لعل أهم حدث رهيب عشته واقتحمت ميدانه واطلعت على تفاصيله هو الانقلاب في اليمن في شهر آذار مارس 1948 على الامام يحيى حميد الدين. فقد صادف ان كنت في القاهرة لحضور اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية عندما بثت محطات الإذاعة العالمية نبأ مقتل الامام، ونحن الى مائدة غداء أقامها صاحب جريدة "المصري" محمود أبو الفتح تكريما لرياض الصلح رئيس وفد لبنان. كنا حول المائدة عندما استدعي ابو الفتح الى الهاتف ليتلقى نبأ وقوع انقلاب في اليمن ومقتل الملك الامام يحيى حميد الدين. وقبل ان يعود الى المائدة حاول صاحب "المصري" الحصول على معلومات إضافية من بعض المصادر التي اتصل بها، فقيل له ان الأخبار ما زالت غامضة، فهناك انقلاب وقتلى بينهم الامام يحيى ملك اليمن ولا شيء غير ذلك. ولأن اليمن كانت في عزلة عن العالم لا مثيل لها، فقد رأى صاحب "المصري" ان يوفد مندوبا خاصا الى اليمن للتحقيق وتغطية هذا الحدث الخطير. فأيد الفكرة رياض الصلح. ولما كانت اليمن معزولة عن العالم والانتقال اليها يعني مغامرة محفوفة بالأخطار، تساءل أبو الفتح: "ترى من لنا بمثل هذه المهمة؟" ومن دون تفكير وحسابات أجبت على الفور: "أنا لها". فوافق وشرعنا في البحث في كيفية السفر، فواجهتنا صعوبات أهمها أن ليس بين القاهرةوصنعاء خط جوي، وكذلك ليس في القاهرة ولا في غيرها سفارة أو قنصلية للحصول على تأشيرة سفر. ولما كان لا بد من وسيلة، أتصل أبو الفتح بشركة مصر للطيران وسألها إذا كان في الإمكان تأمين طائرة خاصة للسفر الى صنعاء تكون في تصرف جريدة "المصري". فجاء الجواب بالإيجاب. ولعل المصادفة أيضا جعلت مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني يقيم في القاهرة بضعة أيام، فقابلته وزودني رسالة خاصة الى الامام عبدالله الوزير الذي حل محل الامام المغدور الذي تربطه به علاقات شخصية جيدة. وتحسباً من المفتي لأي تبدل في الرؤوس قبل وصولي الى اليمن، قال: "سأوجه الرسالة باسم الامام عبدالله الوزير على الغلاف فان وجدته سالماً كان به والا فسأكتب في الداخل جلالة الامام فقط وعليك هناك حسن التصرف، فأي امام تراه قابضا على زمام الأمور فالرسالة له". الرسالة تتضمن توصية وتعريفاً بي وبمهمتي. وزودني أيضا دعاء الى الله أن ينقذ اليمن من محنته، وان يلطف بالرؤوس . أقلعت بنا الطائرة على بركات الله في المجهول، فحطت في جدة أولاً بالمملكة العربية السعودية وعلى متنها ثمانية أشخاص طاقم الطائرة وأنا فقط. وفي جدة المحطة الأولى خضعت لتحقيق دقيق مع تحذير من متابعة السفر الى صنعاء لأن أخبار الانقلاب ما زالت غامضة حتى في الجارة الأقرب الى اليمن، اذ لا مطار في صنعاء أو شبه مطار يصلح للهبوط. واذكر في المناسبة ان العلاقات بين البلدين الجارين السعودية واليمن يومئذ كانت باردة واستدعيت لمقابلة الملك عبدالعزيز بعد عودتي من مهمتي وطُلب مني ان أعرج على جدة عند رجوعي لإطلاعه على ما أعود به من معلومات. بهذا الانطباع عن أوضاع اليمن