تحدث الفريق الفاتح محمد بشير بشارة مدير مكتب الرئيس السوداني الراحل ابراهيم عبود حتى تنحيه عن الحكم في 1964 عن الطريقة التي تسلم بها الفريق عبود السلطة، انصياعاً لتعليمات رئيس الحكومة الاميرالاي عبدالله بك خليل الذي ضاق ذرعاً بالتناحر مع منافسيه الحزبيين. ويكتسب حديث الفريق بشارة عن الرئيس السوداني الراحل أهمية خاصة بسبب عدم وجود ترجمة معتمدة لسيرته، كما أنه لم يترك مذكرات. وكان شأنه في ذلك شأن غالبية أقطاب الحركة الوطنية السودانية الذين لم يعتنوا بجوانب التدوين والتوثيق. يواصل بشارة الرد على أسئلة "الحياة": رعى الفريق عبود عدداً من مشاريع التنمية الكبيرة، مثل مشروع المناقل الزراعي الذي يعتبر امتداداً لمشروع الجزيرة الزراعي العملاق. لكن الرجل مع ذلك يوصف في أدبيات السودانيين بأنه ديكتاتور ... - لو كان كذلك حقاً لقمع ثورة 1964 في مهدها. إذ كان بمستطاعه أن يأمر الجيش بالتدخل لعرقلة المظاهرات والاجتماعات الحاشدة. والواقع أن لكثيرين مصلحة في إخفاء بعض الحقائق لأشياء في أنفسهم. نعم كان هناك شيء من التململ لدى بعض القطاعات، وربما كان سببه اكتمال مشاريع التنمية الكبرى، خصوصاً في المدن. وعززته رغبة بعض الاحزاب السياسية في العودة الى السلطة. لكن من المؤكد أن عبود لم يكن معزولاً طوال سنوات حكمه. شارك الشيوعيون في انتخابات المجلس المركزي، وساهم حزب الشعب الديموقراطي - وهو حركة اتحادية - بإصدار المذكرة التي اشتهرت بمذكرة "كرام المواطنين"، وكنت شاهداً على وقائعها. وللتاريخ، أقول كان هناك ضابط في القوات المسلحة يرى أن على الفريق عبود أن يصدر قراراً بحل المجلس الاعلى للقوات المسلحة، ليس بغرض تسليم السلطة الى الشعب، وإنما لتهيئة المسرح لقادم جديد بإيعاز من أحد الاحزاب السياسية. وحين رضخ عبود لقرار الحل، لم يفعل تلبية لمطالب الضابط المشار اليه، ولكن بعدما استشار زملاءه أعضاء المجلس الاعلى، بالطريقة التقليدية السودانية الزاهدة في السلطة. والمدهش أن الحزب الذي أشرت اليه غيّر رأيه بعد صدور قرار الحل. وفجأة أضحت التظاهرات تطالب برأس ذلك الضابط الذي اعتقل اسوة بزملائه من كبار الضباط ونقل الى سجن زالنجي في دارفور غرب السودان. صحيح، كانت هناك نواة لما يسمى حركة الضباط الاحرار. ولا أعتقد أنهم كانوا المحرك الاساسي لثورة 1964 كما يقولون. لكني أستطيع أن أؤكد أنهم وراء رفض عودة الضباط الى الحكم بعد حل المجلس الاعلى للقوات المسلحة. تردد كثيراً أن استشراء الفساد في المنظومة العسكرية العليا كان وراء ثورة الشعب على الجنرالات. كيف كان الفساد يومذاك؟ - عقب تغيير كل نظام يتداول الناس حكايات غريبة عنه وعن رجاله. وبعد نجاح ثورة تشرين الاول اكتوبر 1964 راجت أحاديث وحكايات كثيرة عن الفساد، ولعل أبرزها ما قيل عن أن عضو المجلس الاعلى اللواء حسن بشير نصر كان يعلف جياده الزبيب. وانطلق قادة ثورة 1964 يصمون أسلافهم بكل ما هو معيب ومشين. ومع أنه نصبت محاكم فهي لم تثبت أي تهمة فساد على الضباط الكبار. وليس هناك دليل على عدم فساد ذمم أولئك الضباط أبلغ من القول إن الفريق عبود توفي فقيراً في منزله في الشارع ال 47 في حي العمارات في الخرطوم. ومات اللواء حسن بشير فقيراً. ومات اللواء محمد مجذوب البحاري في مسكنه في حي المساكن الشعبية في الخرطوم بحري، وهي قطع الارض نفسها التي وزعت للمواطنين الفقراء في عهده. الواقع أن الهدف من تداول تلك الحكايات تشويه صورة أولئك القادة والضباط في أذهان الآخرين. وقد أطلت هذه الممارسات مرة أخرى إثر سقوط نظام الرئيس جعفر نميري. وهي حقاً ظاهرة مؤسفة نرجو أن تبرأ منها الأجيال المقبلة. هل كان هناك جهاز للأمن في نظام الرئيس عبود؟ - كلا. كان السيد محمود أبارو، وهو ضابط شرطة رفيع المستوى، قد عين مسؤولاً عن القسم الخاص التابع لرئاسة الشرطة. واختير لمعاونته عدد من ضباط الشرطة الأكفاء وهم: عبدالقادر الأمين وزيادة ساتي والتهامي مدني. كان هؤلاء يأتون بتقرير يومي للرئيس عبود في مكتبه عن حال الامن في كل أرجاء البلاد. ليس معنى ذلك أن الرئيس الراحل كان معزولاً عما يجري في المدن السودانية على الصعيد الشعبي. والواقع أن أجهزة أمنية أخرى كانت تطلع الرئيس بانتظام على ما يدور في البلاد كوحدة الاستخبارات العسكرية وقسم المباحث الجنائية التابع لوزارة الداخلية. تعرض حكم عبود لمحاولتي انقلاب. الاولى لم تنته بأحكام قاسية. الثانية انتهت بإعدام الضباط الذين حوكموا. ما هي ملابسات أول أحكام إعدام نفذها النظام الجديد؟ - تزعم محاولة الانقلاب الاولى الأخَوَان شنّان شنان اخوان كما يطلق عليهما في السودان. وأمر عبود الضباط بالانضباط الذي تتطلبه ظروف البلاد. وحوكم الأخوان شنان ورفاقهما علناً عبر أجهزة الاعلام. واتهم في المحاولة الثانية عدد من الضباط ابرزهم علي حامد والصادق محمد الحسن وعبدالبديع علي كرار بتدبيرها وتنفيذها. كانت المحاولة مرصودة. ووجه الرئيس عبود تحذيراً الى علي حامد من خلال عمه السيد الدرديري محمد عثمان عضو لجنة الحاكم العام التي مهدت للاستقلال. لكنه لم يرعو، واتفق مع عدد من الضباط منهم عبدالحميد عبد الماجد صهر محي الدين شنان، وضباط من خارج الخدمة العسكرية فصلوا لارتباطهم بمجموعة انقلابية سابقة، ومنهم الطيار الحربي الصادق محمد الحسن وعبدالبديع علي كرار ويعقوب كبيدة. وخالف هؤلاء قانون القوات المسلحة بارتداء البزة العسكرية، وكسروا مستودعات الأسلحة في الكلية الحربية، وقرروا تصفية القائد العام وأعضاء المجلس الاعلى. وتحركوا مع الموالين لهم صوب القيادة العامة، لكن القائد العام اللواء حسن بشير نصر تصدى لهم بقوة من سلاح الهجّانة ردعتهم في طور التنفيذ. شكّل المجلس الاعلى للقوات المسلحة محكمة عسكرية برئاسة اللواء محمد التيجاني. وتقدم عدد من كبار رجال المحاماة في البلاد للدفاع عنهم. وكانت جلسات المحاكمة تبث يومياً. وحكم عليهم بالاعدام ووافق المجلس الاعلى في اجتماع عقده بكامل هيئته على الاحكام بالاجماع. وتأسف عبود شخصياً على قسوة القرار بحكم أبوته وكبر سنه. لكنه كان مؤمناً بأن الأقدار شاءت ذلك. كيف كان عبود ينظر الى مهمة ضباط القوات المسلحة؟ هل كان يطالبهم بعدم ممارسة السياسة؟ - كان الرئيس الراحل شديد الانضباط. وكان إذا قرأ شيئاً في الصحف كتبه أحد الضباط، يوجه بإبلاغه بأن عليه الالتفات الى مهماته العسكرية. إن تجربة عبود أشبه ما تكون بتجربة أتاتورك في تركيا. ليت ما تم في السودان بعد نجاح ثورة نيسان ابريل 1985كان شبيهاً بتلك التجربة التي وضعت قانوناً صارماً لتنظيم عمل الاحزاب السياسية وضبط الممارسة السياسية برمتها، ومراقبة الموارد المالية للأحزاب، ومنع اتصالها بجهات أجنبية. وفي هذا الاطار توضع أسس العمل الصحافي الحر. لو حدث ذلك لما انقاد السودان الى ما أُدخل فيه. شارك زعماء "الأمة" و"الوطني الاتحادي" في الثورة التي أطاحت عبود. لكن العلاقة بينه وبين عميدي بيتي المهدي والميرغني لم تكن بتلك الدرجة. أليس كذلك؟ - جاء عبود أصلاً من منطقة شرق السودان التي تقع تقليدياً ضمن معاقل الطائفة الختمية. لكنه كان يعتبر نفسه شخصاً قومياً غير منحاز لأي فئة في البلاد. لذلك كان يحترم آل المهدي. وربما تجلى احترامه للبيتين الكبيرين في سماحه للسيدين الميرغني والمهدي بمقابلة الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو لدى زيارته السودان. كما سمح الرئيس عبود لكل من السيدين الميرغني والمهدي بإقامة حفلة شاي في السرايا الخاصة بكل منهما على شرف الرئيس جمال عبدالناصر لدى زيارته للسودان. ولا زلت أذكر دوي هتاف الأنصار آل المهدي حين قال عبدالناصر أمامهم في سرايا المهدي "إن مصر الحرة المستقلة سند للسودان الحر المستقل. وللتاريخ: لم يكن عبود خاضعاً لأي تدخلات مصرية طوال حكمه. يحكى أن خلافاً حصل بين الرئيس والسيد علي الميرغني في شأن طلب الاخير عدم نقل رفات القائد المهدوي عثمان دقنة من حلفا أقصى الشمال الى مسقط رأسه في شرق السودان الذي يعد من معاقل نفوذ الميرغني... - كانت مسألة نقل رفات البطل عثمان دقنة، الذي احتجز بعد القضاء على الدولة المهدية ونفي ومات في حلفا القديمة العام 1926، مرتبطة بطلب أهل حلفا القديمة نقل كل متعلقاتهم وممتلكاتهم بعد قرار تهجيرهم إثر الاتفاق مع مصر في شأن تنفيذ السد العالي. وأثار الموضوع الوزير زيادة أرباب بحكم أن مصلحة الآثار تتبع لوزارته. وتطور الأمر الى جدال بين الأنصار والختمية كاد أن يقود الى فتنة، لولا حكمة الرئيس عبود. هل كان الرئيس عبود يلتقي سياسيين من زعماء العهد الديموقراطي الذي أطاحه انقلابه؟ - لم يمانع في مقابلة أي سياسي طلب مقابلته. وأذكر جيداً أنه التقى وزير الخارجية السابق مبارك زروق والوزير السابق يحي الفضلي، وكلاهما من قادة الحزب الوطني الاتحادي. لكن الرئيس اسماعيل الازهري لم يطلب مقابلة عبود. يتحدث السودانيون كثيراً عن رحلات الفريق عبود الخارجية ويضربون المثل بنجاحها. كيف كان يأمر بتخطيط برنامج رحلاته؟ - لم يكن عبود يقبل دعوة رسمية الى زيارة أي دولة ما لم تكن ممهورة بتوقيع رئيس الدولة الداعية. وأذكر أنه رفض تلبية دعوة الى زيارة بريطانيا جاءتنا من رئيس الوزراء البريطاني سير أليك دوغلاس هيوم. وقال لنا إنه لن يلبي الدعوة ما لم تكن صادرة عن الملكة اليزابيث الثانية. وجرت اتصالات بين حكومتي البلدين، وعدل كتاب الدعوة باسم الملكة. وحين وصلنا الى بريطانيا وجدنا الملكة وزوجها في استقبالنا في محطة فيكتوريا. وأذكر أننا رافقنا الرئيس الراحل الى اسكوتلندا، وهناك حذر أحد الضباط البريطانيين الفريق عبود من ضرورة أن يقطع رحلته لاسكوتلندا بسبب خوف الشرطة من نية جماعات تبشيرية مسيحية في اغتياله. وكان قد أصدر قرارات بابعاد