1 من اللائق ان نفتتح المشهد بأغنية. لها ألقُ الايجاز. أبيات قليلة يتقاسمها مقطعان. كلمات معدودات. بعدد أصابع اليد. مثلاً. وكلٌّ بيت يصدر عن صوت. أبيات لأصوات. لا ندري بالضبط لمنّ هي هذه الاصوات. ولكنها جريحة. سهمٌ اصاب الحنجرة. وبالدم امتزجت الكلمات. كلمات مدماة. اذن. في أبيات. ومقاطع. بأصوات لا نعرف اصحابها. وهي جميعها تتناوب في ترديد الاغنية. التي تليق. بما يمكن ان نسميه. أنتَ أو أنا. يمكن ان نسميه نحنُ. رغم ان ما نقصده من نحنُ لم يعد واضحاً. هناك جماعة. لنقل ذلك. ونكتفي به. أصوات جريحة. لأفراد. في جماعة. أبيات اغنية. تليق. بالصمت. أحس بهيبة امام هذه الابيات. وأنا أدرك. جيداً. انها لم تكتب. بعدُ. أضع خطاطة في ذهني. للحالة. ولا أفكر بتاتاً. في الابيات. لأني أترك لها ان تتشكل. كما تشاء. فما يستولي عليّ. الآن. هو الحالة. التي تأتلف في صورة. أراها امامي. تلتئم او تتفسخ. دون ان أميّز بين الائتلاف والتفسخ. معاً تتصالحان. ومعاً تنتظمان في الورود على ذهني. الآن. وأنا أحاول ان اتفحص وجهاً هو. العاجزون. باسم واحد. باسماء متباينة. بأنت وأنا. اللذين رافقا سويعات من الحلم. على مصطبة. في آخرة الدهليز. جدار يرتفع خلف الحلم. والاسماء لا تعني. بعد. شيئاً. تلك الاغنية التي لم اكتبها. يصعب ان تصدُر عن عملية ذهنية. وهذا ما أنا متأكد منه. بحكم ان الحساسية هي. على الدوام مصدرُ الاغنية. اما الذهن. كما نعلم هو لشؤون التخطيط. التنظيم. التقسيم. التوزيع. التدقيق. عينات لما يتهيأ له الذهن. وهي تماماً تجافي الاغنية. بالحساسية تنشأ. وترتفع من أسفل الصدر الى الغرفة. المعلّقة بين ظلمتين. مع قليل من الحركات التي لا تشوش على الصمت. سيّد الاغنية. العاجزون. اصوات تصعد. وئيدة. دوائر من بخار. ومن حلكة. ترتفع الاصوات كما ترتفع سيقان نباتات. كنت وعدتها بعدم الكشف عن اسمائها. ذلك لا يجدي. بالنسبة لي. على الاقل. هناك اغنية قادمة. احسّها في الحلق. تتنفس بعضاً من الهواء. ولها قوة ألا أراها. هل أنا الآن. انصت اليها. أم أنني أتوهم قدومها. في شكل أبيات. ومقاطع. احسبها رنينا. وما هي برنين؟ أوه. هذا السؤال الصعب الذي يعود اليّ منتصراً. عليّ. كلما اقبلت على التفكير في الامر. وكأنني لا اعثر في الحالة إلا على ما يُناقض الكلمات. الواسعة. او الفضفاضة. كما نقول. ونحن نستدرك التوقف غير المعهود في الفصاحة. ذلك العيّ الشهير الذي سقطت بسببه نفوسٌ لحظة الاختبار. عندما الكلمات تُصبح على شفا حفرة. من الفقدان. ولا يعود بمستطاعك ان تدخل لعبة الفروسية التي تحدد المال. وأنت لا تغادر الحالة. ولا تتراجع عنها. هي فيك. جامدة. بدخان يتكون في اسفل الحلق. على مقربة من الحنجرة. 2 فاجأتني الاغنية. وأنا أتهيأُ للصمت. العاجزون. أراهم على هذه الخريطة. الممتدة للبلاد العربية. منذ اللحظة التي حاولوا فيها ان يجرّبوا الفصاحة. القديمة. في زمن يناقض الفصاحة. أو يهجموا على الحساسية المتبدلة. وحيدين. بين أقران يسخرون ويقهقهون. لقد أرادوا ما أرادوا. ان يستيقظوا. هذا هو التعبير الملائم. نعم ان يستيقظوا. ومعهم تستيقظ ثقافة. وتستيقظ امة. بأكملها. ان يسيحُوا في الارض كي يتعلموا. لغة لزمنهم. أسئلة بها يفلتون من اسر اللغة الميتة. وهي تتباهى بالفصاحة. يحملون فوق اكتافهم آلاماً لا عدّ لها. وفي وجعهم يرحلون. كيف لي ان أنسى كل ذلك. في هذا الزمن. ونحن لا نتذكر ما حدث. أو نوليه مرتبة ما لم يكُن؟ في السؤال ذاته يتعرّى الغطاء. ولا يبقى مما كان سوى هذا الصمت. متعاظماً. يُساوى بين ما لا يتساوى. عادة احس ان الثقافة العربية الحديثة. استطاعت. الى حد ما. ان تتبنى زمنها. رغم العواصف المذهلة التي سعت الى اقتلاع الجذور. بدون رحمة. وفي غمرة ما أفكر فيه ينتابني. ضحك. عليّ ان اضحك. أليس كذلك؟ ضحكٌ ومتاعب حياة يومية. هو ما تبقّى. لي. من ذلك الزمن. حيث كانت السياحة مرتبطة بالتعلم. وبمحاولة التعرف على الزمن الثقافي الجديد، الذي لا نستدركه الا بالمعرفة. المتعددة أنا. في الحقيقة. دائخ. ذلك الدوار الذي أصابني وأنا في مقتبل العمر. يعود من جديد. مع الكهولة. تلك المسافة الزمنية التي كانت تفصلني عن الثقافة الحديثة. هي اليوم مضاعفة. مرات. وتلك العطالة التي جمّدت الفاعلية. تدخل اليوم. أوجها. وبما بوتيرة. غير مسبوقة. الافكار. الحلم. القيم. أين هي الآن؟ وكيف يمكننا الخروج من هذا الدوار؟ أنا دائخ. أنبه نفسي. والدوخة. تتعمم في كامل الجسد. تلك الدوخة التي كان الرأس وحده يشكو منها هي الآن. دوخة تسري في الاعضاء. بدلاً من الدم. والرأس. صديقي القديم. لا يثق بدوختي. هي اكذوبة. تقول لي عيناه اللامباليتان. لربما كان أعلم مني بنفسي. وبما أفكر فيه. حتى اقصى الحبسة. لا اعترض عليه. بتاتاً. والدوخة تعنيني. انا. التمس الراحة. فاذا بالفراش حممٌ وبالمخدة اشواك. أهذا كلّ ما عليّ ان اجنيه من التفكير في شؤون ثقافة لا تنتمي لزمنها؟ لست منفرداً بالدوخة. وهذا بحد ذاته مطمئن. إلا ان الاطمئنان. لا يفيد في ازالة الدوخة. ربما كان يصعّدها. اكثر. نحن العاجزون - بما سنجيب ابناءنا وهم لا يؤمنون بشيء مما كنّا ولا يعرفون ما علينا ان نكون. في عالم يقذف بنا الى خارج العالم. ليس العالم هو وحده المسؤول عما يصيبنا. لنكفّ عن مثل هذه الحماقات التي لا فائدة منها. مهما بدت لنا الامور بعكس ذلك. الشأن شأننا. ولكن. من نحن؟ هذه النحن التي تعذبنا. ولا نعرف من هي؟ اسمع شيخاً يناديني. من بعيد. هل التبستُ عليه أم هو الذي التبس عليّ؟ يناديني من أجل ان ينصت لي. سأسرع في الحديث. فوراً. الليلة رأيت رؤيا. وأنا دائخ. بما رأيت. عندما كان اسلافي يرغبون في التصريح بما يشغلهم يلجأون الى الرؤيا. ثم كانت الرؤيا تعني الكشف. وهنا لا كشف لي. الزمن يتكلم على لساني. وأنا منصاع لما يتكلم به. انه يسأل عن المآل. ولا جواب لي. يبدو انني مُقبل على الحالة. وهي ما استشعره. يوماً. بعد يوم. 3 الكلمة. العاجزون. تلازمني. عندما أبصر وأتابع الحركة الثقافية العربية. مغرباً ومشرقاً. هذا الانسحاب الجماعي الذي يحرم الفكرة. أقصد فكرة الانتماء للزمن. كما هو يتبدل في اميركا واوروبا وآسيا. عالمٌ نواجهه. على الدوام. بكلمة. نحنُ. وأنا لا أعرف ما معنى نحن. وهذا عَناء يصعب التخلص منه. نحن الثقافية. التي لا تزداد الا تمزقاً بين اروقة العطالة. التي تسيجنا. نسعد. حقاً. بالتظاهرات الكبرى. بالجزل في العطاء. بالتقاط كلمات غريبة لا نحسن النطق بها. وهي مع ذلك بمثابة عملة صعبة في سوق التداول الثقافي. جميل. جميل. والسياج يضيق. يحاصر الانفاس. في مكان مُثلج. قريب من البحر. والهواء