يوم اعتقل بشارة الخوري ورياض الصلح مع رفاقهما وزج بهم في قلعة راشيا، قليلون في تلك الليلة الظلماء شعروا بما حدث. فقد جاءني في الصباح الباكر حارس منزل رياض، القريب من منزلي في محلة رأس النبع، وقال لي: "لقد جاءت فرقة عسكرية فرنسية وسنغالية الى منزل رياض بك واقتادته. ولا أعلم الى أين". فغادرت منزلي فوراً نحو منزل ابن عمه تقي الدين الصلح في محلة فرن الشباك، فأيقظته على النبأ ومشينا معاً في تلك الساعة المتقدمة من الليل الى منزل محمد شقير الذي استفاق مذعوراً وسأل: "خير، ان شاء الله، أي مصيبة حلت؟" فأخذ علماً بالمصيبة. وكان أول ما رأينا ان نتوجه الى بيت الشيخ بيار الجميل، فإذا هو خارج فراشه بعدما بلغه خبر اعتقال كميل شمعون جاره في الحي. فأجرينا من منزل الشيخ بيار اتصالات عاجلة اسفرت عن معلومات اضافية تقول ان رياض الصلح لم يعتقل وحده، فقد شملت موجة الغضب تلك الليلة الشيخ بشارة الخوري وكميل شمعون وعادل عسيران وعبدالحميد كرامي وسليم تقلا. وساد الصمت والذهول، وتساءلنا: كيف نتصرف الآن وقد فقد الفرنسيون اعصابهم الى هذه الدرجة وفتحوا باباً لأزمة مجهولة النتائج؟ كانت الخطوة الأولى ان يصدر في صباح ذلك النهار بيان مشترك باسم الكتائب والنجادة بالدعوة الى الاضراب العام، فوافق الشيخ بيار من دون تردد. وسأل: "أين النجادة؟"، فأجبته بصفتي عميداً للخارجية وأمين السر العام لمنظمة النجادة: "إني أوافق وسأتصل ببعض الرفاق حالاً". وبالفعل اتصلت بالأخ عدنان الحكيم القائد العام للنجادة الذي وافق بدوره فوراً وأجابني: "ان التفكير عيه راودني ايضاً". وهكذا عدت بالجواب الى الاخوان في الكتائب وصدر مع الصباح أول بيان يحمل عنوان "في خدمة لبنان" وجاء فيه: "في خدمة لبنان اذاعة عدد1 الى الشعب اللبناني الكريم قضت السلطات الفرنسية بوقف الدستور وتعطيل الحياة النيابية واعتقال فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية ودولة رئيس الوزراء وعدد من الوزراء والنواب. وكان من الطبيعي ان يقابل الرأي العام هذا التدبير الاستفزازي بمنتهى الاستنكار والاستياء. وعبّر عن نقمته بالتظاهرات التي أدت الى سقوط عدد من الضحايا البريئة. وإزاء هذه الحوادث المؤسفة اجتمعت منظمتا النجادة والكتائب اللبنانية، اللتان تمثلان الشباب اللبناني أصدق تمثيل، واتفقنا على توحيد خطة العمل والجهود دفاعاً عن كرامة البلاد واستقلالها. وقد قررتا السير بالاضراب الى ان يصل لبنان الى حقه المسلوب. وهما تناشدان الشعب الكريم الأبي ان يحقق الآمال المعقودة على ثباته في مثل هذه الظروف العصيبة. وان لا يتعرف الى غير مجلسه النيابي الشرعي والحكومة المنبثقة منه. وتحذران الجمهور من دس الدساسين ومناورات الاستغلاليين. وستستمر اللجنة المشتركة من الكتائب والنجادة في اطلاع الشعب على تطورات الموقف في حينها وعلى ما يطلب منه