المبشرين من جنوب السودان بسبب تورط بعض القساوسة في الحرب الاهلية هناك. لكن الرئيس رفض مطلقاً فكرة قطع الزيارة. وناقشني الضابط البريطاني في ذلك فقلت له إن الفريق عبود رأى في حياته الكثير من الاهوال فماذا عساه سيرى أكثر مما رأى. فأعجب الضابط بشجاعة عبود. ومن الزيارات التي لا تنمحي من الذاكرة، زيارته ليوغوسلافيا تلبية لدعوة من الماريشال تيتو. وأعتقد أن عظمة الاستقبال وضخامة الحفاوة التي قوبلنا بها هناك تعزى الى رغبة تيتو في رد الحفاوة الكبيرة التي قوبل بها في السودان بمثلها أو بأحسن منها. وحرص تيتو على توجيه دعوتين شخصيتين خلال تلك الزيارة الى حاكم مديرية كردفان العميد الزين حسن وضابط بلدية مدينة الابيض عاصمة كردفان محمد السيد الشعار. أما الزيارة المميزة للرئيس الراحل فكانت الى مصر تلبية لدعوة من الرئيس جمال عبدالناصر. وكانت علاقتنا مع مصر منظمة وراسخة آنذاك، وربما كان ذلك عاملاً رئيسياً في التوصل الى اتفاق مياه النيل مع مصر العام 1959. لكن كثيرين يتحدثون عن تفريط عبود في حقوق السودان في المياه، وقبوله تعويضات ضئيلة في مقابل إغراق منطقة وادي حلفا. وأظنك تذكر مظاهرات أهالي حلفا الذين رفضوا بديلاً من منطقتهم حتى لو أعطوهم لبنان... - للتاريخ أقول إن تلك الاتفاقية لم تكن مجحفة بحق السودان كما يقال الآن. والواقع أن ما أثاره أهالي حلفا من ضجة نابع من رغبة معظمهم في أن ينقلوا الى موقع جنوبالخرطوم حيث تصلح المنطقة للسكنى. وفي الوقت نفسه كان المزارعون يريدون المنطقة التي وقع عليها الاختيار أصلاً - منطقة خشم القربة - لانهم يريدون مشاريع زراعية واراضي شاسعة. وشهدت الصحافة العالمية آنذاك بضخامة مشروع خشم القربة وملاءمته لايواء أولئك المواطنين. وأنا لا أقر الانتقادات التي وجهت الى التعويضات التي حصل عليها السودان من مصر، ولا الحديث عن تفريط بمياهنا، لأننا - حسبما أعتقد - لن نستطيع استغلال حصتنا الكاملة من المياه حتى القرن المقبل. والواقع أن زيادة حصتنا المائية بموجب اتفاقية 1959 أدت الى زيادة الرقعة الزراعية، خصوصاً الاراضي المروية رياً اصطناعياً. ومن المفارقات أن انتقادات مماثلة وجهت الى الرئيس السابق جعفر نميري بعد التفكير في مشروع قناة جونقلي في جنوب السودان، ولو تم تنفيذه لزادت حصتنا وحصة مصر من المياه زيادة كبيرة، ولأمكننا الحصول على قدر أكبر من الطاقة الكهربائية ما أشد حاجتنا اليه. ومع أن أطروحة الدكتوراه التي حصل عليها زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" العقيد جون قرنق كانت عن مشروع القناة فهو قد اختار مع ذلك أن يأمر قواته بقصف الحفارة الفرنسية التي صنعت خصيصاً لهذا المشروع العملاق ودخلت كتب الارقام القياسية باعتبارها الاكبر من نوعها في العالم. حكام السودان المستقل نال السودان استقلاله من الحكم الثنائي الانكليزي - المصري في 1956. - اسماعيل الازهري 1956. - عبدالله خليل 56-1958. - ابراهيم عبود 1958-1964. - سر الختم الخليفة 64-1965. - محمد أحمد محجوب 65-1966. - الصادق المهدي 66-1967. - محمد أحمد محجوب 67-1969. - جعفر نميري 69-1985. - عبدالرحمن سوار الذهب 85-1986. - احمد الميرغني 86-1989. - عمر حسن البشير 1989-.