كان ذلك في عام 1979 البعيد عن يومنا. ففي نهار ديسمبري بارد اجتمع في الكرملين ليونيد بريجنيف ورئيس جهاز "كي. جي. بي" يوري اندروبوف ووزير الخارجية اندريه غروميكو ووزير الدفاع ديمتري اوستينوف، واتفقوا على أن الوقت قد حان لإدخال القوات السوفياتية إلى أفغانستان لتقديم "مساعدة أممية"، كما كان يقال آنذاك، وهي مساعدة لم يطلبها الشعب الأفغاني، بل أنه لم يكن على علم بها. وبديهي أن أحداً لم يستشر الشعب السوفياتي وجيشه الذي تعين عليه تنفيذ الأمر المشؤوم. والأنكى من ذلك ان "الرباعي" لم يجد حتى ما يدعو للتشاور مع سائر أعضاء المكتب السياسي. واعتقد ان العقل الباطن للأقطاب الأربعة كان منذئذ يحدس فداحة اللامشروعية في القرار. من هنا بدأت المأساة الأفغانية المستمرة حتى اليوم، واستثيرت خلية النحل التي لم تهدأ بعد. وبدا للقادة السوفيات آنذاك أنهم سوف يستنهضون القوى التقدمية في أفغانستان ليخرجوها من سبات القرون الوسطى. ولكن حصل العكس تماماً. فقد نهض الشعب كله لمواجهة الغزو الأجنبي وقادت القوى المحافظة الموجة الوطنية. وحصل الأفغانيون المكافحون ضد المحتلين السوفيات على مساعدة مادية ودعم سياسي من دول عدة وفي مقدمها العالم الإسلامي، وهذا أمر مفهوم تماماً. ولكن بالتدريج أخذت تتصدر حركة المقاومة مجموعات وقوى راديكالية بدأت تعمل بنشاط وبدعم أجنبي لتنفيذ أهداف أبعد بكثير من طرد القوات العسكرية الأجنبية. والمقصود إعادة ترتيب جذرية لأفغانستان كلها. وحينذاك ولدت فكرة انشاء حركة "طالبان". وأؤكد مجدداً أن ذلك لم يحصل من دون مساعدة فاعلة من الخارج. وإذا استبعدنا القشور اللفظية، فإن عملية إعادة الترتيب، في جوهرها، كانت تهدف إلى تحقيق نموذج متطرف للمجتمع الإسلامي متطرف تحديداً. يضاف إلى ذلك فرض هيمنة مجموعة قومية واحدة على أفغانستان المتعددة القوميات. وفي المرحلة الأولى بدا مغرياً لمؤسسي الحركة ان تكون لديهم في أفغانستان سلطة "طوع اليد" وأداة طيعة لتنفيذ نياتهم السياسية، وتعرض عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف من الأيتام الذين فقدوا جذورهم العائلية - العشائرية لعملية غسل دماغ ايديولوجية مكثفة، وجرى في الوقت ذاته تدريبهم عسكرياً. ونيطت بهؤلاء تحديداً مهمة السيطرة على جميع أراضي أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفياتية، واستخدام القوة لاخضاع سائر الطوائف والقوميات والمجموعات العسكرية السياسية وأخيراً نيطت بهم مهمة إنشاء كيان اقتصادي واجتماعي وفق صيغة دينية بالشكل المشوه الذي اعتمده قادة الحركة وحماتهم. وبتعبير آخر، فإن ذلك كان نهج الحرب الأهلية التي تستمر على أرض أفغانستان المعذبة منذ تسع سنوات بعد انسحاب القوات السوفياتية في شباط فبراير عام 1989، لتصبح بذلك واحداً من أطول النزاعات الداخلية المسلحة. وفي البداية خُيل ل "آباء" الحركة ان كتلة الشبان التي كونوها ستبقى دائماً طيعة ويمكن ان "يصنع" منها كل ما يروق لمن يهتم بأفغانستان بفعل وضعها الاستراتيجي الوسيط. ولكن العفريت الذي اطلق من القمقم عدّل ظهره وتلفت حواليه وأخذ يتصرف على هواه وغالباً ما يتمرد على من رعاه في مهده. وحقاً من كان في تلك الأزمنة العجاف ليفكر في أن الجزء "الطالبي" من أفغانستان سيغدو واحداً من مراكز الارهاب العالمية. ولنمضِ شوطاً أبعد لنقول إنه مع تزايد التفهم العالمي للخطر المحدق الذي يشكله الارهاب بوصفه طاعون القرن العشرين، تتحول أفغانستان بجهود قادة "طالبان" إلى بؤرة للارهاب وحتى إلى محمية يمكن للمجرمين من فرسان العبادة والخنجر أن يجدوا فيها ملاذاً ويستعدوا لعمليات جديدة. والمثال المعروف أكثر من غيره اسامة بن لادن، وهو ارهابي من العيار الدولي. ولكن هذا المثال غدا على كل لسان لأن ابن لادن بليونير يستخدم ثرواته لإنشاء هياكل ارتكازية ارهابية في منطقة واسعة من الشرقين الأوسط والأدنى. ولكم هناك في افغانستان من الارهابيين الأكثر خطراً ولكنهم أقل شهرة، الذين لا يعرف بهم أحد سوى زعماء الحركة ومسؤولي المعسكرات الخاصة الموجودة في