القيام به من واجبات. عاش لبنان مستقلاً عزيزاً. بيار الجميل رئيس الكتائب والنجادة". الى ذلك تم الاتفاق ايضاً على ان تسند رئاسة الحزبين الكتائب والنجادة الى الشيخ بيار الجميل، وذلك قطعاً لدابر الفتنة التي أراد الانتداب ان يشعلها بين المسلمين والمسيحيين. ولما اعتقل الشيخ بيار مع رفيقه الياس ربابي، بعد حوادث الجميزة، ازدادت النقمة وعمت المناطق المسيحية التي كانت تتردد. وأصررنا بعدها على ان يتولى نائبه جوزف شادر رئاسة الحزبين ايضاً تأكيداً لتضامن جناحي لبنان ضد الانتداب، وعلى أثر الاذاعة رقم 1 والاتفاق على خوض المعركة معاً اشتدت التظاهرات في المدن المقفلة ولم تتوقف طوال أيام الاعتقال. دار صائب سلام وعلى أثر اعتقال الحكومة الشرعية ومحاصرة مجلس النواب، تحول منزل صائب سلام طوال أيام الأزمة الى مقر لمجلس النواب الذي اقفلت أبوابه، وكان خلية نشاط وحركة لا تهدأ. وقد تنادى الى الاجتماع فيه اعضاء المجلس فحضر منهم 44 نائباً من أصل 55 في جلسة رسمية تخلف عن حضورها فريق اميل اده، باستثناء وديع الأشقر وغبريال المر اللذين حضرا ووقعا محضر الجلسة برغم انهما ترشحا على لائحة اميل اده الانتخابية عام 1943. وفي هذا الاجتماع التاريخي اتخذ قرار بالاجماع بعدم الاعتراف بالحكومة التي نصّبها الانتداب، وبأن الذين انتقلوا الى بشامون هم الحكومة الشرعية التي أخذت تصدر القرارات والمراسيم اللازمة. كذلك تحولت دار صائب سلام الى خلية نحل للشباب الوطني الذي كان يتردد عليها ليتزود الاخبار وينقلها الى اخوانه في سائر احياء بيروت ومنها الى بقية المدن اللبنانية، كما كانت تخبأ الاسلحة في هذه الدار المحروسة والتي كان يقدمها أغلب الذين لديهم منها أو الذين يستطيعون الحصول عليها لتوزيعها على الشباب والحرس الوطني والتي كان لها الفضل في استمرار صمود البلاد ووضع حد لقوات الانتداب المنتشرة في جميع الاحياء. ومما يلفت النظر تردد بعض هذه القوات المؤلفة من السنغاليين والمغاربية بإطلاق النار على المتظاهرين لأسباب لا تخفى على أحد. الحكومة الشرعية الجديدة سلم من الاعتقال صبري حمادة رئيس مجلس النواب والوزيران حبيب أبو شهلا والأمير مجيد ارسلان ونصحوا بأن يغادروا بيروت، فاقترح صبري حمادة اللجوء الى الهرمل لكن الأمير مجيد اعترض وقال: "ان الهرمل بعيدة عن بيروت ونصبح شبه مقطوعين، والأوفق ان يكون مقر الحكومة في بشامون لقربها من بيروت ولوجود مؤيدين هناك، وفي استطاع الشباب الذين تطوعوا في الحرس الوطني الوصول اليها بسهولة". وكان الاقبال على الانضمام الى الحرس الوطني كبيراً ومن كل المناطق، وقد عين الشيخ منير تقي الدين رئيساً للحرس الوطني، ونعيم مغبغب قائداً عاماً، وتوليت أنا مهمة ضابط الاتصال بين الحكومة الشرعية والقصر الجمهوري في بيروت الذي كان بدوره يعج بالشباب من الحرس الوطني ومن رجال قوى الأمن الذين