غادرنا مطار جدة في اتجاه صنعاء فوصلناها عصرا. وعندما حطت الطائرة على الارض رأينا ساحة منبسطة كانت تستعمل أثناء الحرب لهبوط الطائرات العسكرية. وهالنا ان نشاهد حشدا من الناس في انتظار الطائرة. وعندما هممت بالترجل تقدم مني ضابط وسألني: "أين سيف الإسلام؟" فاستغربت السؤال وأجبت: "ليس في الطائرة احد سواي". فقال: "سيف الاسلام ابراهيم مولانا الامام عبدالله الوزير ينتظر وصوله". فهدأت أعصابي وعادت الى قواعدها عندما عرفت من هو خليفة الامام المغدور، أي ان عبدالله الوزير الذي احمل له التوصية لا يزال اماما وقلت للضابط الذي استقبلني بغضب عند سلم الطائرة وهو يسأل أين سيف الاسلام ابراهيم: "لا أعلم، انما أنا هنا في مهمة خاصة لدى الامام عبدالله الوزير وأرجو أن تقودني الى مقره فأنا آت من القاهرة بطائرة خاصة كما رأيت منتدبا من جامعة الدول العربية للاطلاع والمساعدة وتسليم رسالة مهمة الى جلالة الامام خليفة الامام". وفي الطريق الى مقر الامام الوزير علمت من الضابط أن الحشد الذي كان في استقبال الطائرة جاء لاستقبال سيف الاسلام ابراهيم أحد أنجال الامام المغدور الذي كان على خلاف مع والده وفر من اليمن قبل وقوع الانقلاب واستدعي من الخارج كوزير في الحكومة الجديدة، فكان مصيره، بعدما استعاد آل يحيى حميد الدين السلطة، قطع رأسه بسيف أخيه، أحد سيوف الاسلام. وصلنا الى مقر الامام الجديد عبدالله الوزير فأدخلني الضابط الى بهو عابق بالدخان والناس فيه يتربعون على سجاجيد ويمضغون شيئا لا أعرفه. ولما سألت قيل لي أنه "القات" أغلب أهل اليمن الذي كان سعيدا، اغنياء وفقراء يمضغون "القات" والأصح "يخزنونه" في أفواههم ويمضغونه مضغا بطيئا ثم يعودون الى "تخزينه" طويلا قبل ان يلفظوه ... رزمة من "القات" كانت الى جانب الامام عبدالله الوزير عندما دخلت عليه بالاضافة الى زجاجة من الماء وفمه ممتلئ بالتخزينة، فتذكرت ان الناس على دين ملوكهم. جلالة الامام أسمر اللون، مستدير اللحية، يعتمر عمامة بيضاء خفيفة، يحيط به بعض رجال الدين والقبائل والى جانبه الضابط جمال جميل عراقي والفضيل الورتلاني جزائري وهما بطلا الانقلاب على الامام يحيى حميد الدين. ورأيت أن الامام كلما حرك شفتيه للكلام يتلفت يمينا وشمالا. وأكثر ما كان يركز عندما يتكلم على الضابط العراقي والفضيل الورتلاني الجزائري كأنه مراقب. ومثل هذا الحذر طبيعي جدا في بلد تتدحرج فيه الرؤوس في تلك الحقبة العصيبة من تاريخ اليمن. استدعاني الامام الحذر فتقدمت نحوه ورائحة الدم تملأ سماء اليمن، متكلاً على الله. فأجلسني الى جانبه فسلمته رسالة مفتي فلسطين فقرأها وأطال في القراءة ثم نظر الي نظرة فاحصة وقدم الي غصنا من "القات"، فاعتذرت، فأمر لي بالقهوة وأخذ يسأل عن الحاج أمين والجامعة العربية وعن صدى الانقلاب في الخارج. فأعطيته ما تيسر من المعلومات المناسبة، وأطلعته على مهمتي وعن رغبة الصحافة وأوساط الجامعة العربية في الاطلاع على حقيقة ما يجري في بلد عربي شقيق يمر