منذ ما يقرب من أربع سنوات بدأنا بث برنامج هو الأول من نوعه في اذاعة قطر سميناه "قضايا وآراء" يبث على الهواء ويشارك فيه بعض الضيوف، ويتلقى المشاركات والمداخلات من المستمعين، ولم يكن برنامجاً معتاداً في المنطقة العربية بصورة عامة، دعك من منطقة الخليج العربي. ويعود سبب تميز هذا البرنامج الى أنه كان يتم على الهواء ومن دون تدخل من المسؤول، أو أي شكل من أشكال الرقابة، ويناقش موضوعات لم يعْتَدْ المسؤول العربي أو المتلقي لوسائل الإعلام العربية طرحها. وأصيب الكثيرون بالدهشة لنوعية الموضوعات وجرأة الطرح، وهامش الحرية الكبير لهذا البرنامج. كنت آنذاك وزيراً للإعلام، واعترف بأننا في البداية وجدنا صعوبة في إقناع الضيوف بالمشاركة، لشكهم في مصداقية البرنامج، واستمراريته. ومع تعدد الحلقات وتنوع الموضوعات، واستمرار الجرأة والصراحة في الطرح، تجاوب الضيوف والمستمعون للمشاركة، وأصبح واحداً من أهم البرامج، ولا يزال مستمراً حتى اليوم. وأذكر انه كثرت التفسيرات وراء بث هذا البرنامج. فمن قائل انه لأسباب تكتيكية ومن قائل انه رد فعل على أحداث آنيّة، وقليل من اعتقد أنه توجه إعلامي حديث يراعي التطور الذي شهده الإعلام، ورغبة في اعطاء مصداقية لإعلامنا. وأذكر ان الاهتمام بهذا البرنامج لم يكن مقصوراً على الجانب العربي، بل ان اذاعة لندن اهتمت به غاية الاهتمام وخصصت حلقة عنه، باعتباره ظاهرة جديدة في الإعلام العربي، وأجرت معي أكثر من لقاء بهذا الخصوص. ومن الأسئلة التي طرحت هل هذا البرنامج وجد ليبقى، أم أنه لأسباب تكتيكية، وهل يعني بداية لانفتاح إعلامي أم أنه يستهدف خدمة مرحلة معينة. وهل ستتمكنون من مواجهة الضغوط لوقف هذا البرنامج؟ وعلى ما أذكر فقد أكدت لهم أن هذا البرنامج وجد ليبقى، وأنه يمثل قناعة لدى الدولة بضرورة الانفتاح على المواطن، واتاحة حرية التعبير له، وأن ذلك يمثل رغبة صادقة في تطوير الإعلام وتحديثه، وحتى اليوم لا يزال البرنامج مستمراً. وقبله كان هناك برنامج آخر يقرب عمره من عشر سنوات يبث كل يوم على الهواء، وإن كان مقصوراً على القضايا الداخلية. واستمرار الانفتاح والتحديث لم يقتصر على الإعلام بل تعداه الى جوانب أخرى، اذ تم انتخاب مجلس إدارة غرفة التجارة والصناعة، وعينت امرأة وكيلة لوزارة التربية والتعليم العالي، ثم أعلن عن انتخابات المجلس البلدي مع حق المرأة في المشاركة في التصويت والترشيح، وأخيراً وليس آخراً توجت هذه المسيرة الواثقة بالنفس والواضحة الرؤية بقرار تاريخي من أمير قطر بتشكيل لجنة من أهل الكفاءة والاختصاص لوضع دستور دائم والنص فيه على وجود برلمان منتخب، واستبشر الناس خيراً بهذا الانجاز الذي يعتبر ترجمة لطبيعة عصرنا وانعكاساً لتطور مجتمعنا، واستجابة مع ظروفنا الاقتصادية بضرورة المشاركة الشعبية في تحمل المسؤولية الى جانب الحكومة. وكم سعدنا برد الفعل من الكويت الشقيقة، اذ توالت ردود المثقفين الكويتيين في وسائل