كم من سؤال طرح حول الفوضى البصرية في المدن الحديثة؟ هذه الفوضى التي اصبحت تفرض علينا عناصر غريبة ارتبطت بتطور طرق المواصلات ووسائط النقل، حتى لأصبح كل زقاق، بل وكل منعطف يكتظ بقواعد السير الملصقة بصورة مباشرة امام كل عين، فأضحى المرء لا يدرك الطريق وقواعده الا من خلال تلك العلامات واللوحات، والتي اثرت بالتالي على فلسفة الطريق، كونه ببساطة شديدة. ممر ينتقل عفوياً بين اقطاب المدينة.. لنعد قليلاً الى فترة ما قبل استحداث آليات النقل الحالية، وانتقال فلسفة الطريق من المقياس الانساني، الى مقياس اضخم بكثير. يُعرّف الطريق بصورة عامة، بأنه الممر الذي ينقل الشخص لا ارادياً في صخب الحركة بين نقطتين معلومتين، والمقصود هنا بالنقطتين المعلوميتين: هو ان هذا الممر يجب ان يعرّف ضمن محيط دائرة اطار منظومة اكبر، ويدرك كجزء من كل. وهذا هو ما نراه فعلياً عند النظر الى اي نسيج حضري من الاعلى، فنجد ان نقاط تجديد النسيج والخطوط المحيطة بالعمران، المتشابكة فيما بينها هي ما يعرف بالطرق.. ولحظة تجريد النسيج من حدوده العمرانية تختفي الطرق ليصبح النسيج أشبه بكتلة هلامية غير معرّفة. وعليه فان النسيج وشبكة مواصلاته يعملان معاً في خط واحد، وهو ما يمكن تقريبه الى فكرة عمل القفل والمفتاح، اذ لا يعني احدهما شيئاً بدون وجود الآخر، ولكل مفتاح شكل يتطابق تماماً مع قفله، وبخلافه، فلا معنى لدراسة عنصر من دون معرفة خصائص مكملاته. من هذا المبدأ، انطلقت الافكار العامة لتحديد شكل ومميزات الطريق، وبالرغم من ان عملية ايجاد نقاط دالة كالعلامات المرورية ولوحات الاسترشاد هي عملية ايجابية، الا ان هناك محاور مفهومية، تقوم في جوهرها على المنطق غير المباشر لادراك الانسان، اعتمدها المخططون وقتذاك لتعريف كل طريق بشكل يوفر خصوصية ومميزات تختلف في ادائها حسب وظيفته والغرض من ايجاده. ولتسهيل عملية استيعاب مراتبية الطرق في المدن القديمة، يجب اولا فهم الغرض من ايجاد هذه المراتبية والعوامل التي تحدد هذا التنوع. ان الغرض الاساسي من ايجاد الطريق، كما قلنا، هو بناء محور نقل حركي وبصري، من نقطة الى اخرى. قد تكون هاتان النقطتان واقعتين داخل المحلة الواحدة، او داخل نسيج مدينة ككل، او قد تتعدّى احدى النقاط لتخرج الى خارج جسم المدينة. ان هاتين النقطتين تحددان في الاغلب نوع وشكل الطريق، تبعاً للمسافة بينهما اولاً، ولما يقع بينهما ثانياً. فالانتقال بين اجزاء المدينة يتم بشكل يختلف عن الانتقال بين المدينة وخارجها، والعكس صحيح. ينطلق الكلام هنا على المدن التي لعب فيها عاملا الخصوصية والامان دوراً رئيساً، ومنها المدن الاسلامية، يضع المجتمع هنا ثلاثة اهداف: أولها حماية المدينة ككل، وهذا هو العامل الاهم في مدن ما قبل الاسلام وثانيها توفير اكبر قدر من الخصوصية للفرد، داخلها، وثالثها الحفاظ على التلاحم المطلوب للمجتمع ككل. قد تبدو هذه الموازنة صعبة، ولا تخلو من تناقض، الا ان تحقيقها ضروري في ذلك المناخ، التزاماً بالتصورات القائمة آنذاك عن الفرد، والمجتمع والدين. كانت هذه الطرق، تبعاً للفترة التاريخية التي ظهرت فيها، مصممة على المقياس الانساني فقط، آخذة بنظر الاعتبار طبيعة وسائط النقل وحجومها: مقياس الجمل، او عربات نقل الدواب التي تجرها الدواب، ولم تكن عربات نقل