بظروف سيئة. فقال، وعيناه مركزتان على الضابطين: "سجل أولاً ان لا علاقة لي بمقتل الامام رحمه الله، وقد نودي بي خلفاً واماماً فامتثلت لارادة الشعب. ثانيا سجل ان القبائل جميعها بايعتني وفريقا كبيرا من اتباع الامام الراحل ومن ابنائه وعائلته يلتفون حولي". قلت: "سدد الله خطاكم لما فيه خير اليمن، والرأي العام العربي ينتظر معرفة أسباب مصرع الامام الراحل، ومن الخير ان أسمع منكم حقيقة ما حدث وبذلك نقطع الطريق على البلبلة والشائعات التي تسيء الى هذا الانقلاب". فقال وهو يختزن "القات" ويحدق في وجوه من حوله: "التحقيق جار لكشف المجرمين قتلة الامام وانزال العقاب الصارم بهم. لقد وجد الامام مقتولا هناك، عند سفح الجبل". وشعرت ان السؤال ربما أحرجه وازعجه، وبحركة من يده انتهت المقابلة. وتكررت زياراتي للامام الجالس سعيدا بين رزم "القات"، ولبطلي الانقلاب الضابط العراقي جميل جمال الذي أرسلته الحكومة العراقية لتدريب الجيش اليمني وبقي فيها وقام بالانقلاب بمساعدة الفضيل الورتلاني الجزائري ومن "الاخوان المسلمين" وقد لجأ الورتلاني الى لبنان بعد فشل الانقلاب واعدام عبدالله الوزير ورفاقه. وكنت ارسل البرقيات من اليمن وهي مراقبة من الضابط العراقي الذي أصبح مسؤولا عن الأمن ولا يسمح الا بما هو مؤيد للانقلاب. حدثني محمد الشامي الذي توثقت علاقتي به، وكان في مجلس الإمام عندما قابلته، قال: "لقد أبرق الامام عبدالله الوزير بعد الانقلاب الى الملك عبدالعزيز آل سعود مستنجدا كي يرسل اليه طائرات ودبابات لتأديب العصاة وقطاع الطرق. كما أبرق الى الامين العام للجامعة العربية طالبا المساعدة العاجلة. وتضمنت برقياته الى الملك عبدالعزيز والجامعة العربية قوله: "إذا لم تستجيبوا طلبي سنضطر مرغمين، عملا بقاعدة بعض الشر أهون من بعضه، للجوء لوسائل أخرى تعرفونها ونكره جميعا الاستعانه بها". وفي احدى برقياته الى أمين الجامعة قال: "نطمح الى ان نكون من أطهر الناس وطنية وأحرصهم على الاستقلال التام والبعد كل البعد عن الاجانب. ولكن بعدما اكتفت الجامعة بالتفرج فاننا سنستعين بغيرها للضرورة الملحة مسجلين عليكم هذا العار الشنيع ...". انها معلومات عجيبة حصلت عليها فكيف أرسلها الى القاهرة، ومن أي طريق؟ البرقيات مراقبة، والرقيب هو الضابط بطل الانقلاب جميل جمال، فما العمل؟ استعنت بالأخ محمد الشامي فقال: "هناك على مقربة من اليمن مستعمرة بريطانية هي جزيرة "كمران" تستطيع ان تتصل منها بالخارج فهي منطقة حرة". فانتقلت اليها بالطائرة بحجة تزويدها الوقود، وأرسلت منها البرقيات الى "المصري" في القاهرة وعدت مساء لاتابع مهمتي في تسقط المزيد من الاخبار عن هذا البلد العجيب المغلق. أشياء لا تصدق ... سمعت أثناء وجودي في اليمن أشياء تكاد لا تصدق من القريبين من الامام عبدالله الوزير عن عهد الامام يحيى الذي "وجد مقتولا عند سفح الجبل"، منها على ذمة الراوي ان الإمام يحيى كان قاسيا صارما مع رعيته. وكان يعتقد أن دوام حكمه يقوم على تجهيل