رفضوا الانصياع لقرارات الحكومة الجديدة واستمروا بالولاء للحكومة الشرعية. واستفاقت البلاد على الخبر الخطير فاضربت المحال وتنادى الشباب الوطني الى تأمين الحاجات الضرورية لمن يحتاج اضافة الى توزيع المنشورات. وقد تألفت في العاصمة لجان عديدة لأعمال المقاومة على اختلاف أنواعها ومثلها في بقية المدن والملحقات، وهي على اتصال دائم في ما بينها. كما تألفت لجان احتياطية، اذ اعتقلت الأولى، فعلى كل فرد ان يتصل في الحي الذي يقيم فيه بتلك اللجنة لتأتي الجهود المبذولة بثمرة أوفى، وكانت هذه اللجان توزع الإعاشة بمساعدة نديم دمشقية الذي كان مفتشاً عاماً في وزارة التموين وكذلك توزيع الجريدة السرية وغيرها من المهمات الجسيمة. جريدة المقاومة لم تكتف سلطات الانتداب باعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء واكثر الوزراء وتعطيل مجلس النواب وتعليق الدستور، بل عمدت الى اخراس الصحف الوطنية لتمنع عن الشعب معرفة الحقائق وبخاصة جلسة تعديل الدستور. فأصدرت قراراً بمنع نشر تفاصيل تلك الجلسة. وطبعاً لم تتقيد الصحف الوطنية بهذا القرار فعطلت جميعها وبقيت الصحف الفرنسية والمتفرنسة التي صدرت في اليوم التالي للتعديل ولم تشر بكلمة واحدة الى الجلسة التاريخية وما جرى فيها من مواقف بطولية ووطنية. وكان نعيم مغبغب قد استحصل على امتياز باسم جريدة "الاقدام" وبدأ الاستعداد لاصدارها في مطبعة "المعرض"، وقرر نشر تفاصيل جلسة المجلس. ولكنه اصطدم بقرار المفوضية العليا التي تحظر نشر أي شيء عن الجلسة تحت التهديد بإلغاء رخصة الجريدة. فقرر بعد التشاور مع بعض الزملاء اصدار العدد من دون اسم. ولكن أحد الزملاء أشار عليه ان يكون اسم الجريدة علامة استفهام. وهكذا كان، فصدر العدد الذي يحوي تفاصيل الجلسة. فنزلت الجريدة الى السوق وتخاطفتها الايدي ونفدت جميعها قبل ان يتمكن رجال الأمن العام من مصادرتها وتوقيف الباعة الذين يحملونها، وبعد التحقيق تبين لهم انها طبعت في مطبعة "المعرض" فأغلقوا المطبعة وختموها بالشمع الأحمر. وفي اليوم التالي أصر على اصدارها فانتقل الى مطبعة منيمنة في سوق اياس، بعدما أقفلت الأبواب ليلاً، ووقف الحراس من الشباب أمامها، وعلى رأسهم نعيم مغبغب، الى الصباح، وما ان صدر العدد الثاني حتى جن جنون رجال الأمن العام ولاحقوا باعة الصحف وكل من يحمل هذه الجريدة، ثم عرفوا بعد التحقيق مكان المطبعة فكان نصيبها الإقفال ايضاً. وفي اليوم الثالث التحق نعيم مغبغب بحكومة بشامون وتسلم قيادة الحرس الوطني. وانقضى النهار دون صدور الجريدة التي كان ينتظرها الناس بفارغ الصبر لمعرفة أخبار الثورة. فاحترنا في أمرنا، وإذا بمصطفى فتح الله صاحب مطابع "دار الكشاف" يقول: "لدي مطبعة صغيرة نستطيع ان ننقلها حيث نشاء". وهكذا استمرت "علامة الاستفهام" في الصدور تطبع على هذه المطبعة الصغيرة الجوالة صباحاً