أفغانستان. في بداية عهدها نشأت "طالبان" بفضل تبرعات أجنبية، ولذا كانت مرتبطة بمن يرعاها في الخارج. أما الآن، وبعدما أصبحت أفغانستان مزرعة كبرى للمخدرات التي تنتشر في كل أنحاء العالم من باكستان إلى أميركا، فإن الارتباط المالي السابق لم يعد جوهرياً. وللمقارنة نقول إن كمية الأفيون الخام التي انتجت في أفغانستان عام 1984 بلغت 41 طناً، وبلغ الرقم 2300 طن عام 1996. وهذه وقائع مهمة لفهم الوضع الراهن من حول حركة "طالبان". ويشهد المراقبون الدوليون بأن الطلاب يعملون عن قصد وبشكل منتظم لتثبيت ممارسات التعنت الاثني وقمع القوميات والطوائف الأخرى في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، وينظمون هناك مذابح جماعية. والاجحاف في حق النساء اتخذ أبعاداً غير مألوفة بالنسبة لأواخر القرن العشرين، كذلك الحال بالنسبة للظلامية في المجال الاجتماعي وخصوصاً التعليم. ويتكون انطباع بأن العالم كله يتحرك إلى أمام وأفغانستان تنغمر في لجة التعصب والغلو وإراقة الدماء والعداء الاثني. وأقول صراحة إن هناك من يعلل نفسه بأوهام مفادها ان "طالبان" لا تشكل خطراً إلا على جيرانها في آسيا الوسطى شمالاً وفي إيران غرباً، ومن هنا فإن المتوهمين يرون أن الشر سيبقى بعيداً عنهم. وبالمناسبة لا يجوز أن نستبعد ان بعض هؤلاء كان يروق له مثل هذا التوجه لپ"طالبان". ولكن في واقع الأمر، فإن أفغانستان التي تسودها الحرب وانتهاك القوانين والتطرف هي مرجل كبير لعدم الاستقرار في إطارات جغرافية أوسع بكثير مما يتصور البعض. ولكي أكون نزيهاً مع القارئ، ولا أبدو كمن يحاول ان يخيف الآخرين، سوف أبدأ بروسيا. نعم نحن نرى أن الممارسة الحالية ل "طالبان" ونظريتها تشكلان خطراً على مصالح روسيا بفعل متاخمة أفغانستان للحدود الجنوبية لرابطة الدول المستقلة التي لا توجد بين روسيا وسائر اعضائها سوى حدود شفافة. وفي الآونة الأخيرة يحاول قادة "طالبان" اقناع الآخرين بأنهم لا يخططون لتوسع في الخارج. وغالبية الناس لا تثق بهذه الوعود. وحقاً الأفضل أن يُسأل ابن لادن فهو سيوضح ما إذا كان ينوي الاقتصار على حدود أفغانستان. وثمة مثال آخر وهو المحاولات التي تقوم بها "طالبان" لإقامة روابط مع المعارضة الطاجيكية والعناصر المتطرفة في سائر بلدان آسيا الوسطى. وثمة معلومات عن ان ممثلي "طالبان" زاروا جمهورية الشيشان. هذا، ناهيك بأن "الأفغان" موجودون في العديد من البلدان العربية، وهؤلاء تدربوا في أفغانستان ولهم خبرة قتالية. وهل ثمة شكوك لدى أحد في شأن النيات الفعلية للمتطرفين؟ أما محاولاتهم للتستر وراء شعارات دينية، فهي زائفة، إذ أن الإسلام دين عظيم، دين الخير والتسامح، ولا صلة لهم به البتة. وهذا لا يعني أبداً اننا لن نعترف ب "طالبان". كلا، فنحن واقعيون ونتعامل مع هذه الحركة بوصفها قوة عسكرية - سياسية جدية على الساحة الأفغانية ومستعدون للتحاور معها. ولكن هذا لا يعني اننا مستعدون لتجاهل كل ما تفعله الحركة وما لا تريد التخلي عنه حتى تحت الضغوط القوية حالياً من جانب المجتمع الدولي. والأنكى من ذلك أن الطلاب قاموا أخيراً، وعلى خلفية التطهير العرقي المستمر، بارتكاب جرائم ضد موظفي الأممالمتحدة وديبلوماسيين أجانب. وواضح ان العفريت الذي أفلت من القمقم يأمل في أن يظل بمنجى من العقاب. ويأمل الطلاب بأن تعطي نجاحاتهم العسكرية مردوداً سياسياً وفي المقام الأول على الصعيد الدولي. ولكن النجاحات التي أحرزت وأكرر مرة أخرى بمساعدة أجنبية مكثفة لن تجعل الأسرة الدولية تتغاضى عن الواقع الفعلي السائد في مناطق سيطرة "طالبان". ثم ان هذه النجاحات تتخللها اخفاقات في محافظات قندز وتاهار وغيرهما. إن تحقيق السلام عبر الحرب أمر مستحيل وهذا ما ينبغي ان يفهمه قادة "طالبان". ولذا يجب وقف العمليات العسكرية واقتتال الاخوة، وإنهاء الحرب الأهلية وايجاد لغة مشتركة للتفاهم مع سائر القوميات والطوائف لتشكيل حكومة واسعة التمثيل. ومن النافع ان يستخلص درساً من ذلك كله من يلعب بالعفاريت. وهي لعبة خطرة. * نائب وزير الخارجية الروسي