الافراد قد برزت بالنظر لصغر رقعة الكيان الحضري. وعليه، فيمكن دراسة الطرق في هذا النمط من المدن، حسب انواعها اولاً، ليمكن من بعد ذلك تحليل العناصر التعبيرية التي دخلت على هذه الطرق والتي يمكن ان تحل محل الاشارات المرورية في المدن الكبيرة لأسباغ نكهة أو طابع معين على هذا الطريق او ذاك. أنواع الطرق يتحكم عامل الخصوصية بالدرجة الاولى، بتنوّع الطرق واختلاف اشكالها. من ان تصنيف الطرق، هنا، لا يختلف كثيراً عن طريقة التقسيم في فلسفة التخطيط الحديثة، الا ان الغرض الجوهري هنا يختلف تماماً، ذلك ان التصنيف الاول يهتم باظهار الخصوصية الفردية او ما يطلق عليه عموماً: المفهوم الاجتماعي، في حين ان التصنيف الثاني يهتم اساساً بنوعية الخدمة، وعلاقة الطريق بالمحاور المهمة، وادائه بالنسبة الى خدمات المدينة الاخرى اي المفهوم الوظيفي أو الخدمي. الطرق العامة الطريق والشارع فالطريق العام في المدن الحديثة أشبه ما يكون بالنهر الذي يمتد طولياً، ليجمع حوله المستوطنات التي تتلاشى تدريجياً بالابتعاد عن مجرى النهر. يخترق هذا الطريق جسم المدينة بوضوح واستقامة، ليعرف المنطقة الرئيسية في النسيج، حيث يجمع حوله كل النشاطات الاجتماعية والتجارية العامة، اضافة الى انه يربط داخل المدينة بخارجها، فهو يربط بين أقطاب المدينة واطرافها من خلال نقاط سيطرة تتجه الى خارج المدينة. عادة ما يتخذ هذا الطريق سوية مع ملحقاته المذكورة شكلاً شريطياً متدرجاً، حيث نجد قوامه واضحاً جداً بينما تبدأ النشاطات بالضمور تدريجياً كلما اتجهنا الى داخل الجسم، وتتحول ان وجدت الى فعاليات محلية تخدم مجموعة محددة ومعروفة من السكان. ان الشكل الواضح للطريق العام وعرض دفتيه يعطيانه قدرة على استيعاب أهم فعاليات المدينة حيث يقع المسجد الجامع الذي ينفتح عليه، مباشرة اضافة الى المقاهي والساحات العامة وباقي الفعاليات الاجتماعية والترفيهية، اضافة الى المنطقة التجارية التي تعمل على جذب القادمين من خارج المدينة وخلق عقدة تفاعل اجتماعي وتجاري بين المدينة وجوارها القريب والبعيد. أهم ما يميز هذا الطريق هو محوريته القوية، حيث يوفر محوراً بصرياً للسحب قوياً حتى ان المرء يرى آخره بمجرد الوقوف في أوله، وهذا يسهل من عملية قراءته واستيعابه بسهولة أكثر، وبالتالي خلق مناخ العمومية فيه. وعليه يعتبر الطريق العام بمثابة العمود الفقري لجسم المدينة فهو لا يأخذ شخصية مستقلة عن المدينة بقدر ما يعرف الناظر بملامحها الرئيسية. الطرق شبه العامة: الدروب وهي المرتبة الثانية في هيكلية الطرق، حيث نشأت أساساً كروافد تربط بين الطرق العامة من جهة، وما يليها مرتبياً من الطرق الخاصة من جهة اخرى. وسيراً على مبدأ "الانتقال من "العام الى الخاص" ظهر هذا النوع الذي يعمل كمصفاة للطرق العامة. ولهذه الطرق قوام متكسر نوعاً ما يتشكل اساساً من ارتباطها بالطرق العامة ووظيفتها التهيئة للانتقال الى المنطقة الاقل عمومية في النسيج. يمكن القول عن هذه الشبكة انها تعبيرية بنشأتها اكثر من كونها وظيفية، حيث انها تعطي انطباعاً مختلفاً عن الطرق العامة وعن الطرق الخاصة على حد سواء. انها لا تستقطب الغرباء للتجوّل فيها، اذ انها لا تشكل منطقة مفتوحة، وانما هي عقدة رابطة بين العام والخاص. قد تنفتح عليها بعض الوحدات السكنية، الا