ومساء في شكل مصغر لإطلاع الشعب الثائر على المواقف البطولية التي يقفها الشباب في جميع المناطق، ولعدم الأخذ بالشائعات التي كانت تروجها بعض الأوساط من أذناب الانتداب. وبعدما أقلقت هذه الجريدة السلطة المنتدبة وتعذرت عليها معرفة مكان المطبعة التي تتولى طبعها، صدر قرار يقضي بإعدام كل صاحب مطبعة يطبع منشورات تمس بالانتداب وتزعزع الاستقرار، بحجة ان ذلك يؤثر على المجهود الحربي، وكان المقصود الأول والأخير من هذا القرار جريدة "علامة الاستفهام". فأرعب هذا القرار جميع اصحاب المطابع، كذلك لم نر من المناسب ان نعرض مطابع "دار الكشاف" لمثل هذا القرار الخطير. ولما عمد رجال الانتداب الى اصدار صحيفة بالحجم نفسه وتحمل الاسم عينه أي "علامة الاستفهام" وتحتوي على اخبار ملفقة ضد الثورة ومسيئة الى أبطال الاستقلال، احترنا في أمرنا فاجتمعنا وتساءلنا: ما العمل الآن؟ هل نقف مكتوفي الأيدي وتتوقف "علامة الاستفهام" عن الصدور، وهي وسيلة الاتصال بالجماهير تمدها بأخبار المقاومة وتشد العزائم للصمود ومتابعة الإضراب؟ وقلت في ذلك الاجتماع انه لا بد من وسيلة نلجأ اليها للاستمرار في الصدور برغم القرار الارهابي، فأنا ذاهب الى صيدا في محاولة لطبعها هناك في مطبعة "العرفان" لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين. وقصدت المطبعة فلم أجد صاحبها اذ كان خارج صيدا في تلك الساعة من الليل والمطبعة مقفلة، فقدنا بيوت العمال وايقظناهم من النوم وقلت لهم: "أنتم مصادرون الآن بأمر من الحكومة الوطنية". وجاء معنا المرحوم الاستاذ نزار الزين ابن صاحب "العرفان" والمعروف باتجاهاته الوطنية. ومشينا نحو المطبعة الواقعة في حي السرايا بصيدا القديمة والتي يستحيل على المصفحات أو أي سيارة اقتحامها ويسلكها المشاة فقط. طبعنا الجريدة وعدت بها مع الصباح، وبوصولنا الى جسر الدامور فوجئنا بحاجز للجيش لم يكن قائماً عندما غادرنا بيروت الى صيدا، يحرسه جنود سنغاليون بأمرة ضابط فرنسي. صاح بنا الحاجز: "قف" فتوقفنا وترجلت ورفيقي سائق السيارة، بناء على الأوامر، وبدأ التفتيش فلم يجدوا في جيوبنا شيئاً ممنوعاً، فأصر الضابط على تفتيش السيارة، وهنا اقترب الخطر فقلت للضابط بالفرنسية: "ماذا تريدون من السيارة؟ ولماذا تعرقلون طريقنا وأنا على عجلة من أمري وعلى موعد دقيق بمكان عملي؟" وسأل الضابط عن نوع عملي فقلت: "موظف في قلم المطبوعات الفرنسي والساعة تقترب من الموعد أرجو السرعة". فأمر الضابط بوقف التفتيش ومتابعة السير. وهكذا عندما يملك الانسان اعصابه ساعة الخطر فقد يسلم وينجو من المتاعب. وجريدة الثورة هذه عذبتنا من قبل "قطوع" الدامور طباعة وتوزيعاً. في احياء بيروت والضواحي لم يكن طبع الجريدة هو المشكلة فقط، بل توزيعها والمرور بها على الحواجز التي تطوق العاصمة. فقد كنا ننقل الاعداد احياناً في صندوق خشبي نغطيه