تُحدث تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة تغيرات فائقة السرعة في الاعلام العربي الى درجة لا يمكن معها ملاحظة الحاضر إلاّ وهو يتغير أو يتوارى عن الأنظار. ففي كل يوم تقريباً تظهر صحف عربية جديدة تنتج على الكومبيوتر، أو قنوات اذاعية وتلفزيونية فضائية ساتلية، أو نشرات ألكترونية ومواقع اعلامية على شبكة الانترنت. وينفرد الاعلام العربي بظاهرة لا مثيل لها في العالم تتمثل في نشوء مراكز اعلامية عربية دولية واسعة النفوذ تنافس الاعلام المحلي، لكنها واقعة خارج العالم العربي، بعيداً عن السلطة الرسمية والتشريعية والقضائية لأي دولة عربية. السيمفونية الاعلامية ولا تمثل هذه الأحداث سوى افتتاحية المعزوفة السيمفونية التي ستهز البيئة الاعلامية العربية في السنوات القليلة المقبلة. مؤلف هذه المعزوفة هي التكنولوجيا الرقمية التي تدمج صناعات الاتصالات والمعلومات والترفيه. ولن يستطيع الاعلام العربي تجاوز صدمة المستقبل التي يعاني منها حالياً إلاّ حين يفكر بالاعلام في جميع أشكاله كمعطيات "متعددة الوسائط". فالصور المتحركة ليست سوى نوع خاص من بث المعطيات أو "البتات". وينبغي أن لا يقتصر التفكير بپ"البتات" على مستوى أجهزة ومعدات الكومبيوتر والتلفزيون فحسب، بل على مستوى تنظيم وادارة الاعلام. ويصعب في الوقت الحالي تصور نتائج الثورة الثقافية والتربوية التي ستتعرض لها أجيال عربية جديدة تتحول الآن من متلق سلبي للمعلومات يبثها التلفزيون الى لاعب ايجابي يختار بنفسه المعلومات ويصمم بنفسه اعلامه الخاص. ولا يمكن فهم الاعلام في الوقت الحالي من دون ادراك تداخل وتلاحم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ويكتشف المسؤولون الاعلاميون فجأة أن الاتصالات جزء من صميم العمل الاعلامي. فلن يكون أي مشروع اعلامي عربي في منأى من التأثر بالثورة التكنولوجية والتنظيمية الجارية في الاتصالات. وقد يكمن أخطر آثار التكنولوجيا الجديدة في عولمة الاعلام العربي وتدشين أساليب جديدة في حرب المعلومات تجعل الساحة الاعلامية الميدان الرئيسي للحرب. الرقمنة وتشبه التكنولوجيا الرقمية "حساب الجُمل"، الذي كان علماء الرياضيات العرب يستخدمونه في القرن العاشر للميلاد. ففي "حساب الجُمل" يجري تحويل الأرقام الى حروف، حيث يمّثل الرقم واحد بحرف الألف ورقم 2 بحرف باء ورقم 3 بحرف جيم، وهكذا حتى رقم 1000 الذي يمثّل له بحرف الغين. ويمكن في حساب الجمل تمثيل العدد 1111 بحروف "غقيا"، وتمثيل العدد 2000 بحرفي "بغ"، والعدد مليون بحرفي "غغ". ويجري عكس ذلك في التكنولوجيا الرقمية، حيث تتحول الحروف الى أعداد، لكن بدلاً من استخدام جميع الأعداد للتمثيل عن الحروف أو المعلومات يستخدم العدد الزوجي فقط "1" و"0". وهذه هي القاعدة التي قام عليها الكومبيوتر. فالكومبيوتر حاسوب، كما يسمى بالعربية. والحواسيب، كما يدل اسمها تتعامل بالأرقام وتحول جميع أنواع المعلومات الى الرقم الزوجي واحد وصفر. كل حرف وكلمة يُحوّلان الى العدد المقابل لهما من هذين الرقمين اللذين يشكلان وحدات المعلومات التي يطلق عليها اسم "بتات"Bits. وتعتبر كل 8 "بتات" مساوية ل "بايت" Byte واحد. حرف "الألف" مثلاً يصبح 11000111، وحرف الباء 110010000. وتصبح عبارة "الخليج العربي" وفق المعيار القياسي المستخدم في البرمجة: 11000111 11100100 111001110 11100100 11101001 11001100 11000111 11100100 11011001 11010001 11001000 111001001 فلسفة التقنية وتحول التكنولوجيا الرقمية Digital Technology جميع أنواع المعلومات سواء كانت مرئية أو صوتية الى "بتات" يمكن بثها عبر الأسلاك النحاسية أو عبر الأثير أو الألياف الضوئية. ويحدد عدد "البتات" التي تبث في الثانية الواحدة مدى أو "عرض نطاق" bandwidth قناة الاتصال. إنه المقياس الذي يقيس عدد "البتات" التي يمكن نقلها عبر القنوات المختلفة لانتاج النوع المطلوب من المعطيات، كالنصوص المكتوبة والمنطوقة والأصوات والموسيقى وتسجيلات الفيديو. على سبيل المثال تعتبر 64 بتة في الثانية ملائمة تماماً للنقل الصوتي عالي الجودة، ومليون و200 ألف بتة في الثانية مناسبة للنقل الموسيقى الرفيع، و45 مليون بتة