يعرف المطرب راغب علامة أنه، وإن يكن اساسياً في جيل الشباب الغنائي العربي، فإن هذه الصفة تخفت كثيراً حين الإعتبار يختص بالأغنية اللبنانية تحديداً. فهو المطرب الذي له موقع مميز في مساحة الإقبال الجماهيري، عربياً، كأنه قرر، وعن سابق تصور وتصميم، الإنحياز الى الأغنية باللهجة المصرية غالباً، والخليجية أحياناً، أما اللبنانية ففي حدود الأقل الأقل! ولم يكن راغب علامة، في ما قبل السنوات الخمس الأخيرة، بهذه الصورة. ذلك ان الأغنية اللبنانية النص، واللبنانية - الفولكلورية المنحى الموسيقي، كانت جزءاً رئيسياً واضحاً من نتاجه، وكان حريصاً على أن كل كاسيت يجب ان يتضمن أغنيات لبنانية، بينها "العصري"، وبينها الفولكلوري، وبينها الكلاسيكي، وفي لحظة قد تكون غير محسوبة العواقب، خَلَت كاسيتات راغب من هذا النوع، والاتجاه الى اللون المصري اتخذ أبعاداً مركزة بشكل حجب أي لون آخر... التفسير الذي يريد ان يضع اليد على حقيقةٍ ما بهذا الشأن، هي، بوضوح، أن راغب علامة، في المراحل السابقة كان يهدف الى توازن في التعامل مع جمهوره المحلي اللبناني، وجمهوره الآخر العربي، وتحت هذا الشعار نوّع في ما يغني من ألوان، غير أنه، بعدما حقق الحضور الجدي في الساحة اللبنانية التي تستقبل وتتقبل كل النكهات الغنائية، بدأت تلح عليه في التفكير والممارسة عملية إقامة التواصل الأكبر مع الجمهور المصري الذي كان أحب راغب في أكثر من أغنية تحمل لهجة هذا الجمهور الخاصة. ومن هذه النقطة انطلق خيال راغب علامة الى انتشار أكبر ونجومية شعبية يعتقد الكثير من أهل الغناء، والفن عموماً، أنهما لن يتحققا من دون مصر. على هذا المستوى، استطاع راغب علامة، عبر أكثر من أغنية ان يقارع نجوم مصر اليوم في الغناء، وأن يكسب في منافستهم جولات عديدة داخل مدن هذا البلد العربي الذي فيه أكبر نسبة مستمعين ومهتمين ومشتغلين وطاقات فنية، وفيه يخضع الفنان العربي، من أي بلد أتى، لامتحان، هو الأصعب، مع الجمهور العريض المترامي الأطراف من جهة، ومع التجارب الغنائية والموسيقية المصرية من جهة ثانية. وحقق راغب في الجهتين خطوات كرّسته فناناً غنائياً عربياً قادراً على أن يجتذب الأنظار ويحرّك وجهات النظر سلباً وإيجاباً، وأن يهزّ الإعلام العربي كلّه في حادثة إطلاق النار عليه في الأردن، قبل عام، مثلاً! ولعلّ ذروة الذكاء في تجربة راغب علامة الغنائية هي أنه، يلتقط الأغنية الناجحة "على الطاير" كما يقول المثل العربي. فمن بين عشر أغنيات، مثلاً، يستمع إليها راغب من ملحن، لا يجد صعوبة في الهتاف إعجاباً، وفوراً، عندما ينقاد عاطفياً الى أغنية معيّنة من بين العشر، لنكتشف بعد ذلك، أنه بالفعل اختار الأغنية الأكثر قرباً الى عقلية الجمهور، جمهوره هو، هو بالضبط. وأعتقد أن هذه الميزة هي سبب بقاء راغب علامة في صدارة المطربين العرب الشباب، من دون أن يعني ذلك أنه قدّم معجزات في نوعية أغانيه، أو اجترح مستحيلاً في إمكانات صوته. فراغب علامة، يفهم، تماماً، ما هو صوته، وما هي مساحات صوته، وما هي معاني صوته، وأين يرتفع صوته وأين يحط، وأين يكتمل صوته وأين ينقص، ويفهم في آن معاً من هو جمهوره، وما هي طريقة جمهوره في التعاطي معه، وما هو حجم جمهوره. ومن هذا الفهم يبدأ، ويبلور التجربة، ويعمّقها ويبني بها حضوره. فقد حظي راغب علامة بالتعرف الى نوعية أغنيات خفيفة، إيقاعية، رشيقة، وأحياناً كثيرة أنيقة، وراح يمعن فيها حتى صار من الطبيعي جداً لأي ملحن لبناني، أو عربي، ما إذا وضع لحناً معيناً قال: هذا لصوت راغب علامة. والمعنى أنه كوَّن شخصية غنائية عشقها هو أولاً، ومن بعده عشقها الناس. ودرجة عشق راغب علامة لحياته الفنية، عالية، وتبزّ أصحاب التجارب المهمة. إنه العشق الذي "منهُ ما قَتَل" أحياناً! ومنذ ثلاث سنوات، شعر راغب، بإحساس لاقط أن مزاج الجمهور العربي ككل، وجمهوره هو تخصيصاً، تحوّل متطلباً أكثر وراغباً أكثر في الإطلالة على تلوين إضافي في الأغنية، إذ استراحت موجة الإيقاع السريع الصاخب نسبياً، وبرز ميل حقيقي الى هدوء ما في الأغنية، فركض مهرولاً في هذا الاتجاه كما يظهر من كاسيته الأخير قبل سنتين، ومن أغنيات كاسيته الجديد الذي سيظهر قريباً. ويقول راغب أنه أصر فيه على التغيير، بأعلى ما يكون، ما يطرح مشكلة دقيقة تبحث في هل راغب علامة يتحكم بجمهوره أم العكس!؟ ونعود الى السؤال المدرج في أول المقالة: أين الأغنية اللبنانية اللهجة في نتاج راغب علامة!؟ تتقدم أم تتراجع؟! تتكاثر أم تنحسر!؟ وهي استفهامات تجد لها أرضاً خصبة في الإستفاقة اللبنانية الفنية على ما هو محلي حقيقي، كونه الأكثر تعبيراً عن الذات الفنية، وبه يصير التماس المباشر مع الآخرين، جمالياً، على المحك. ... وإلا فماذا كان يفعل الأخوان رحباني وفيروز ووديع الصافي وصباح وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وآخرون!؟ ... إلا إذا كانت هذه التجارب والخبرات لا يكفي أنها لن تتكرّر، بل ستذهب كالزبد جُفَاءً