بالخضر للتمويه. وذات فجر باكر اعترضنا حاجز سنغالي، فترجلنا للتفتيش وكان معنا المرحوم حسين السجعان الذي تولى الأخذ والرد مع العسكر بفرنسية مهضومة لا نعرف كيف هبطت عليه. ومع ذلك فهم العسكر اننا ننقل صندوقة خضر وكشف لهم عينة منها وناولهم كم راس بندورة وخيار فقبلوا وشعرنا أنهم اعجبوا بحسين بك وهو "يترغل" معهم بالفرنسية ومرت الجريدة بسلام. ثم عمدنا الى حيلة أخرى لتوزيع الجريدة وذلك بالاعتماد على سيارة للاعاشة وضعت في تصرف نديم دمشقية الذي كان مفتشاً عاماً بوزارة التموين، فكان يمر بالسيارة المملوءة بأعداد الجريدة والمخبأة تحت المقاعد، وعندما يبرز بطاقته الوظيفية أمام الحواجز تمر السيارة بسلام حاملة الجريدة السرية التي كانت بمثابة إعاشة للثورة ولصمود المقاومة. إلقاء القنابل ليلاً تطوعت مع نعيم مغبغب لإلقاء المتفجرات أثناء الليل على بعض الأحياء التي كانت تتردد في الاقفال نهاراً وأيضاً على الأماكن العائدة الى دوائر الانتداب، وقد تعرضنا مرات للوقوع في مآزق حرجة وكنا نخرج منها بأعجوبة. وفي احدى الليالي اتفقنا على إلقاء متفجرة على جريدة "البشير" لأنها تندد بالثورة وبالحكومة الشرعية وبأبطال الاستقلال. وقبل التنفيذ تذكرت ان بيت الشيخ خيري تقي الدين مجاور لجريدة "البشير" فأسرعت اليه واخرجت منه العائلة بحجة ان الشيخ خليل ينتظرها في منزل عمه في رأس بيروت لأمر ضروري. فغادرت العائلة المنزل. وبعد ذلك القينا المتفجرة التي أدت الى إصابة المنزل ببعض الأضرار وعدنا الى بشامون. ولما علم الشيخ خليل بأن انفجاراً استهدف جريدة "البشير" تذكر عائلته واضطرب فهدأت من روعه وقلت له: "العائلة بخير لا تجزع انهم عند عمك في رأس بيروت" فلم يصدق وبعث برسول من بشامون مع الصباح الى منزل عمه في رأس بيروت فوجد العائلة بألف خير وسلامة، وقال لها انه مرسل من الشيخ خليل للاطمئنان. ولما عاد الرسول صدق أنني لم أكن أهون عليه صدمة سماعه انفجار جريدة "البشير"، ولكنه استغرب وسألني: "كيف عرفت ذلك؟" فأخبرته بما جرى فذرفت عيناه بالدموع فرحاً. جريدة راشيا ضرب حصار شديد حول قلعة راشيا، وأوكل أمر حراستها الى ضابط فرنسي شديد المراس يعاونه جنود من الفرقة الاجنبية التي كانت غالبيتها من عناصر مختلطة سنغالية وتونسية ومغربية وغيرها. الى ذلك كان في راشيا مركز للدرك اللبناني بقيادة الضابط عبدالمنعم فواز. وبطبيعة مركزه كان فواز يستطيع الدخول ويرافق الذين يزورون القلعة وفي حوزتهم إذن خاص. ومن جملة الذين اعطوا إذناً بالدخول حلاق زحلاوي كان يعالج "لحى المساجين" كل صباح. وفي احدى المرات عندما أخذ هذا الحلاق يعالج ذقن رياض الصلح دخل الضابط فواز فجأة بحجة مراقبته. وبينما كان الحلاق "يدردش" مع السجين الكبير صرخ الضابط بوجهه: "ألم أقل لك ممنوع مثل هذا الكلام؟". فأجاب الحلاق: "يا سيدي لم أقل شيئاً غير عادي