شعبه. فلا مدارس ولا إذاعات ولا صحف ولا مستشفيات، حتى المجلات الأدبية كانت تهرّب الى اليمن كأنها مواد ضارة محرمة. الامام هو المعلم والطبيب يداوي المرضى بالأعشاب والتعاويذ وبالآيات التي تتحدث عن شر ما خلق، وعن الجن والنفاثات في العقد. ويدعم كل هذا بحجاب يعلّق في عنق من أصابهم مس من الشيطان الرجيم. حتى الدواب التي تصاب بالمرض كان يداويها ب "الحجاب"، هو يكتبه ويقبض اجره. ولماذا الطب والأطباء؟ وحدثني قريبون من الامام الراحل انه بلغ المدى في ظلمه حتى على المتعاونين معه، فكان يأخذ رهينة ولدا من أولاد الولاة وكبار الموظفين ويحتفظ به في سجن خاص كيلا يخرج هؤلاء عن طاعته، وقد أفرج بعد مصرعه عن العشرات من أبناء العائلات.. الخطر يقترب في صباح اليوم التالي جاءني محمد الشامي زائرا على غير عادته في مثل تلك الساعة المبكرة وقال: "يجب ان تغادر في الحال، فأنت الآن في دائرة الخطر. لقد كنت صباحا في مجلس الامام، ومن عادته ان يستمع الى اخبار الصباح من راديو لندن وهو الراديو الوحيد في اليمن فسمعه يذيع اخبار اليمن ومنها البرقيات المرسلة من عبدالله الوزير الى الملك عبدالعزيز والجامعة العربية يستنجد ويطلب ارسال السلاح اليه" والا فسوف نلجأ الى وسائل اخرى "أي الى الاجنبي منسوبة الى مراسل "المصري" في صنعاء، فثار الامام وغضب وسأل من حوله: "أين هو هذا المراسل؟ الذي هو أنا آتوني به". وأضاف السيد الشامي: "أنت تعرف ماذا يعني غضبه في ملحمة قطع الرؤوس". أرعبني كلام محمد الشامي وتحسست رأسي بعد انذاره فتأكدت من وجوده في مكانه والحمد لله. وفورا أبلغت طاقم الطائرة: "أننا مضطرون الى المغادرة فورا لاننا جميعا تحت الخطر وسأشرح لكم في ما بعد الاسباب". وبأسرع ما يمكن غادرنا صنعاء في اتجاه جدة قبل ان اكمل الطريق الى القاهرة، كما وعدت الملك عبدالعزيز رحمه الله. ولم يكن هبوط طائرة خاصة في جدة آنذاك امرا مألوفا. وهذه المدينة التي ستصبح احدى اكثر مدن العالم تقدما، كانت يومها مدينة متسعة الارجاء تداعب البحر الاحمر ببيوتها المبنية من الطوب الاصفر، وتلفح وجهها العريق باستمرار الملوحة والرطوبة. كان مطار جدة صغيرا متواضعا بعكس مينائها البحري الذي كان ايضا ميناء مكةالمكرمة، يصله الحجاج الى البيت الحرام من كل بلاد العالمين من اجل اداء فريضة الحج والتبرك بزيارة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة. ولم اكن اعرف أحدا في جدة سوى الشيخ عبدالله السليمان، رحمة الله عليه. لكن الوقت كان ضيقا ودار "المصري" تنتظر على جمر حار لكي تخرج الى قرائها بالسبق الكبير. ولكن من هو الصحافي الذي يقدم السبق على لقاء الملك عبدالعزيز؟ ان السبق سرعان ما يتحول ذكرى لكن مقابلة موحّد الجزيرة سوف تتحول تاريخا، في حياة اي صحافي. خطر لي وانا في الطريق الى القصر: تراني أول صحافي عربي - أو لبناني على الاقل - يحقق هذه الامنية؟ كان اسم عبدالعزيز يملأ آنذاك أرجاء العالم، وكانت الحكايات والاحاديث عن حكمته واسلوبه في الحكم تتناقلها اروقة الحكم ومجالس السياسة والأدب في كل مكان. ومع انني كنت مجرد شاب احلم فقط بالسباقات الصحافية، فقد شعرت برهبة الموقف. مقابلة الملك عبدالعزيز حملتنا سيارة فخمة ضخمة الى القصر، ووجدت في استقبالي قبل الدخول الى القاعة الملكية، الشيخ عبدالله السليمان بالذات. وقال لي الشيخ عبدالله: "ان أسد الجزيرة قد استأخر أنبائي وخامره قلق، وقد أمر بعض رجال القصر بتسقط الأنباء من المطار". وأبلغني انه كان قلقا على الوضع في اليمن، وعلي بشكل خاص. وكان الشيخ عبدالله يصغي الى الإذاعات ثم ينقل اليه آخر الأخبار ومنها تفاصيل عن مقتل الامام يحيى وعن ثورة القبائل المؤيدة له من راديو لندن كما رواها مندوب "المصري" الخاص، وطلب مني الشيخ ان أكون دقيقا في عرض مشاهداتي فلا أبالغ لمجرد ترك انطباع مهم على جلالته. وقال مازحا "انتم معشر الصحافيين تهوون المبالغات من اجل إثارة الاهتمام لكن سيدي صاحب الجلالة لا يبني الا على الحقائق". ثم سألني عن موعد سفري الى القاهرة فقلت: "فور انتهاء اللقاء". فقال مازحاً أيضا: "انتم أهل لبنان تصرون على الضيافة حين يتعلق الأمر بكم، لكن عندما تصبحون ضيوفاً تنسون الأصول. ما بالك على عجل"، واعتذرت من جديد، وأوضحت للشيخ عبدالله ان المنافسة في الصحافة المصرية على أشدها والصداقة - لا المهنة - التي تربطني بأصحاب "المصري" هي التي تحملني على المخاطرة وعلى السرعة، وتحملني الآن على خرق أصول الضيافة في حمى عبدالعزيز. دخل علينا رجل متقدم قليلا في السن وانحنى على اذن الشيخ عبدالله الذي هز رأسه، ثم وقف وقال: "هيا بنا، جلالته قد اذن، تذكر ما قلت يا زهير حقائق يعني فقط حقائق". قدمني الشيخ عبدالله وهو ينحني قليلا أمام عملاق هادئ وقور ينشر وجوده الاحترام والرفعة في المكان، وتقدمت مسرعا نحوه فمد الي يد العمالقة، وكان الى جانبه أحد أبنائه معتمرا قلنسوة بيضاء. وبدا انني قطعت حديثا أبويا. وحملت يد الملك بين راحتي يدي وقدمت واجب الاحترام. وما ان جلس رحمه الله على كرسيه المخملي المنقوش حتى بادرني بالقول: "لقد غلبناك في المجيء، وقطعناك عن عيالك، لكن أخبار أهلنا في اليمن عزيزة علينا". قلت له: "يا صاحب الجلالة، تحقيق رغبتك بالعودة الى جدة يفوق لدي اي اعتبار". ثم تابعت: "الوضع هادئ في اليمن على ما رأيت". فوضع يده العملاقة على حافة الكرسي وبان في بنصره خاتم فضي صغير، وقال لي: "هل هو هادئ، أم مستتب؟". فاجأني السؤال وأجبته: "هادئ، ولكنه كالنار تحت الرماد". ورويت له أمر الرسالة التي حملتها من الحاج أمين الحسيني وعلى غلافها لقب بلا اسم محدد. فابتسم في وقار وقال: "الحكم يا عزيزنا حكمة. وإخواننا في اليمن لا تنقصهم الحكمة، لكن السلطة معرضة دائما للحسد". ثم سألني: "هل كانت أسارير الامام مرتاحة". فأجبت بأنه كان هناك جو من الالتباس في بيت الحكم، وبدا ان الحاكم الجديد لم يكن حاسما، وكان يلتفت دائما الى مستشاريه اللذين قاما بالانقلاب ولا يفارقانه قبل ان يجيب، وكأنما هناك