمة حماية الهوية الوطنية وتسيير سبل الحياة الكريمة لهذه الملايين، فضلاً عن مهمة التعبئة لتحقيق تحول في النظام السياسي يعيد الوحدة الوطنية ويصفي أسباب الاستبداد الكامنة في حكم الفرد، ويحل مبادئ الشراكة والثقة مع الدول المجاورة محل نزعة الغزو والتهديد والمغامرة طريقاً الى فرملة العقوبات الدولية وتكييف فواتير التعويضات الباهظة. وفي أساس الضرورات التي تُحسب الى جانب فكرة اقامة هذا الشكل من المرجعية العراقية الشرعية تكمن الحاجة الى تفعيل "الحل العراقي" وسط اندفاع الأزمة العراقية الى دورة من التدويل المتكامل، حيث تفقد حكومة بغداد ارادة التحكم في الثروة الوطنية وهو عنوان التدويل وتتخلى طواعية، سوى في الاعلام، عن السيادة على مناطق في الشمال والجنوب، وتفتح ترسانتها وخطط الدفاع العسكرية والتسلح للمفتشين الدوليين ولأجهزة الرصد الدائمة، وتقبل الاذعان لمشيئة التدابير الدولية في استيراد أبسط احتياجات السوق والادارة، بل تترك صفتها كحكومة لتحمل صفة المهرب عبر حدود سيادتها هي. وتفعيل الحل العراقي هنا تمليه الأهمية الكامنة في احتواء هذا التدويل وتخفيف آثاره المدمرة عبر سياسة واقعية تعنى ببناء جسور من الثقة والاحترام المتبادل مع القوى الدولية والاقليمية على أساس استقلال القرار الوطني بعيداً عن التابعية العقيمة التي فقدت حججها وسمعتها، أو عن التحدي الاستعراضي الذي فقد رؤاه وجدارته. واذ يمكن، تأسيساً على ذلك، القبول بوجاهة الفكرة "المجردة" لتشكيل حكومة منفى عراقية فإن العقل السياسي المشغول بالمشهد العراقي في ضفتيه الداخلية السلطة والخارجية المعارضة لا بد له من ان يتقرب الى الشروط البنيوية لهذا الخيار من زاوية امكاناته على الأرض وفي النسيج السياسي للفرقاء المعارضين ومستوى استمزاج ارادتهم ووحدة ادواتهم السياسية وأشكال العمل المشترك الذي يتحركون فيه ومنه، وبدرجة أكبر من زاوية "الاستعداد" الاقليمي والدولي للتعاطي الايجابي مع خطوة بهذا الاتجاه. فالجماعات العراقية المعارضة تتشظى الى ولاءات ومحاور وتتوزع على برامج وأوهام تتناسل دوماً عن استطلاعات متضاربة ازاء المستقبل، وهي على جسامة التضحيات التي قدمتها ورغم الكفاءات العلمية والمهنية والعسكرية والبشرية التي تشكل أرضيتها أضاعت الفرص في التحول الى "قوة" تفرض ارادتها على سياقات الأحداث أو - في الأقل - على الحلول المقترحة لعراق المستقبل. وحين مزقت بيدها مواثيق عمل سياسي ائتلافي وتعهدات تنسيق بين شخصياتها ومنظماتها الجبهة الوطنية القومية الديموقراطية للعام 1980 والجبهة الوطنية الديموقراطية للعام 1981 ولجنة العمل المشترك والمؤتمر الوطني بعد حرب الخليج الثانية والجبهة الكردستانية أخيراً لم تكن لترصد صورة ذلك لدى الرأي العام الدولي والاقليمي وفي تعامل القوى الخارجية المؤثرة في مستقبل العراق السياسي، فيما لم تكن الشفقة وآيات التعاطف الخارجية مع قضية المعارضة غير مادة اعلامية انتقائية يستخدمها هذا الطرف أو ذاك لدخول نادي العراق ونيل حق التدخل في شكل نظامه السياسي القادم أو حق المحاصصة مع السلطة المستبدة في صفقة لا تتورع عن تبادل المعارضين كتبادل أسرى الحرب. ان حكومة منفى، في العادة، لا يمكن ان تقوم على أرض متشظية من الجماعات السياسية التي كفت عن ان تلتقي على الحد الأدنى من الأجندة والأهداف، فهي الاطار الأرقى لأشكال التعاون بين الفرقاء الذين اجتازوا بقواعدهم وشعاراتهم ونظراتهم الى المستقبل اختبارات مضنية من المواجهة وتنزيه الذات من الفئوية الضيقة، وقد اغتنت تجاربهم الجبهوية بالدروس الثمينة وفي الصدارة منها عقم الهيمنة وخطر النزعة الاقصائية. وهي، من جانب آخر، تتحول الى عبء سياسي حين لا تمثل جماعات متضامنة كفاية، اذ تهيئ مثل هذه الحكومة لمثل هذه الجماعات مسرح الصراع الدموي وتؤثثه بمستلزمات وأدوات الحرب الأهلية المديدة. وفي الحال العراقية المعارضة التي فرزت هوس الهيمنة والضيق من العمل التضامني الايجابي يتعذر قيام