اطلاقاً". فرد عليه: "كمان بتكذب"، ويهم بصفعه ويقول له: "أنا سمعتك تتلفظ بكلمة اضراب عام والدنيا مطربقة والقيامة قائمة". ففهم الحلاق بذكائه ما يقصده الضابط واقسم على انه لم يقل له شيئاً من هذا القبيل ولكن ما فاه به انه لم يجد الأدوات الجيدة للحلاقة "لأن زحلة مضربة عن بكرة أبيها، وحاولت في القرى المجاورة فلم أوفق، للسبب نفسه". فقال له الضابط: "لا تكرر مثل هذا الكلام وإلا عرضت نفسك للاعتقال". وحدث بعد ذلك ان منع الحلاق ورجال الدرك، بمن فيهم الضابط، من الدخول الى غرف المعتقلين من قبيل الحذر والرغبة في قطع كل صلة بينهم وبين الخارج. فتضايق الضابط فواز وحار كيف يمكن بعد هذا المنع ان يرسل الأخبار الى رياض بك، وهداه ذكاؤه الى الاتصال بأحد الجنود المراكشيين المولج بالحراسة مع بعض زملاء له داخل المعتقل. وهذا الجندي معروف بتقواه وحبه للعرب. ولاحظ الضابط منه عطفه على المعتقلين وبخاصة على ريا ض بك عندما كان يدخل الى المعتقل. فاستدعاه مرة وقال له: "أرى فيك ملامح النبل والشهامة، وانك تخاف الله، فهل استطيع الاعتماد عليك ببعض الخدمات؟". فأجابه الجندي: "أنا حاضر لأي شيء". فقال له: "إذا أعيطتك ورقة صغيرة هل تستطيع ان تدسها في يد رياض بك عندما يخرج من غرفته للدخول الى بيت الخلاء؟". فأجاب: "بكل ترحاب". وهكذا أخذ هذا الجندي ينقل الورقة الصغيرة التي يسلمه إياها الضابط فواز ويدسها في يد رياض الصلح كلما سنحت له الفرصة، وكانت هذه الورقة الصغيرة تحتوي على بعض تفاصيل ثورة الشعب وتهديد الدول العربية لفرنسا والطلب منها العودة عن قرارها الأرعن. وكانت آخر ورقة دسها هذا الجندي في يد رياض بك استدعاء بشارة الخوري من المعتقل ومقابلته كاترو والعودة به الى راشيا بعدما رفض الشروط التي عرضت عليه. سرقة خاتم رئاسة الجمهورية في الليلة الثانية من اندلاع ثورة الشعب بعد اعتقال الحكومة الشرعية وتعطيل الدستور ولجوء من تبقى من وزراء الحكومة الوطنية الى بشامون وتسمية حبيب أبو شهلا رئيساً للجمهورية بالوكالة لكي تستمر الشرعية - في تلك الليلة بدأوا اعداد الرسائل الرسمية الى الدول الصديقة والحليفة، وكذلك المراسيم اللازمة لإبطال كل ما تتخذه السلطات المنتدبة والرئيس الجديد المعين اميل إده من المندوب السامي. وحصلت مشكلة هي عدم وجود خاتم رسمي باسم رئاسة الجمهورية. وأخذوا يتساءلون ويتشاورون: "ما العمل والبلاد مقفلة؟". ولما علمت بذلك توجهت في الصباح الباكر الى بيروت من دون ان أُعلم أحداً، وقصدت السرايا الصغيرة في ساحة البرج حيث كان مركز رئيس الجمهورية، وتعمدت الدخول في الساعة الثامنة إلا خمس دقائق أي حين يتوافد الموظفون الى مكاتبهم، وبخاصة بعدما صدر أمر من الحكومة الجديدة الى الموظفين بضرورة التزام الدوام الرسمي تحت طائلة فصل كل موظف يتخلف عن الحضور. دخلت السرايا التي كانت محاطة بحراسة