من هو أقوى منه في البلاد، أو كأنه ليس صاحب القرار الأخير. ولم يبد عبدالعزيز آل سعود اي ردة فعل على ذلك، وتطلع في ابنه الذي ظل جالسا الى جانبه، وقال له: "أرى يا فهد انك مهتم منذ الآن بشؤون الجزيرة". فابتسم الأمير الشاب بأدب وظل جالسا يتابع حديث المؤسس. كان على الطاولة، الى جانب الملك، في قصر خزام هاتف رن خلال اللقاء الذي استمر نصف ساعة، مرتين. وفي المرتين كان عبدالعزيز يرفع السماعة بهدوء شديد ويصغي باقتضاب الى محدثه الذي لا بد ان يكون أحد وزرائه الأربعة ، فيتبلغ الأمر العاجل ، ثم يضع السماعة من جديد ، ويلتفت الى ابنه ويهمس في اذنه بعض الشيء. ولم يطل الكلام عن اليمن. وتطلعت في الوزير عبدالله السليمان، وكأنني اسأله بعيني ان كانت المقابلة قد انتهت وحان وقت الاستئذان، فتطلع بدوره الى الملك بحثا عن إشارة منه. وكأنما قرأ عملاق الجزيرة التساؤلين، فمضى يمنحنا المزيد من الوقت إذ تطلع في ابنه قائلا: "لماذا لا تسأل يا فهد الأستاذ عن أحوال بلاده؟ انه من بلد جميل اسمه لبنان". وتطلع الي رحمه الله واكمل: "يا عزيزنا الأستاذ، نحن نحب لبنان من القراءات وما نسمع عنه. وإخواننا اللبنانيون هنا أهل خير وعمل. هذا بلدكم . وإذا كان لي من مزيد فهو ان تهتموا ببلدكم. نحن العرب تعرفنا الى الاستقلال حديثا. ويجب ان نحرص عليه. ان استقلالنا الحقيقي هو في وحدتنا، وقوتنا في ايماننا". قلت للملك: "كنت أتمنى يا صاحب الجلالة لو تعرفون اي تقدير واكبار يكنه لكم شعب لبنان، وخاصة الزعيم رياض الصلح. فأنا من رفاقه الذين لا يغادرون مجالسه. ولعل اكثر من أوضح لي معالم صورة هذا العملاق الذي أنا في حضرته الآن، كان رياض. ومنه سمعت، يا طويل العمر، واسمع دائما القول ان اللبنانيين بدلا من ان يهاجروا بعد الآن طلبا للعمل في الخارج يجب ان يتجهوا الى حمى عبدالعزيز، فهذه سوف تكون مملكة المستقبل". هكذا انتهت مقابلتي في جدة وتابعت بعدها طريقي الى القاهرة. عدت فقابلت الملك عبدالعزيز في الرياض مرة اخرى بعد ثلاث سنوات، على ما اعتقد، وأول ما اندفعت لتقديم واجب الاحترام مد اليد العملاقة وقال بسماحته المعروفة: "عسى خير في اليمن". فابتسمت قائلا: "هذه المرة أنا قادم يا صاحب الجلالة من بيروت الى الرياض فقط، ولست احمل معي سوى التمنيات والتحيات القلبية الصادقة التي حمّلني اياها رياض بك الصلح". وتطلع الملك في عبدالله السليمان الذي كان حاضرا ايضا، وقال له: "الم ينس عزيزنا الاستاذ شيئا يحمله معه من لبنان؟". فانحنى السليمان يسأل: "ويش هو يا طويل العمر؟". فأجاب الملك باسما: "شيء من نسيم لبنان". سرقة مشروع برنادوت بعد ما اعلن اليهود في منتصف ايار 1948 قيام الدولة العبرية "اسرائيل" مع حكومة مؤقتة، بدأت الدول تعترف بها، ثم نشبت الحرب العربية - الاسرائيلية فاختارت هيئة الاممالمتحدة الكونت برنادوت وسيطا بين العرب واليهود ليقدم توصياته في شأنها، فحضر على رأس وفد من المستشارين واجرى اتصالاته مع الدول العربية وزعماء اليهود