الكتاب: الاعمال الكاملة المؤلف: الياس الفاضل الناشر: مكتبة بيسان، 1998 الشاعر السوري الياس الفاضل، طالت غربته عن الوطن نحو ثلاثين عاماً، بدأها في بيروت، حيث عمل في صحافتها ردحاً من الزمن. ثم انتقل الى الكويت، وفيها من صحيفة الى صحيفة، حتى استقر به الحال في مجلة "المجالس" الكويتية، وكان الشعر في كل هذا الاغتراب ملجأه الوحيد. وعندما كان الياس الفاضل في دمشق، كان رفيق درب لنا سليمان عواد ومحمد الماغوط وأنا، وكثيراً ما كنا نتسكع معاً بين "الهافانا" والصالحية، ونتصور انفسنا نجوماً، لكن عيون النساء كانت تنحرف دائماً الى اصحاب السيارات الفارهة ومدخّني السيكار الهافاني، فكنا نفشل معاً في كل طلعاتنا النسائية من دون ان نعثر على امرأة تقبل بنا شعراء من دون سيارات فارهة او اناقة مفرطة تدل على الغنى، ثم انفرط العقد برحيل الماغوط الى بيروت، وتبعه الياس الفاضل، فبقينا سليمان عواد وأنا ردحاً من الزمن في دمشق، يأوينا مقهى الهافانا، ولا يطالبنا ابو هشام او الميتر سليم بالمشروب، كنا حقاً فقراء، وكان ثمن مشروب "الهافانا" ... يؤثر علينا اذا دفعناه كل يوم. وكان سليمان توفيراً لثمن السكائر، يترك سيكارته في فمه مطفأة ساعات، يعلك اطرافها ويمتصها من دون ان يتجرأ على رميها ثانية. مات سليمان بعد ذلك، ومن طرائف القدر، ان قيمته الشعرية، اعترف بها الوسط الثقافي قبل رحيله بأشهر فاحتفي به لكن الموت لم يترك له ان يستطعم على لسانه لذة النصر. هكذا فرّقت بيننا الظروف، ثم غادرت انا الى بيروت، لألتقي مجدداً بالياس الفاضل، حيث بدأت ظروفه تتحسن هنا، الى ان غادر الى الكويت وهناك انقطعت اخباره عني وانقطعت اخباري عنه، والتهينا بالركض وراء لقمة العيش. نلهث هنا وهناك من دون ان نستطيع التقاط انفاسنا، او نحمي رؤوسنا من قيظ الشمس تحت سقف بيت يأوينا، ووسادة لنا نلقي بأحلامنا المشروعة فوقها. فلا نستيقظ إلا على واقع يابس ظالم، يريدنا ذئاباً في عالم الذئاب. لكننا، على رغم ذلك، لم نفقد براءتنا، وظل الشعر وحده ملجأنا الى حياة جوانية عميقة، ينقل الى الورق معاناتنا اليومية. وأخيراً، وفي غفلة من الزمن، تلقيت الاعمال الشعرية الكاملة لالياس الفاضل وتصفّحت المجلد الضخم الذي ضم ست مجموعات شعرية للشاعر ومسرحية قصيرة بعنوان "نادي الرجولة" انتجها بين اعوام 1960 و1998 .. وبدءاً لا احب عبارة "الاعمال الكاملة" التي درج عليها الشعراء في تسمية اعمالهم، لان ذلك يعني انهم توقفوا عن الابداع، او انهم رحلوا عن دنيانا، والياس الفاضل ما زال في عز ابداعه الشعري وفي ذروة حياته إلا اذا ارادنا ان نفهم، ان خلقه ضاق من الشعر، وكثيراً ما كان يتلفظ انه ضاق ذرعاً بهذه الغربة. اقانيم التجربة في قراءة متلاحقة لمجموعات هذا المجلد، ندرك ان الياس الفاضل ظل مخلصاً لموقفه من الحياة. وفي شعره نَتَنَسّم روح الحب العظيم وما يخلقه في النفس من مشاعر جياشة. الى جانب غربة الشاعر، ليس غربة عن الوطن وحسب، بل غربة في النفس والناس وحتى الاشياء والتفاصيل، في هذا المناخ المتنوع، تندرج القصائد الواحدة بعد الاخرى، منها ما ينتمي الى قصيدة النثر، والياس الفاضل فارس من فرسانها، ومنها ما ينتمي الى الشعر الحديث المتعدد التفعيلات. لكن كل هذا لا يؤثر على الخط الشعري المميز عند الشاعر، فالقصيدة عنده، وفي ذروة احزانها، غنائية شفافة، أليس الحزن هو الموحي الاول للشعر؟ فأحزان الياس الفاضل تستشرف كبرياءها، وعنوان مجموعته الثانية مثلاً "احزان القمر الاخضر" فيما عنوان المجموعة الاول "اوراق جريحة"، فاذا اخذنا قصيدة "قبلة الوداع" من "احزان القمر الاخضر"، نشعر ونحس بهذا الحزن الهادئ الذي يعبّر عنه الشاعر في قبلة الوداع الاخيرة: الشمس تميل نحو المغيب ونحن يا حبيبتي على وشك الرحيل كل ما حولي يوحي بالحزن والكآبة السماء تمطر على دروبنا وزورق الرحيل ينتظرنا في المرفأ القديم ليحملنا الى جزائر الضجر والملل قبّليني يا حبيبتي قبل ان نفترق احرقيني بنار حبك الالهي فالشمس