حكومة منفى تتمتع بالتفويض حتى في أبسط صورة له قبل ان يعاد بناء وحدة حيوية للأطياف السياسية المختلفة، وحدة لا تلغي الاختلافات أو تموهها بل تتولى ادارتها وضبطها وتوظيفها في خدمة برنامج الحد الأدنى، وهو تحقيق دولة العدالة والقانون واحترام حقوق الانسان. ومن البديهي القول بانعدام امكان تشكيل حكومة منفى من قبل تيار معين أو قطاع سياسي متقارب الأهداف والأصول والولاء، ليس بسبب استحالة حصوله على شرعية تمثيل معسكر المعارضة، فقط، بل أيضاً بسبب التآكل الذي يعصف بجميع التيارات والتناحر المستفحل في صفوفها. فالاسلاميون منقسمون على ذاتهم وموزعون على زعامات وتنظيمات متناحرة، والقوميون منشقون ويتناسلون يومياً عن تنظيمات وواجهات، والديموقراطيون يغيرون على بعضهم ويتحول الكثير من تنظيماتهم الى نواد للمناقشة والملاسنة، ويتراشق يساريون التهم وينأون عن بعضهم. ولا حاجة لتوصيف الخراب في داخل التيار الكردي، فيما جيش المستقلين واللاحزبيين يتزايد ليس باتجاه التحلل من القيود الفئوية نحو نشاط وطني طليق بل التحلل من التزامات الولاء لقضية الوطن المرشح للاستقالة من الخارطة. انها صورة قاتمة كما تبدو، من زاوية المهام التي القتها الموجبات التاريخية على المعارضة، ولكن ما هو أكثر قتامة يتعلق باجواء الاحتراب والتشهير والريبة بين فرقائها. تلك الأجواء التي تتفاقم لدى المنعطفات أو حين تواجه أسئلة الراهن الذي يتعين، للحضور فيه، اتخاذ موقف أو خطوة مشتركة، مهما كانت شكلية، فكيف بها اذا كانت خطوة انتقالية حاسمة انقلابية مثل اقامة حكومة في المنفى، وان شاء الدكتور أحمد الجلبي ان يختزل مهامها الى السعي لنقل الأموال العراقية المجمدة في البنوك الدولية اليها. اما شرط الاعتراف العربي بحكومة المنفى فهو ضرب من المستحيل في ظل النظرية التقليدية للعلاقات بين المجموعة العربية القائمة على معادلة: "تحتضن معارضتي في دولتك احتضن معارضتك في دولتي" عدا المخاوف العربية المتزايدة من ان يكون تشكيل مثل هذه الحكومة الشرارة لاندلاع الحرب الأهلية في العراق وانتقال فائض الحريق، وربما الحريق كله، الى الدول المجاورة في مرحلة من أخطر مراحل الاستقطاب الذي تمر بها المنطقة. ولعله ضرب من الخيال القول بأن حكومة المنفى العراقية المعارضة ستنال تأييد الرأي العام العربي، الذي لانحطاط قيم النضال القومي، يترسم في حاكم ديكتاتوري مغامر صورة داعية لاستعادة الحقوق العربية، وأغلب الظن ان على هذه الحكومة ان تحفر نفقاً من مقر اقامتها في الخارج أوروبا مثلاً الى حدود عراقية آمنة كي تتحاشى المرور بالأراضي العربية. ولأسباب أكثر جلاء، ستصطدم محاولات تأمين تأييد عالمي أميركي، روسي، أوروبي لفكرة اقامة حكومة منفى عراقية باعتراضات جدية في ظروف دخل النظام الدولي خلالها مرحلة التسويات الكبرى على خلفية حساب دقيق ومعقد، ومنزوع من البعد الأخلاقي للمصالح القومية الاستراتيجية، حيث طويت الى الأبد التقسيمات القديمة التي شهدت اقامة حكومات منفى الجزائر، فيتنام، أنغولا تتمتع بدعم أحد قطبي الصراع، فيما يرتبط اسم حكومة موقتة أو حكومة جزئية في الوقت الحاضر بأمراء حرب محليين الصومال، يوغسلافيا السابقة، أوغندا… تحولوا الى عبء على العلاقات الدولية والى أدوات للمذابح بين السكان وعناوين لاعادة بؤر التوتر القارية. واذ أخذ التنافس بين الدول الكبرى أشكالاً جديدة فإن أولى ضحايا هذا المشهد هي التطلعات المشروعة لشعوب البلدان المحكومة بالاستبداد حين تمكن حكام هذه البلدان من استمالة الشركات "الأممية" المتنفذة لتحييد حكوماتها أو لكسبها كما يحصل في المثال العراقي. ان فكرة اقامة حكومة منفى للمعارضة العراقية تأخذ مكانها الى جانب السيناريوهات العقيمة التي تصطنعها خيالات سياسية مشدودة الى الحل المسلح، غير الناضج ولا المتوافرة أسبابه، لأزمة السلطة في العراق، وهي وان داعبت أحلام البعض من الزعامات السياسية تدحرجت تحت طاولات البحث بوصفها مفارقة تثير الأسى، لا الأمل.