ان ما يعطيها الصفة العامة هو ارتباطها بالمحاور العامة في المدينة، كالمسجد الجامع والوحدات التجارية والترفيهية الاجتماعية، والتي يرتادها اهل المدينة والغرباء. قد يستعمل الغرباء هذه السواق احياناً، للانتقال من خلالها بين عقدة واخر ىضمن المنطقة العامة في النسيج وهي منطقة نشوئها. وغالباً ما تكون أضيق وأقل استقامة من الطرق العامة، وقد تسير بشكل حلقي أو شريطي، مخترقة المحاور الرئيسية في النسيج او تتعامد مع هذه المحاور. الطرق شبه الخاصة: الازقه يلاحظ من اسمها انها تشكل طبقة مهمة في مصفاة المدينة، فهي طرق خاصة لأهل المحلة السكنية الواحدة، وفي نفس الوقت، شبه خاصة للعائلة الواحدة والتي تتمثل هنا بوحدة الجيرة الواحدة. وتتفرّع هذه الطرق شبه العامة، وتتميز عنها بانها لا ترتبط بأي عقدة عامة، الا انها تتقاطع مع بعضها وتتشابك لتكوّن مناطق مفتوحة تسمى بساحات المحلة، التي يتخذها اهل المحلة للالتقاء الداخلي او التفاعل مع سكان المحلات المجاورة. وقوامها متعرّج جداً، ولا يعطي اي امدادات بصرية أو حركية، كما انها تبدأ بالضيق تدريجياً لتقلل من السحب. وتنفتح عليها الوحدات السكنية، كما تقع عليها الفعاليات التجارية الصغيرة التي تخدم المحلة السكنية عموماً. يقودنا هذا الى الاستنتاج ان هذه الطرق تعمل كبيئة خصبة اجتماعياً، رغم حدودية هذه الخصوبة. ذلك انها لا تطل على او ترتبط بأي فعالية عامة، وهي تعطي لمن يدخلها انطباعاً بالغربة، ذلك انها متشابكة ومتشابهة فيما بينها، ويمكن تشبيه عملها بالصمامات التي تتحرّك باتجاه واحد، فهي تشكل متاهة بالنسبة للغريب. وكلما أمعن التوغل فيها، زاد تشابكها وزادت خصوصيتها، لذلك فانها تقود الغريب باتجاه واحد دائماً: وهو منطقة نشوئها في المنطقة العامة أو شبه العامة. الطرق الخاصة في اللهجة الواقية يسمونها دربونه تصغير درب تتجسد في هذه الشبكة أعلى درجات خصوصية المنظومة، ذلك ان من يدخلها يشعر وكأنه قد دخل وحدة سكنية. وهي بذا توفر الخصوصية والحرمة المطلوبة للمداخل التي تقع عليها. وغالباً ما تكون متشابهة القوام، قد تعرف بانها طرق ضيقة جداً مصممة لاستيعاب حركة البشر فقط، وهي ليست متعرجة بالضرورة ويعود ذلك الى قصرها ولكنها منكسرة بزاوية قائمة أو اكثر عند نهايتها، وهذا ما يحول بين بدايتها ومنطقة انفتاحها، فالواقف عند مدخلها لن يرى أكثر من ممر ضيّق منكسر لا يمكن توقع نهايته، وهنا يكمن عنصر المفاجأة، حيث انها عادة ما تنتهي بساحة صغيرة في الجزء المنكسر وغير الظاهر منها، ويمكن تشبيه هذه الساحات: بفناء الدار الواحد، وغالباً ما تكون الدور الموزعة حول هذه المساحة هي دور تابعة لنفس العائلة الموسعة الام والاب ويسكن حولهم اقاربهم واولادهم الذين انفصلوا عنهم بعائلة جديدة، وهلم جرّا. وهذه في الحقيقة هي احد العوامل التي تدعو الى التأمل، حيث ان هناك عملية نسب وتناسب جميلة ومتناغمة في توظيف الفضاءات، حيث تبدأ الباحة من داخل البيت الفناء الداخلي ليستعملها سكان الدار فقط، ثم تتكرر هذا الساحة في نهاية الممر المنكسر لتكون ساحة تتجمع فيها ربات البيوت الام وبناتها أو قريباتها من مكان ما حول الباحة. ثم يتوسع مرة اخرى مفهوم الساحة، لتصير نقطة جذب اجتماعي في المحلة الواحدة في العقد شبه الخاصة وشبه العامة التي تتكون من التقاء