الإعلام القطريةوالكويتية والعربية مرحبة بهذا التوجه، معتبرة إياه داعماً للنهج الديموقراطي بصورة عامة. فقد كتب وتحدث مرحباً ومهنئاً رؤساء تحرير الصحف الكويتية من دون استثناء، وكُتبت الكثير من المقالات لتحليل الظاهرة ودعمها، ومن هذه المقالات مقالة الدكتور أحمد الربعي "فلنشعل الشموع لقطر" الذي تلقاه القطريون بالكثير من الامتنان. وفجأة، في الاسبوع الماضي، نفاجأ بطرح غريب يثير الشكوك حول نيات القرارالقطري ودوافعه، من جانب الدكتور محمد الرميحي الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة في الكويت، ورئيس تحرير مجلة "العربي". إذ كتب مقالة عنوانها في حد ذاته الزحف الى الركض السريع تجاهل تام لما أقدمت عليه قطر من خطوات في طريق الديموقراطية، أوجزنا بعضها في ما مرّ من عرض. ولا اعتقد إلا أن الدكتور الرميحي تابع كل هذه التطورات باعتباره مراقباً جيداً للأحداث، ولذلك فوجئنا باستغرابه الخبر الذي يبدو أنه وقع عليه كالصاعقة، إذ رأى أن قطر كمن يركض سريعاً من دون أن يتدرج في المشي، أو أن قطر كما قال في نهاية مقاله جرت سريعاً ولم تتعلم المشي بعد. ولا أتصور الدكتور الرميحي إلا مدركاً ان الكويت قد أخذت بالنهج الديموقراطي، منذ أول يوم للاستقلال، فهل تقويم الدكتور الرميحي للديموقراطية القطرية ينطبق على الكويت، وانه كان على الشيخ عبدالله السالم رحمه الله أن يترك الكويت تحبو ثم تمشي ثم تركض بعد ذلك؟... نحن نعتقد أن الشيخ عبدالله السالم كان صاحب رؤية ثاقبة، وأنه حقق للكويت وللنهج الديموقراطي في المنطقة انجازاً عظيماً سيذكر له على مدى التاريخ. ونحن لا ننازع الأخ المفكر محمد الرميحي حقه في إبداء وجهة نظره أياً كانت، ولا نضيق ذرعاً بالرأي الآخر، بل نرحب به ونعتبره مكملاً للصورة. فالأخ محمد جاسم الصقر رئيس تحرير "القبس" رحب بالمبادرة القطرية لكنه أضاف انه كان يتمنى "ان يصاغ الدستور من خلال هيئة تأسيسية منتخبة كما حدث في الكويت، وليس من خلال تشكيل لجنة". وقد رحبنا بوجهة نظره وقدرنا له دعمه للتوجه الديموقراطي. ونحن من حقنا أن نناقش الدكتور الرميحي في ما كتب، فلعله يقتنع بأن قطر صادقة في نياتها للتحديث بالتدريج الذي يتفق ووتيرة السرعة في عصرنا، وحقائق التغيير في مجتمعنا. وأول ما يلفت النظر أن الدكتور الرميحي يكتب بصورة منتظمة في صحيفة "الوطن" القطرية، ولكن مقالته في الاسبوع الماضي كانت عن الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومحاولة الحط من قدر هذا الكاتب الكبير، بينما المقالة التي تتعلق بقطر تَمّ نشرها في جريدة "الحياة". والدكتور الرميحي يتساءل لماذا هذه الخطوات الكبيرة تجاه المشاركة الآن، ويغمز من قناة الأوضاع الداخلية في قطر ويقول لعلها السبب. ونود أن نطمئن الدكتور الى سلامة أوضاع قطر الداخلية، أما رداً على تساؤله المشروع حول الخطوات الكبيرة فنعتقد أن طبيعة عصرنا وأوضاعنا تفرض هذه الخطوات