في الثانية ممتازة لنقل الفيديو. ويعود الانتشار السريع للتكنولوجيا الرقمية الى النجاحات غير المتوقعة في تقنية ضغط المادة الرقمية الصوتية والصورية. ففي غضون السنوات الثلاث الأخيرة حققت تقنية ضغط واختصار المعلومات Compression منجزات لم يكن متوقعاً تحقيقها قبل القرن الحادي والعشرين. وتعتمد تقنية الضغط على الغاء التفاصيل غير الأساسية في أي معلومة يجري نقلها سواء كانت صوتية أو مرئية. وهي تجسد الفلسفة الفيزياوية لتقنية المعلومات، التي تقوم على أساس مفهوم "أن المعلومات تقلّل اللايقين". وتعتبر تقنية ضغط المعطيات وتصحيح أخطاء البث الدافع الأساسي للتحول السريع الجاري نحو التلفزيون الرقمي. إذ يمكن حالياً بث أربع اشارات تلفزيونية رقمية عالية الجودة في المدى عرض النطاق bandwidth نفسه الذي يستخدم لبث تلفزيوني واحد مشوش يتم بواسطة "التقنية المثلية" Analogue Technology . ثورة الاعلام العربي وتفتح هذه التقنيات الأبواب للثورة التلفزيونية المقبلة التي تحمل عشرات، بل مئات القنوات التلفزيونية للمشاهدين في أي مكان في العالم، بما في ذلك المنطقة العربية. لكن جوهر الثورة الاعلامية لا يكمن في التغيرات الكمية بل في التغيرات النوعية، وبالذات في تداخل أجهزة الهاتف والتلفزيون والكومبيوتر. فالتكنولوجيا الرقمية التي تحول جميع أنواع المعطيات السمعية والمرئية الى "بتات" تدمج صناعات المعلومات والاتصالات والترفيه. وغالباً ما تُقارَن الثورة الاعلامية الجديدة بالثورة التي أحدثها اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي. ومن أجل تصوير حجم التغيرات المقبلة يلجأ الدكتور نيكولاس نيغروبونت مدير مختبر الاعلام "ميديا لاب" Media Lab التابع لمعهد ماتساشوستس للتكنولوجيا MIT في الولاياتالمتحدة الى الحزورة الدارجة التالية: ما مقدار المرتب الشهري الذي يناله شخص يبدأ العمل بأجر يومي يبلغ بنساً واحداً ثم يضاعف ضعفين كل يوم؟ الجواب المفاجيء الذي تكشف عنه الحزورة هو 10 ملايين دولار. لكن الحزورة تنطوي على مفاجأة أكبر عندما تكشف أن المرتب في شهر فبراير يقل عن ثلاثة ملايين دولار. يعود الفرق الجسيم البالغ 7 ملايين دولار الى اختلاف عدد الأيام بين شهر شباط فبراير وباقي شهور السنة الذي يبلغ في المعدل ثلاثة أيام. هذا هو حجم القفزة المقبلة في صناعات الاعلام، التي تقف حالياً على مشارف الأيام الثلاثة الأخيرة. نافذة المستقبل وتمثل الصحف العربية التي تنتج بواسطة الكومبيوتر نوافذ مطلة على المستقبل المدهش للاعلام. فالتكنولوجيا الرقمية التي تستخدمها صحف عربية كثيرة حالياً تحول نصوص المقالات والتقارير التي يكتبها المحررون على الكومبيوتر الى "بتات". ويجري بث معظم تقارير ورسائل المراسلين ووكالات الأنباء على شكل "بتات" أيضاً عبر البريد الألكتروني أو الانترنت. وتُرقمن الصور والرسوم أيضاً وتبث على شكل "بتات" عبر الأسلاك على غرار النشرات الأخبارية لوكالات الأنباء. ويتم تصميم الصفحات وتوضيبها عبر الكومبيوتر، الذي يبثها كمعطيات رقمية عبر الأقمار الصناعية أوالكبلات الهاتفية الى المطابع، حيث يجري تحويلها الى أفلام طباعية. هذا يعني أن محتوى وبناء الصحيفة رقمي بالكامل من البدء في تنضيد المقالات والتقارير وتصميم الصفحات على الكومبيوتر وبثها الى المطابع وحتى المرحلة النهائية، حيث يتم كبس الحبر على الورق. هنا تتحول "البتات" الألكترونية "النابضة" الى "حروف ميتة"، كما يقال في لغة الصحافة. لكن هذه "البتات" يمكن أن ترسل في شكلها "النابض" الأصلي الى المستهلك الذي يستطيع طبعها على الورق أو خزنها داخل جهاز الكومبيوتر، حيث يمكنه التعامل معها كمعطيات ألكترونية وفهرستها واختيار ما يرغب في قرائته منها وحفظ ما يريد وأرشفته داخل ملفاته الكومبيوترية. هذه المعطيات النابضة تمثل الخطوة الجديدة في ثورة الاعلام المقبلة على العالم العربي. المقال مقاطع من دراسة في كتاب "قمة أبوظبي : مجلس التعاون لدول الخليج العربية على مشارف القرن 21" الذي أصدره مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بمناسبة انعقاد قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية الاسبوع الماضي