الطرق سالفة الذكر، وتتكرر مرة اخرى في المنطقة العامة على اقطاب الطريق العام لتكون منطقة اجتماعية لكل سكان المدينة التي يمكن ترجمتها هنا الى مفهوم السوق، وتصل هذه الباحات ذروة العمومية والوظيفية في ساحة المسجد الجامع التي تزدحم دائماً بكل من يدخل او يخرج من الجامع. هذا التنوع والاخلاف في استعمال الفضاء الواحد يدل على كياسة في التصميم والتفكير، ذلك ان المفهوم الواحد يقبل دائماً التكيف والانسجام حسب الوظيفة المطلوبة. وبالرغم من ان ترجمة المفهوم الواحد الى عدة اشكال معادلة صعبة الحل في أغلب الاحيان، الا انها تحققت هنا بالاستناد الى نفس المعادلة المذكورة التي تتطلب توفير الخصوصية والتلاحم بنفس الوقت. وكما ذكرت فان الموازنة صعبة، الا انها ليست مستحيلة، المتمعّن في هذا الاتجاه يجد ان تكرار الحل الواحد على عدة مقاييس يوفر التوازن المطلوب. العناصر الاضافية: لم تخل الطرق آنذاك من عناصر بعضها تجميلية وبعضها وظيفي وبعضها يجمع الاثنين، وهي في الحقيقة عناصر انتقالية بين النسيج والطريق. بمعنى آخر، اننا لو جردنا هذه العناصر من ارتباطها بالطريق، لوجدنا ان لها جذراً ثانياً يرتبط مباشرة بالنسيج الاجتماعي. وبهذا يكمن القول ان هذه العناصر هي التي تجعل الطريق جزءاً متداخلاً من النسيج الاجتماعي، وهي التي تميز طرق هذه المدن عن طرقنا الحالية. نذكر من هذه العناصر على سبيل المثال لا الحصر: المداخل والبوابات والعقود وما شاكل. هذه العناصر لم تظهر اساساً لتحديد الطرق، وانما وجدت لتحديد عقدة بين منطقتين، يربط بينهما الطريق، لذلك نجد ان تأثيرها ينعكس على الطريق بالدرجة الاولى. فهناك بوابات رئيسية للمدينة والتي لا يمكن في اي حال ان تنقل الى منطقة خاصة، ثم تأتي بعد ذلك مداخل الاحياء السكنية والتي قد تعرّف بقوس ليعمل من الناحية المفهومية كإطار يحدد صورة قد تجذبك اليها او تنفّرك منها، وهذا ما يؤكد وظيفة أو خصوصية هذا الطريق ام ذاك، فتأثير اطار على بداية الطريق ليس كتأثير بداية طريق مفتوحة تماماً. وعلى هذا المنوال، يتم تعريف مداخل المحلات السكنية، ثم مداخل وحدات الجيرة، وحتى مداخل الوحدات السكنية، فتارة نجد المدخل صرحي وضخم يسحبك الى داخله، وتارة اخرى نجده ضيقاً ومنخفضاً يصدّ الغريب عن اختراقه. يضاف الى ذلك عناصر ربط الوحدات السكنية ببعضها البعض، وهذا ما يسمى بالعقود، او القناطر، او الجسور، والتي تكون عادة بمثابة جسر يمر بعقد من فوق الزقاق ليربط بين دار، ودار، وهي تعمل ايضاً بتكرارها على اعطاء خصوصية اكبر لما بعدها من مناطق. واخيراً، تبقى عناصر الزينة والظلال، اكثر عناصر التأثير غير المباشر على روحية الطريق، فالشناشيل والمشربيات والبروزات والافاريز التي تعمل على خلق مهرجان من الظلال في الزقاق يتحكم هو الآخر بشخصية الزقاق. فكلما زادت الظلال في الزقاق، شعر المرء بالتغطية والخصوصية، وكما زاد انفتاح الزقاق واضاءته، كلما شجعنا المرور به وهذا طبعاً لا يمنع من تغطية الازقة العامة أو تظليلها أو حتى تسقيفها في بعض الاحيان الا ان ظلال العناصر المنفردة المذكورة تعطي شعوراً بعدم الارتياح للغريب، اذ ان ظلال المناطق العامة عادة ما تكون مدروسة لتقع بتأثير منتظم على الطريق، بينما تتشابك وتتقاطع وتتداخل خلال الازقة الصغيرة فيما بينها، مما