ثمة مغالطة قديمة مفادها: "يعقبه إذنْ بسببه". ان العواقب التي هي مثيل النتائج، تتحكم بها اسبقية ما قبلها كالمقدمات. وبما ان النتائج متتالية او تظهر على نحو سردي فان المقدمات ستكون تدريجية ايضاً، اشبه بالمطولات التي تُختتم عادة: بأن كل شيء ضروري. وتزويد المقدمات بنتائج سابقة، تزويد الاسباب بأسباب جديدة، هو ما جعل القول الاول مغالطة، ذلك القول الذي منذ تحوله، في الذهن، الى مبدأ لمبادئ الواقع والفكر سيجعل منا متلقين للاسباب القطعية وغير متدخلين بنتائج ممكنة، اي ان عملنا لا يختلف عن حسابات التنجيم بالمعنى القديم. فما قد وقع سيتكرر في ما يقع، وهكذا من غير اضافات نوعية، وانما ببراهين مترامية الاعداد، والواقع الذي نحصل عليه هو ما نتماشى معه ابداً وليس ما تعتلج فيه الصيرورات. والحصيلة هي ان المؤرخ مثلاً يتماهى مع التاريخ الذي ارتضاه قبله المؤرخون، وواضع قواعد اللغة يتماهى مع القوالب، باعتبارها اللغة، من حيث كونها هرماً مغلقاً. وعلى هذا النول لن نستطيع الانتقال من "مجلس الوجود الى مجلس الفكر"، كما كان يقال. واذا كان الحاضر غير قادر بالضرورة على تقبّل ما لم ينتجه الماضي فان المضيّ في استهلاك الحاضر وفق قواعد التوجيه التي انتجها الماضي. فما وجدناه آنذاك لم نجد سواه الآن، لكن شروط وظروف وبيئات الحاضر ليست ما كان الماضي حافلاً به، اذن، علينا القبول بشروط وظروف وبيئات الماضي - من الناحية التي يقوم بتصورها الايديولوجيون - ونستسلم لزحف حوادثه المتكررة بالقرائن والتأويلات مهما كانت متقطعة. الواقع: هذه مسألة منهجية اكثر من كونها مشكلة عيانية، مرّةً نماحك بها الماضي الحيّ ومضايقاته لتفاوت الواقع المتململ، ومرّة نخدع بها الحاضر الذي لا نريد ان تشغلنا سفسطاته الى ما لا نهاية. ان الاعجاب فحسب بالماضي هو مثل رفضه المطلق، ومها بدت الاطروحات المرافقة للموقفين راهنة فانها لا تسمح للحاضر بأن يمثل نفسه تاريخياً وان تظهر حقوقه في تعيين خصائص الوقائع والازمنة السابقة كما هي واجباته في تشريف المستقبل، ولعل الالتزام الضيّق بمشكلات الذات، الالتزام ذا الطابع المؤقت الذي يبدو لتوتره وكأنه طابع أزلي - ابدي، هذا النوع من الالتزام يجعل منا غير مناسبين لمناقشة شروط وظروف وبيئات الآخر، التي هي اليوم جزء حيوي من مشكلات الذات. ان الذات تعلو علواً زائفاً جراء التشجيع الذي تلقاه للضغط على كونها وحدها مشكلة متعلقة باسباب لا فكاك منها الا بترحيلها اما الى الماضي او الى الآخر. وهذا الطرفان غير متكافئين، فالماضي يدخل في الزمان والآخر في المجال الانساني، لاننا هكذا تقول مسألة النهج الذي نعانيه معانة متفانية اذا اخترنا طرفاً مكافئاً للماضي، وليكن الحاضر، فلن نفعل شيئاً، حسب المغالطة القديمة، ولذلك علينا استبدال الحاضر بالآخر لتكون المقارنة بينهما، وليكون البرهان من خلال المقارنة وهذه مشكلة منهجية اخرى، على ان الآخر لا يدفع ثمناً كما ندفع نحن، اذن علينا اختياره قد نختار ماضيه بشرط ان لا يكون حاضرنا. تبدو بعض عثرات الطريقة وكأنها تعمل بالاتفاق او التخاطر، هناك من يقول: ان مشكلاتكم، من حيث كونكم امّة ضمن العالم، هي فيكم، وان تحرركم الذاتي ضروري، وبحيث ان لا يتم باتجاه الذات بل بالتضحية بها. وهناك من يقترح عائقاً داخلياً وخارجياً مترابطين، فمشكلات التخلف واقعة ولا بد بوجود الرأسمالية والامبريالية العليا. وقد يكون هناك من يقول: ان عليكم نسيان موضوع التحرر الذاتي، فهذا سيتم تلقائياً اذا تحررتم من وجهة نظركم بالآخر… وهكذا تمضي المقارنات المختلفة الاطراف نوعياً، اشبه بالاستدلالات والبراهين، بين: الجغرافيا والديانة، القومية والتاريخ، بحلم الافراد وغايات وأبنية المؤسسات، المتطلبات الواقعية والتطلعات الافتراضية …الخ. لكن كيف نفهم: ان مشكلاتنا الذاتية، مشكلاتنا كما هي، تتراجع عن الحل كلما تراجع تحليلنا لها، التحليل الملموس لواقع ملموس، واذا كان الكلام هنا يقصد الى مشكلات النهج المتعلقة بخلط اطراف المقارنة، فإنه ليس بعيداً عن المفاهيم الاجرائية التي تتأرجح في يد عدد غير قليل من باحثينا، وكتّابنا، بين النظريات والقوانين