مبديا رغبته في ان يجتمع الى وفدين عربي ويهودي في رودس التي اتخذها مقرا له. وقد استجابت الدول العربية رغبة الكونت فأرسلت وفدا الى رودس بتاريخ 20 حزيران 1948 مؤلفا من أربعة اعضاء اقلتهم طائرة تابعة لهيئة الاممالمتحدة وهم عبدالمنعم مصطفى مصر المستشار في جامعة الدول العربية، ومحمد الجليلي من وزارة الخارجية، والمحامي الفلسطيني هنري كتن واحمد الشقيري مستشار الحكومة السورية لدى هيئة الامم قبل ان يصبح رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتوافد الصحافيون العرب والاجانب الى رودس وقد أوفدتني جريدة "المصري "لموافاتها بأخبار أول اجتماع يعقده العرب مع الوسيط الدولي بحضور الوفد اليهودي. فانتقلت الى رودس واتخذت مقر اقامتي فندق "لاروز" حيث شغل الوفد العربي الطابق الخامس منه والوفد اليهودي الطابق الثالث، واختار برنادوت الطابقين الاول والثاني مقرا له وبدأ اعماله بالاجتماع الاول مع الوفد العربي، ثم الوفد اليهودي. وسعى الى اقناع الوفد العربي بالاجتماع مع الوفد اليهودي فلم ينجح. وقد جاء في كتاب احمد الشقيري "أربعون عاما في الحياة العربية والدولية" قوله حرفياً: "بعد اجتماعنا الطويل بالكونت برنادوت كان الصحافيون ينتظرون في ردهات الفندق ليسألوا عما تم في هذا الاجتماع، فقلنا انه اجتماع تعارف وتنظيم لاسلوب العمل. فصاح زهير عسيران الصحافي اللبناني المعروف سائلاً: "هل ستكون بينكم وبين اليهود مفاوضات مباشرة؟" قلت: "ابدا لن يكون هذا ونحن ما جئنا لهذا ومن أخبركم بهذا؟" قال السيد عسيران: "الصحافيون الاجانب المتصلون بالوفد اليهودي هم الذين اخبرونا". قلت: "لا تصدقوا هذه أول دسيسة يهودية على الوفد العربي ثم على مهمة برنادوت نفسه". وتسابق الصحافيون الى مكاتب البرق ليعطلوا مفعول القنبلة اليهودية قبل أن تنفجر". جاء هذا في كتاب مذكرات احمد الشقيري الذي صدر عام 1969 عن "دار النهار للنشر"، وتتابعت جلسات العمل في رودس حيث كان برنادوت يجتمع بالوفد العربي منفردا ثم بالوفد اليهودي. واستغرقت الاجتماعات مدة أسبوع وعاد الوفدان العربي واليهودي، كل من حيث اتى، وبقي برنادوت في الفندق لوضع حصيلة مساعيه ورفع تقريره الى هيئة الامم. سبق صحافي عالمي كيف السبيل للحصول على تقرير الكونت برنادوت؟ فكرت في خطة يمكن ان تفشل او تنجح. فمهمة الصحافي أن يفكر ويتحرك كأن لا شيء مستحيلا امامه، مهما بدت حركته صعبة أو مستحيلة أحيانا. وغادرت الفندق مع الوفد العربي الذي عاد ادراجه الى بلاده، أما أنا فانتقلت الى فندق آخر في رودس لغاية في النفس ولخطة وضعتها وهذه تفاصيلها: لقد نشأت علاقة جيدة وكريمة بيني وبين موظف من أصل تركي في فندق "لاروز"، وكان هذا الموظف مؤتمنا على الغرف، فودعته بحرارة وسخاء، وطلبت منه أن يوافيني الى الفندق الآخر ساعة يستطيع. فسألني: "هل أنت مستاء أو منزعج من هذا الفندق ما دمت لن تغادر رودس بل الانتقال الى فندق آخر؟" وعرض علي ان ينقل شكواي الى الادارة، في حال وجود شكوى لدي فأجبته: "لا شيء لدي من هذا وستعرف كل شيء عندما نتقابل". وجاءني على عجل في المساء فأكرمته ورحبت به ثم سألته: "هل أنت مستعد لتأدية خدمة لي وهي خدمة للعرب وللمسلمين في آن معا؟". فأجاب مندهشا: "وهل يستطيع مثلي أن يؤدي مثل هذه الخدمة؟ وكيف؟ فاذا كان في مستطاعي فأنا مستعد مهما تكن العقبات". فقلت له: "يهمني الحصول على تقرير برنادوت قبل رفعه الى هيئة الامم، واعتقد انك قادر على الحصول عليه بصفتك مؤتمنا على الغرف وتعرف أوقات غياب برنادوت عن غرفته". ففكر هنيهة ثم رد قائلا: "سأبذل جهدي، واعتقادي انني سأنجح". وجاءني في اليوم التالي بأسرع مما كنت أتوقع. جاءني بالتقرير فاستمهلته قليلا لنسخه ثم أكرمته بما فيه النصيب وأعدت اليه التقرير فعاد به الى مكانه في غرفة برنادوت، كأن شيئا لم يكن. وهرعت أنا الى أول طائرة في اتجاه القاهرة ودخلت جريدة "المصري" التي نشرت تقرير برنادوت في اليوم التالي في الصفحة الاولى وبخط عريض قبل ان يصل التقرير الى المسؤولين. فأحدث النشر ضجة كبرى وتسابقت وكالات الانباء العالمية الى نقله عن "المصري" الى انحاء الدنيا، وكان من أهم ما جاء في التقرير الطلب الى الاممالمتحدة تخطيط الحدود لدولة اسرائيل كما جاء في قرار التقسيم مع تعديلات يقترحها الوسيط الدولي ومنها اعطاء النقب للعرب وجعل القدس منطقة دولية وحيفا واللد مرفأ ومطارا للعرب واليهود. أما النقطة الاهم في المشروع فهي طلب برنادوت من هيئة الامم تنفيذ هذا الحل بالقوة، ان لم يذعن الفريقان، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع تجدد القتال بين العرب واليهود. وقد اغتيل برنادوت اثر ذلك في احد شوارع القدس في 17 أيلول 1948 قبل ان يقدم تقريره الى هيئة الامم ويدافع عنه. وشغل اغتياله الاممالمتحدة اياما عدة وسارع اليهود الى الحزن عليه واستنكار اغتياله برغم ان اصابع الاتهام وجهت فورا اليهم لأن التقرير يعطيهم اقل بكثير مما يطمعون فيه وهو ابتلاع فلسطين كلها. وللوهلة الاولى ذهب الظن الى ان اغتيال برنادوت سيكون اغتيالا للدولة اليهودية وان دول اسكندينافيا التي ينتمي اليها الرجل ستقود الحملة على اليهود والصهيونية العالمية، لكن اليهود عرفوا كيف ينحنون امام العاصفه فشقوا الجيوب وناحوا عليه طويلا، واعلنوا ان تحقيقا صارما سيجرى للكشف عن هوية المجرمين، وانهم ماضون في التحقيق حتى النهاية. ومما يذكر ان اليهود كانوا يخططون لاغتيال برنادوت في الاسكندرية، من أجل تحميل العرب الذين رفضوا قرار التقسيم، مسؤولية دمه. لكن سلطات الامن المصرية احبطت المحاولة بتغيير مكان اقامته، كما حاول الصهاينة اغتياله في باريس وهدفهم ان يختفي الرجل من الوجود قبل ان يرفع تقريره بنفسه الى هيئة الامم. واذ اروي قصة اغتيال برنادوت اتساءل مع نهايات هذا القرن: هل كان العرب حكماء يوم قاوموا مشروع التقسيم ويوم رفضوه بعد اغتيال الوسيط الدولي؟ لست أدري. * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار في بيروت الشهر المقبل.