صحراؤنا. اتسعت. وفي خطبنا تموت الفصاحة ذاتها. سأسيء الفهم او اعتقدت انني مُتشائم. ذلك ما لا يفضي الى الحالة. انها مركبة. تستعصي على التنميط. التشاؤم. هناك ما هو أبعد من التشاؤم. ولا أُحسِن الوصف الذهني. لأنني دائخ. حنجرتي مدماة. وفي اعضائي. دخان. رأيتني مع العاجزين. صفوفاً تطول. من أجل لا شيء. هذا الصوت الجبّار الذي كان يلازمني. الغناء. بمن اكون. ها هو يتخلى عني. ويلوب. بالاكمام يغطي نصف الوجه. نصف القفا. ويبتعد. ناجياً من حطام. هل أنا أم غيري؟ اصرخ فيه. ولا استنجد. اطوقه. ألامه. في الدخيلة. مستجمعاً حُطاماً به انطق. وحطاماً به اضيع. لعل. امني نفسي. وفي كل مرة. ها هي ذي نحن التي لا اعرف. غريب. ما يحاصر الانفاس. في المقابل اشاهد الظافرين. متكئين على فرش من سُندُس وحرير. بفصاحتهم يازلون عملهم اليومي. في الاندماج حسب ما تتطلبه الايام. ولا تسأل احداً ولا تُحرج. ان الزمن الخاص يهرب الى الامام. تقنيات نُخاطبها ونسعد بما تجودُ به علينا. أقبل ايها المطمئن على زمنك بما يرضيك. اطِعهُ واستغن عن نفسك. إنك هناك تتوهم. فأحسن التوهم. ايها المطمئن. وفّه حقه من التبجيل. والخضوع. فأنت لا تشهد على نفسك. تتركها تلتهمك. وتلقي بك الى اقباء السعادة الماكرة. هناك تصون اطمئنانك من سعار يصيب من لا يطمئنون مثلي. ويظلون. بين ما لم يكونوا وما لن يكونوا. هكذا ستنتشي. في ركن بيت. محاطاً بامجاد لا عهد لك بها. وبميراث. هو لك وحدك. 4 أُعيدُ على الورقة. العاجزون. ولا أندم. هذا الشتات الذي يشملنا. والجهل بمن هي هذه النحن. التي لا نتوقف عن عرضها على شرفات بيوت مهجورة. نتفاخر بها كلّما اقتضى الامر. في المناسبات المقامة. صيحة في واد. فيما حياتنا الثقافية لا تجرؤ على لمس المجهول. للمناسبات اللياقة والمجاملات. طبعاً. والحوار الاعمى هو ما نُقبل عليه. دون ان نتخلى مرة عن جبروت منه نستقي لازمة الحضور. عقودٌ من الزمن تتوالى. ولنا كلٌ ما نشتهي. فلا نكف عن ادعاء ما لسنا. كثقافة امة. سأصرّ على اننا من صلبها خرجنا. عبر طرق تناسيناها وما هي. بعد. لنا. ان المسألة لا تتطلب تشاؤماً. فذلك هين. ان نتشاءم. ولكننا عاجزون. اكثر مما تبدى لأسلافنا الحديثين. وهم في المشرق والمغرب يتلمسون الطرق المفضية الى ذات تلتحم بزمنها. لكل تجربته. وعلى التاريخ الصعب. لهذه الثقافة العربية. ان ينتظر. ربما. ازمنة قادمة. لا دليل لي عليها. لا ترى العين الا ما تسمحُ لها به المسافة. وهي تضيق. وطنيات تتقلص الى منافع مباشرة. تسدّ بها رمق الجائعين. ولمنطق الوطنيات واقعية ملموسة. أفادت فيها من تاريخ حديث. ومن فكرة مستبدة. ومغلقة. ذلك حقّها. في البحث عن سُبل. تضيق. بدورها. هناك ما يُلزِمُ باختيار ما يتناقض مع الفكرة. وفي وُسْعنا ان نفهم. هذا الزمن. الغائب. عنّا. 5 متأكد من ان النطق بكلمة. العاجزين. لا يفيد. في الرؤية ولا في السمع. وهي مع ذلك التي تخطفني. وتشير عليّ بأن اجهر بها. من الحلْق. والحنجرة. والكلمات المدماة. أبسطُ أمامي تاريخاً واقعياً يومياً. أعاود التأمل. والعاجزون كلمة تظل محدقة في البياض. انها تراقب ما سأكتب. فقد اخونها رهاناً على ما يعدُنا به التوهم. أو ربما اطردها رجاء ان اشفى من الكتابة. في زمن ينفي وجوداً. هو ما يمنحني اسماً. في عالم يدمّر ما يعجز عن تسمية نفسه.