من يقرأ خطاب الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة في البلاد العربية، يعرف الأسباب التي صنعت لها الشعبية والنفوذ في الجمهور، ومكنتها من أن تكون أظهر على سواها من الحركات السياسية ذات التقاليد العريقة في التغلغل الجماهيري وفي كسب ولاء الناس، كالحركات الوطنية بين الحربين، والحركات القومية في سنوات الخمسينات والستينات، و - إلى حد ما - الحركات الماركسية في السبعينات. ودونما حاجة الى البحث عن أسباب هذه السطوة في العوامل الاجتماعية والسياسية العميقة أو المباشرة - على ما في ذلك من ضرورة ومن أهمية - فإن في الخطاب الاسلامي نفسه ما يسعف بفهم الكثير من تلك الأسباب، ويمثل دالة كافية على أن قوته الدعوية وحدها قمينة بأن تؤدي وظيفة صناعة السلطة الاجتماعية للحركة الاسلامية. فهو خطاب نافذ التأثير، قويّ المفعول، وجرعاته الايديولوجية تحقق الانصياع المطلوب للمتلقي، وتصنع استسلامه الوجداني الكامل لمفعولها السحري. وإذا كان هذا يصدق على أي خطاب دعوي ايديولوجي، فهو أولى بأن يصدق على خطاب يتقن انجاز كيمياء ناجعة يمتزج فيها الاجتماعي بالأخلاقي، والسياسي بالمقدس، ويرتفع عنها أي استفهام من قِبَل الجمهور. ثمة ملاحظة ابتدائية في هذا الباب: يفلح الخطاب الاسلامي كثيراً في التموقع بقوة في حالات تمظهره المختلفة، وتسجيل نجاحات بيّنة في اللحظات المختلفة لاشتغاله. فهو يستعير الطهرانية الدينية في السياسة، فيبدو خاباً أخلاقيا على مستوى من العفة تنقاد إليه النفوس انقياداً. وهو يجسّد الواقعية السياسية في صورتها الجليّة على صعيد الدين، فيقنع جمهوره بأن الإيمان ليس محض عقائد وشعارات والتزامات مع الخالق، بل فعل إنفاذ لأحكام الدين في الدنيا، وصدوع بشمول الفكرة الاسلامية مجال المصالح والمنافع ومجال العلاقة بين المخلوقين. وفي الحالين، يحتكر القول الاسلامي تمثيل الدين في السياسة وتمثيل السياسة في الدين، فيكون خطاب الواجب في الممكن خطاب الدين في السياسة، وخطاب الممكن في الواجب خطاب السياسة فيالدين. ونحن إذ نسميه احتكاراً، فلأن فرص المنافسة معه ضعيفة وباهتة، إن لم نقل منعدمة، بسبب انقطاع الصلة بين سائر خطابات السياسة وبين مجال الرمز الديني. ينتمي الخطاب السياسي الاسلامي في القواعد والمقدمات، بل في نظام المفاهيم، الى الخطاب الايديولوجي والسياسي العربي المعاصر، وهو ينهل معطياته من ذات الثقافة السياسية التي نهلت منها سابقاته: فهو خطاب دعوي، تبشيري، تحريضي، يتجه الى التعبئة والتجييش والتحشيد مثل سواه مما يشترك معه في ذات الأسس. وهو خطاب يميل الى أن ينجز تواصلاً سهلاً مع جمهوره يحقق له الظهور = القوة والنفاذ، فلا يركب مركب التعقيد والتركيب، وبالجملة، فإنه ليس أكثر من طبعة من طبعات الايديولوجيا الشعبوية: الايديولوجيا الأوفر حظاً في مجال تنمية جمهور السياسة. ومع ذلك، فإن القوة الشعبوية في خطاب الاسلاميين تنتهل. أسبابها من مصادر أخرى مانعة: نعني من مصادر لا يشترك في الاعتياش منها مع الخطاب الاسلامي سائر الخطابات السياسية الأخرى. أول تلك المصادر الدين: خطاب الحركات السياسية الاسلامية منفرد في باب تنمية الصلة بين السياسة والعقيدة على نحو ما شهدته تواريخ الاسلام في ظاهرة الفرق الدينية. وفي هذا لا يشبه إلا نفسه، أو هو لا يشبه إلا خطاب ردائفه من فرق الاسلام الوسيط مع تعديلات حملت عليها متغيرات الواقع، هي أنه ليس خطاباً في العقيدة ليس فقهاً ولا كلاماً، بل هو خطاب في السياسة، أو قل هو شيء أقرب ما يكون إلى ما تجوز تسميته ب "علم الكلام السياسي". وحين تؤسس الحركات الاسلامية المعاصرة خطاب السياسة على الدين، تكون قد استثمرت في مجال رمزي خلو من أية منافسة، وضمنت عائدات مجزية وأرباحاً صافية، ومن ذلك كسب جمهور عريض من جند الدعوة، ومن الأنصار والمؤيدين يغتني به مشروعها السياسي ويرتفع به رصيد الشرعية لديها. وهي لا تكون قد بلغت هذه المرتبة من الظهور = القوة على غيرها، إلا لأنها نجحت في تصميم خطاب بسيط المعاني والمفردات، يسير النفاذ في جمهور المتلقين، عظيم التأثير في وجدانهم، خطاب قمين بإلهاب حماستهم وتعبئة مشاعرهم، لأنه منهم ومن صلب ذهنيتهم العامة خرج. وهذا مما يعسر أمره على سائر الحركات السياسية الأخرى، ومما يسبغ التميز والفرادة على الشعبوية الاسلامية. أما ثاني تلك المصادر فهو موقع المعارضة الذي منه تنطلق الحركات الاسلامية المعاصرة، فيصنع لخطابها الصدقيّة المطلوبة. فالاسلاميون - ما خلا حالتي ايران والسودان - وحدهم لم يتسلموا السلطة أو يمارسوا الحكم، خلافاً للقوميين، والماركسيين، والوطنيين، والليبراليين، الذين تجرعوا مرارة الاخفاق الذريع لمشاريعهم، والذين انهارت - بنتيجة ذلك - شرعيتهم في رأي الجمهور عينه الذي محضهم التأييد وعقد لهم الولاء في ما مضى من أيام عنفوان دعواتهم. ومع أن تجربة السلطة في ايران والسودان كانت - وحدها - تكفي كي تضع الاستفهام بشدة على نوع المشروع السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي الذي يحملون، إلا أن حصار حكومات الغرب لهم رفع من رصيد شرعيتهم الوطنية. وهو عينه الرصيد الذي ارتفع في الجزائر وتركيا بعد انقضاض المؤسسة العسكرية - والقوى "العلمانية" المتحالفة معها - على المسلسل الديموقراطي الذي جاء بالاسلاميين الى السلطة، فظهر أمرهم - في امتداد ذلك الانقضاض - حماة للدستور والديموقراطية وذوي شرعية سياسية داخلية.