على رغم نجاح الزعيم الليبي معمر القذافي في استقطاب الدعم من زعماء أفارقة لا يستهان بعددهم على نحو أزعج الولاياتالمتحدة، يبقى الصراع على النفوذ في افريقيا أكبر من أن يدار "بالمزاج" الايديولوجي المتقلب ولا بمنطق الترفع والاستخفاف بما يمكن أن تغنمه البلدان العربية من القارة الفقيرة التي تزداد الفجوة بينها وبين البلدان الصناعية اتساعاً كل يوم بل كل لحظة. الثابت ان العرب أهملوا افريقيا منذ الاختراق الاستراتيجي الذي حققوه في القارة بعد حرب تشرين اكتوبر، وساعدت اتفاقات كامب ديفيد على الغاء المكاسب السياسية والاقتصادية التي حصدوها، إذ استطاعت اسرائيل فك عزلتها سريعاً وعادت لتحتل أكثرية المواقع السابقة، بل غنمت مكاسب جديدة، خصوصاً منذ التوقيع على اتفاقات أوسلو - واشنطن العام 1993. ويمكن القول إن نفوذ الدولة العبرية في القارة لم يصل ماضياً الى درجة من الاتساع تعادل الدائرة التي وصل اليها الآن، بفضل حذق الاسرائيليين استثمار الصراعات العرقية ونزاعات الحدود بين الدول، اضافة الى استجابتهم الذكية حاجة الأفارقة الشديدة للكوادر والخبرات التكنولوجية. لكن الأخطر من ذلك أن اسرائيل أحكمت قبضتها على الأجهزة الأمنية والحراسات الشخصية لرؤساء وزعماء افارقة بعدما باتت تتمتع بثقة كثير منهم وتعقد معهم الصفقات التجارية الخاصة. ما من شك في أن القذافي أولى اهتماماً كبيراً لافريقيا في السنوات الأخيرة، ما عوّض جزئياً الغياب العربي عن القارة. كذلك لا شك في أن أزمة "لوكربي" هي التي حملت الزعيم "العروبي" على الاتجاه جنوباً وفتح صفحة جديدة مع الأفارقة أنست كثيراً منهم المغامرات الفاشلة في تشاد وطوت صفحة أساءت كثيراً الى سمعة العرب في افريقيا وألقت ظلالاً كثيفة على قناعاتهم المبدئية باقامة علاقات متوازنة مع جيرانهم الجنوبيين. ليس المهم هنا معرفة مدى مشروعية تشنج القذافي ضد العرب بدعوى معاقبتهم على خمولهم وتلكؤهم في خرق الحصار المضروب على بلده، وانما المهم هو أن ما حققه على الساحة الافريقية يبقى كسباً غنياً بالدلالات والدروس وان كان لا يندرج في اطار رؤية بعيدة. "فالاختراق" الليبي كشف مدى قابلية الساحة الافريقية للتجاوب مع أي مبادرة عربية، حتى وإن كانت مدفوعة بردود انفعالية، كما اثبت الفرص الكبيرة المتاحة للتأثير في القرار الافريقي الذي تجمعه والبلدان العربية، خصوصاً منها الافريقية، خيمة واحدة ومصالح مشتركة. وبغض الطرف عن السمة الظرفية للمكاسب التي غنمتها ليبيا افريقياً فليس المطلوب اليوم الغاؤها بل على العكس ينبغي الانطلاق منها وتجاوزها لاعطاء صورة مغايرة عن العرب وبلورة رؤية جديدة للعلاقات العربية - الافريقية ترمي الى تحصين الأمن القومي المهدد جنوباً وإرساء نمط متطور من التعاون الجماعي على الأمد الطويل. ويمكن اعتبار قرارات القمة العربية الأخيرة في القاهرة والقمم السابقة أساساً لصوغ خطة جديدة للتحرك نحو افريقيا لا لمجرد التضييق على اسرائيل، فالبلدان العربية الماضية في تطبيع العلاقات معها لا تملك حجة كافية لطلب العكس من الأفارقة، ولكن لفرض مكان للعرب في ساحة استراتيجية تتسابق القوى الكبرى لاقتطاع "حصص" فيها ادراكاً منها للأهمية الحيوية التي سترتديها في القرن المقبل... أقله اقتصادياً