عدت لتوي من حضور افتتاح موسم الأوبرا الجديد في دار الأوبرا المشهورة "لا سكالا" في ميلانو، بصحبة أصدقاء أعزاء. وإذا اعتقد القارئ أنني أحاول اغاظته بهذا التصريح فما عليه سوى ان يقرأ حتى النهاية. حفلة الافتتاح باللباس الرسمي يحضرها وجوه المجتمع الايطالي والأوروبي، ووجدت ان المتفرجين على المتفرجين أمام دار الأوبرا وحولها، أضعاف الناس مثلنا الذين حملوا بطاقات لحفلة الافتتاح. وكان المصورون عند الباب يصورون الداخلين كلهم، على اعتبار ان من يحضر افتتاح موسم الأوبرا لا بد ان يكون مهماً. وسُئلت بعد تصويري عن اسمي، وقال المصور محتاراً: كازان، كازين، ثم قرر عدم تظهير الصورة. الأوبرا لم تكن "كارمن" أو "لاترافياتا" "ريغولتو" أو "عايدة"، أو أي شيء أعرفه أو سمعت به، وانما كانت "غوتردامرونغ" أو "غسق الآلهة" من تأليف ريتشارد فاغنر. وهي بدأت الساعة السادسة مساء، واستمرت حتى الثانية عشرة إلا ربعاً، مع استراحتين كل منهما نصف ساعة، فيكون طول الأوبرا أربع ساعات و45 دقيقة، أو خمس ساعات إلا ربعاً. خرجت من دار الأوبرا وأنا أقصر ببوصتين مما دخلت بعد ان تداخلت عظام عمودي الفقري بعضها ببعض. وقد حسبت أنني في الوقت نفسه كنت أستطيع أن أصل بالكونكورد من لندن الى كراكاس، أو الى بيروت في طائرة عادية. غير ان هذا كان أهون جانب من الأوبرا، فالبرنامج بالإيطالية، والغناء بالألمانية، وهما لغتان لم يصل علمهما إليّ. ونظرت حائراً وسمعت، وأمامي رجلان من حجم بافاروتي يتنافسان على حب امرأة في حجمهما معاً. أو على الأقل هذا ما قدّرت انه موضوع الأوبرا، ولكن تركت الاحتمالات الأخرى مفتوحة، فربما كان الأمر ان موضوع الأوبرا هو مؤامرة في بلاط أحد ملوك الراين، أو مقدمات حرب شبه جزيرة القرم. في اليوم التالي اعطاني صديق ترجمة بالانكليزية لمو ضوع الأوبرا، ووجدت انه اسطورة جرمانية يصعب فهمها بأي لغة، فهي عن ثلاثة اشخاص على حبل القدر، يتحدثون عن أشياء كانت أو ستكون، أحدهم فقد عينه بعد ان شرب من بئر الحكمة، وهناك لعنة من مستوى فرعوني. أما البنت بروينهيلده، فتعير حصانها الى سيغفريد، وهذا يعطيها خاتمه، والخاتم مسحور، يتوقف مصير العالم، أو الأوبرا، عليه. وأتوقف هنا، فأنا اكتفيت بالمقدمة، من دون الدخول في الفصل الأول من ثلاثة فصول، لذلك أرجو ان يقدر القارئ انسانيتي، ورأفتي به. على الرغم من كل ما تقدم، كانت الموسيقى جميلة جداً في بعض مقاطعها، وصوت المغنية رائعاً، ينسي المستمع احياناً أنها في حجم شقة صغيرة. وأدار المايسترو الشهير ريكاردو موتي الأوركسترا بمهارة فائقة، ما جعل الحاضرين باستثنائي يصفقون طويلاً في النهاية، فترفع الستارة له وللمغنين بضع عشرة مرة اعتقد انني كنت في المطعم أتناول العشاء، والمتفرجون لا يزالون في لا سكالا يصفقون ويعيدون المايسترو موتي من وراء الستارة. وقرأت في اليوم التالي عن خلاف بين موتي ووزيرة التراث الايطالية جيوفانا ميلاندري، فهي تغيبت عن الافتتاح، وقال موتي ان الوزيرة تفضل ان تحضر مباراة كرة، لأنها حضرت المباراة بين فريقي جوفنتس وقلعة سراي في تركيا، على حضور الأوبرا. وردت الوزيرة محتجة، فقد تغيبت بسبب ارتباط مسبق، زعمت ان موتي يعرف تفاصيله. ووجدتني في صف الوزيرة، فأنا أيضاً أفضل ان أحضر مباراة في كرة القدم، ثم ان جيوفانا ميلاندري وزيرة حسناء في الخامسة والثلاثين فقط، فهي أصغر اعضاء الحكومة الايطالية سناً، ما يعني انني لو حضرت مباراة "كورة" برفقتها لاكتمل السعد. طبعاً هذا لن يحدث فعندي مرافقة أمنية من أهل البيت، وقد سررت جداً، أن أجد مع وصولنا الى ميلانو ان المدينة تحتفل بعيد شفيعها القديس امبروزو، والأسواق التجارية مغلقة، و"حنانيك بعض الشر اهون من بعض". واعتبرت ان اغلاق الأسواق من رضا الوالدين. واستمر الرضا الى ما قبل الرحيل بساعة، عندما فتحت الاسواق ولحق بي ضرر اقتصادي بالغ، فإذا سمع القارئ ان الاقتصاد الايطالي انتعش في الربع الثالث من هذا العام، فهو سيعرف السبب. جلست في طائرة العودة ألملم جروحي الاقتصادية، وجاءتني بعد الإقلاع مضيفة سألتني: هل أنت مستر كازان؟ وقلت لها: تقريباً، فقالت إنها تتحدث باسم شركتها، وتسألني اذا كنت أحتاج شيئاً، وتعرض تنفيذ رغباتي. واعتقدت ان في الأمر "مؤامرة"، الا ان المضيفة كانت سوداء، ما يعني انها صديقة للعرب، فلو كان البشر كلهم سوداً لكنا في أحسن حال. وقلت لها: يعني لم تعرضي تنفيذ رغباتي الا وزوجتي الى جانبي. صحيح ان "اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى"... في لندن، أو ميلانو، أو في الطائرة بينهما.