تميل نحو المغيب وبعد قليل ستتركنا الامواج الظالمة على الشواطئ الصخرية الموحشة في هذه القصيدة، يدرك المرء، كما الشاعر، بأن الحياة من دون الحب هباء، وفراغ، وشواطئ موحشة، وزورق الرحيل عندما يجيء ليفرّق بين الحبيبين، انما هو الرمز الى الموت اللانهائي، وحده، بكل بشاعته وقسوته يفرّق بين الحبيبين. اما عن غربة الشاعر، فالحديث عنها طويل، وقصائد الغربة في كل المجموعات الست، تعبّر اصدق تعبير عن الغربة الفاصلة كالصحراء، التي لا يمحوها من النفس لا المجد ولا المال ولا القيمة الاجتماعية: انا هنا غريب يا حبيبتي غريب كغجري مشرّد في المدينة الكبيرة اسير وحدي، وكل زادي الى غدي بؤسي وشقائي وحرماني ومضة من رماد احلام كانت احلى من نسيم الصيف وقيثارة وأغنيات حب لعينيك فالشاعر على رغم وجود الحبيبة الى جانبه يشعر بالغربة، لأن قلبه على الدرب يظل قتيلاً في عتمة الفراغ الأليم، فالحب احياناً، يسبب ايضاً غرفة للنفس، وليس هو دائماً متعة جميلة، فالحب عندما نعيشه بكل اعماقنا نتذكر ان له نهاية ومهما غفل عنه الزمن، فلا بد من نهاية، ونهاية فاجعة في كثير من الاحيان. وهكذا، كما قال عنه رفيق دربه الشاعر والصحافي الكبير وصاحب كتاب "حنان يا اصدقائي" الياس مسوح: الياس الفاضل شاعر احترف على ما تقول فيروز الحزن والانتظار وثمة كلمة اخرى تضاف الى هذا القول، هي ان الشاعر احترف الحب ايضاً والغربة والشوق، انه من جيل شعراء الرفض والثورة والصراخ. على ان الرأي النقدي الموضوعي في شعر الياس الفاضل جسّده الشاعر والناقد الراحل جبرا ابراهيم جبرا عندما قال عنه "الياس الفاضل من فئة الذين جمحت بهم احاسيسهم العنيفة، فخرجوا بشعرهم خروجاً لا محيد عنه، على الاشكال التقليدية، لعلهم يحققون للشعر اسلوباً تتجدد فيه اللغة، فيغدو الشعر وسيلة فعالة للتعبير عن النفس المعاصرة. وهذه النفس - ما احزنها، وما آلم وحشتها، الفراغ والمقاهي وعربات الآخرين المذهّبة، تحيط به كحراس طغاة، ولكنها تظفر بحرّيتها ظفراً لا شك فيه عن طريق هذا القول المتمرد، فالكلمة نجاتها، والكلمة سلاحها ازاء كل ما يهددها". لكن سعيد عقل يختصر الياس الفاضل بسطر واحد قائلاً فيه: "الياس الفاضل شاعر معرفة جعل الحياة تحت قلمه الساحر اشبه بأسطورة". وفي الحقيقة، فان الياس الفاضل دخل تجربته الشعرية ولم يخرج منها الى الآن، فاذا كانت الغربة والحب على مفصلين في شعره، لكن هناك مشاغل اخرى فيه، من الطبيعة الى السياسة الى التفاصيل الاجتماعية، الى جانب كبرياء الشاعر وهواجسه. وسبق ان قلت فيه كلمة نشرها في "الاعمال الكاملة" جاء فيها الياس الفاضل يبدو في شعره كمالك الحزين، الطي الذي يحني هامته لضربات القدر. ولكن ما ان تقسو عليه الظروف حتى تراه يحلّق وصوته انين العصر وضربة السوط الوحيدة على العنف الذي يحمل تعب المتعبين. وتأتي اناشيده فيها اصالة الفنان وصنعة الذي يخلق الكلمة من صدره وأعصابه. ويتساءل المرء هل عند الشاعر امل ما في قضية، في حكاية، في مشكلة؟ لكنه يعبّر عن خيبته من كل ذلك قائلاً: الآن استطيع ان ابكي مثل طفل صغير مسحت موجة ظالمة قصر الرمال الذي بناه على الشاطئ وان ارى الحياة سفينة من ورق تتأرجح في بحيرة من دم ودموع لكن هذا اليأس يتراجع، خصوصاً في الوضع العام، في الوطن، والناس، والأحبة من حوله، فيخاطب الحرية، ويخاطب التاريخ، والثورة، والأحصنة الاصيلة والقائد الذي هو امل الأمة. ويعود الشاعر ليستسلم الى حاله الفردية، فيترك خلفه كل الانتصارات الشخصية، كل الحكايات الجميلة التي عاشها، ويمضي الى سكون النفس وحركة الشعر في قصيدة "كان يا ما كان": وكان يا ما كان كانت لي النجوم في السماء وكان لي نهار وكان لي بيت وشبّاكان وكان لي عنوان وكان لي صديقة حسناء وكان لي مقهى وحان وكان يا ما كان وكان، "يا لهفي" على ما كان لا يعود الماضي، ولا يكفي الندم للخروج من عبء ذلك الماضي، لكن في الختام ان الشعر هو الملجأ، هو اللحظة الاخيرة والمرفأ، ولولا الشعر لفقدت الحياة طعمها الجميل.