الكبيرة، وأننا إذا كنا في حاجة للمشاركة الشعبية من حيث المبدأ فإننا أحوج ما نكون اليها الآن، وقد انتهت دولة الرفاه وجاء وقت القرارات الصعبة التي يجب أن يشارك فيها المواطن فيتحمل مسؤولياته عن اقتناع ووعي. ويعترف الدكتور الرميحي مشكوراً بأن هناك حرية إعلامية غير مسبوقة في قطر، لكنه يرى أن هذه الحرية الإعلامية ظلت بعيدة عن تناول الشأن الداخلي. ويغفر للدكتور الرميحي أنه لا يتابع وسائل الإعلام القطرية وإلا فإنه سيرى أن الشأن الداخلي له السهم الأكبر، وعليه فقط أن يتابع برنامج "وطني الحبيب صباح الخير" كل يوم صباحاً ولمدة ساعتين، ويقرأ ما يكتب على صفحات الجرائد القطرية ليدرك خطأ استنتاجه. وهو يتحدث عن مشاركة المرأة ويقول ان من عارض تعرض للقسر، ولا أعلم هل يعلم الدكتور الرميحي أن أحد الوزراء البارزين في قطر قد عبر عن رأيه في معارضة مشاركة المرأة بالترشيح لمجلس الشورى في مقابلة صحافية طويلة، وقد اعتبر ذلك رأياً، ولا يزال هذا الوزير يقوم بواجبه على رأس وزارته على خير وجه. وهو يخشى أن التجربة قد تكون استنساخاً، فالديموقراطية كما يرى ليست شكلاً واحداً. ونطمئنه الى أن الدستور سيعد من جانب لجنة من ذوي الخبرة والاختصاص، التي ستدرس التجارب الأخرى وستراعي طبيعة المجتمع وثوابته، وستتوصل إن شاء الله الى صيغة تتناسب وطبيعة مجتمعنا. ويستغرب الدكتور الرميحي "حرص قطر على المشاركة الشعبية، إذ أنه ليس هناك ضغوط داخلية طاغية"، وبالتالي فإنه يرى أن الأسباب الدافعة الى تبني الطريق الديموقراطي مرتبطة بأحد مصدرين أولهما "الضغط الخارجي غير المباشر لخلق أمثولة قطرية يحتذي بها الجيران"، وكنا نتمنى أن يذكر لنا الدكتور الرميحي من هو هذا "الطرف الخارجي" الذي سيضغط نحو الديموقراطية. واعتقد - ولا أظن اني مخطئ - أنه يقصد الولاياتالمتحدة. وإذا كان الأمر كذلك فهل يزعج الدكتور الرميحي - وهو من نعلم دعماً للسياسة الأميركية - أن نخضع للضغوط الأميركية في كل جوانبها من حصار للشعوب العربية ومن دعم للصهيونية، وننزعج من دعمها للديموقراطية. هذا إذا سايرناه في أن الديموقراطية في قطر كانت بضغط خارجي. ولا نعرف لماذا - من ناحية أخرى جعل الدكتور الرميحي "الرغبة الصادقة من الادارة القطرية للتحديث والتطوير في بلادها" مجرد احتمال. اننا كنا نتوقع من الأخ الدكتور الرميحي باعتباره من داعمي التوجه الديموقراطي والمؤمنين به أن يكون أول من يهنئ قطر، وقيادة قطر، ويحسن الظن في نياتها، كما فعل زملاؤه المثقفون العرب بصورة عامة والكويتيون منهم بصورة خاصة. ان آفة العرب وسر تخلفهم هو تنكر قياداتهم لإرادة شعوبهم، وان نقطة البدء في معالجة الأوضاع العربية هي الهرولة نحو الديموقراطية وهي هرولة طبيعية ومطلوبة لنعالج ما فات ونعوض ما خسرناه حتى نكون في مصاف الشعوب المتقدمة. * عضو الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لدول مجلس التعاون في الخليج العربي.