يعطي الاختلاف المطلوب في التأثير، وهذا يعود بنا مرة اخرى الى الاستخدام المختلف للمفهوم الواحد، وهو استخدام ذكي جداً. غالباً ما يرتبط مفهوم العمارة بقطبين اساسيين: الوظيفة والتعبيرية. وباعتبار الطرق احد عناصر العمارة التخطيطية، وبعد ان فهمنا الناحية الوظيفية للطريق، ننتقل الى تعبيرية الطرق. فهناك من يظن ان فهم او تحقيق الوظيفة هو كل الغرض المطلوب، الا ان الحقيقة تدلنا على مؤشرات غير مباشرة تثير الانتباه في علاقتها مع الطريق، فكما ذكرت في البداية ان الطريق لن يدرك الا كجزء من النسيج الحضري ولا يمكن فصله ودراسته على حدة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا التلاحم بين الطريق والنسيج، ومن أين يتأتى؟ هناك نوع من التحليل الفكري للادراك الحسي يسمى بالفضاء المكان Space & Place. فالفضاء هو عبارة عن فراغ غير معروف الهوية، يدرك على انه فراغ من دون تعريف وظيفة ما له ولتحويلة الى فضاء معروف مكان معلوم، يجب اضافة عدد من العناصر المعرّفة له، او اقرانه بمكان معرف، وهذا ما حدث لطرق المدن القديمة واختفى من مدننا الآن. ولصغر مقياس المدينة آنذاك، فهناك نقاط ثابتة تدرك كشواخص للمدينة ككل، ندرج منها المسجد الجامع ومنارته المرتفعة، اسوار المدينة، بوابات المدينة، الاقواس والقناطر على الطرقات. هذه العناصر تعمل بالاضافة الى وظيفتها الاساسية، على خلق نقاط استدلال Land Mark في المدينة ككل. اي انك ترى دائماً منارة المسجد الجامع من اية نقطة من المدينة، وتبدأ على أساس هذه اللقطة تلقائياً بتحديد وتعريف الفضاء المتواجد فيه، الاتجاهات الاربعة نسبة الى المسجد، فكثيراً ما تسع اهل المدينة يدلونك باحد الاتجاهات الاربعة، والمقصود بها في الواقع هو الاتجاه ونسبته الى المنارة، وهي عملية ميكانيكية نسبية جاءت عن طريق الخبرة، اذ انك ترى المنارة اينما كنت في المدينة. كذلك هناك عملية تعريف الفضاء عن طريق الحجم، اي ادراك نوع المنطقة من خلال عرض واستقامة الطريق، فمتى ترى نهاية الطريق تشعر انك لا زلت في المنطقة العامة، ومتى ما تكسر وتعرج وضاق الطريق ينتابك شعور بانك في مكان غريب، تنضاف الى كل ذلك لقطات تراها بين حين وآخر تعطيك انطباعاً متجدداً عن تغير المناطق التي تمر بها من هذه اللقطات كما ذكرنا. البوابات والاسوار والعقود. كل هذه العوامل المذكورة اثرت على ادراك الطريق حسياً، وتعريف المكان، فأصبح هناك اقتران دائم بين ما تراه من لقطة وبين شعورك في ذلك المكان، يؤثر على استيعاب الفضاء وتعريفه بشكل افضل. وبصورة عامة، اختفت اغلب هذه المفاهيم الفكرية للاسف، من مدننا الحديثة في صخب الاعلانات وعلامات الطرق الكثيرة، فقد انعكست هذه المفاهيم حتى في التصميم التفصيلي للمدينة، اي ان هذه العناصر دخلت حتى في تصميم الوحدة السكنية مثلاً. فقد تمّ استغلال تأثير الادراك الحسّي لانسان على تصرف التلقائي في اعطاء هوية معينة لكل فضاء وكل عمارة. ونجد من كل ذلك ان هناك مفاهيم اعمق من التصميم المباشر والتأثير المباشر يمكن التحكم فيها لاعطاء اطار معين للصورة التي نراها، وتبقى عند ذاك العمارة متداخلة مع عامة الاجتماع ومع تركيبة تعمل الانسان التي تدرك الشيء منطقياً قبل الادراك الفعلي الذي علينا قوانين ومحددات الحياة الجديدة. * معمار عراقي مقيم في لندن