شديدة، ثابت الخطى من دون ان أنظر الى أي من الجند أو الحراس. الى ان استوقفني ضابط عند الدرج الأول للسرايا وبادرني. بالسؤال: "الى أين؟". فأجبته بهدوء وحزم: "الى مكتبي في وزارة الداخلية". فلم يعترضني وتابعت سيري. وكانت وزارة الداخلية محاذية لمكاتب رئيس الجمهورية. وتسللت الى غرفة رئيس الديوان التي كنت أعرفها جيداً، لترددي عليها سابقاً بصفتي الصحافية وأعرف ان الاختام هي على مكتب رئيس الديوان. فوقع نظري على الخاتم المقصود فوضعته في جيبي وعدت من حيث اتيت، وكان الموظفون بدأوا يتوافدون الى مكاتبهم. انما قبل خروجي من السرايا خلعت نظارتي وقلبت سترتي ومشيت فاغراً فمي وأنا اتمايل يميناً وشمالاً كالمعتوه والجميع ينظر الي بشفقة، وما ان ابتعدت عن السرايا حتى اسرعت الخطى في الشوارع الضيقة وقصدت السيارة التي اوقفتها في أحد المنعطفات البعيدة، وبسرعة فائقة كنت في بشامون قبل العاشرة صباحاً. فوجدت أركان الحكومة الشرعية في اجتماع، فدخلت واخرجت الخاتم من جيبي ووضعته على الطاولة أمام دهشة الجميع، ولما رويت لهم كيف حصلت على الخاتم نهضوا كلهم لتقبيلي وتهنئتي على هذه الجرأة. وهكذا اخذت المراسيم طريقها الى الصدور بعد التوقيع وعليها الخاتم الرسمي لرئاسة الجمهورية. هربت سلاحاً الى بيروت ذات يوم من أيام الاضراب نفد السلاح من بيروت واشتدت حاجة المقاومين اليه، وخوفاً من ان تبرد همتهم وتبدأ الخروق فتفتح المدينة ويفشل الاضراب، قصدت بشامون وعدت منها بشحنة سلاح متحاشياً المرور على حواجز رجال الأمن التابعين للانتداب في ذلك الوقت. ومررت بطريق فرن الشباك باعتبار انها منطقة لا تحتاج الى حواجز. ولكن ما ان وصلنا الى مشارف هذه المنطقة حتى فوجئنا بحاجز نبت فجأة كأنه كان لنا بالمرصاد. ولم أجد وسيلة لتحاشي المرور عبره من طريق آخر. "قف تفتيش". ترجلت وفي حسابي ان الرحلة انتهت هنا وذهب السلاح وذهبت أنا معه ايضاً ولا سبيل للافلات من المأزق إلا بمحاولة خطرت لي فقلت للعسكر: "مرحباً شباب، عن أي شيء تفتشون؟". قالوا: "عن كل ما هو ممنوع مخالف للقانون وبخاصة السلاح". قلت: "للحقيقة معنا شوية سلاح ليس للتجارة ولا يخضع للتفتيش والمصادرة، انه لشعبكم الثائر المضرب، كما ترون، احتجاجاً على اعتقال رئيس البلاد وحكومته. أنتم من هذا الشعب ولو ان أمركم في يد الاجنبي حتى الآن. وأنا واثق من وطنيتكم وانكم لن تعترضوا مرورنا وتصادروا سلاحاً هو للدفاع عن الشرف والكرامة". كنت اتكلم باندفاع وحماسة وعيناي في وجوههم لأرى ردة الفعل عندهم، فلم يخب أملي وكان الرد: "أذهب وخبر رؤساءنا بما تقول". ثم: "روحوا من غير طريق، مع السلامة". وهكذا بشيء من الجرأة وحسن التصرف وبالكلام المناسب اجتزنا الحاجز ومرت السيارة بسلام، الى منتظري عودتي الذين كانوا يخشون عدم نجاح تلك المغامرة، وتعرضي لعقاب أقله وضعي في زنزانة... وبعدما وصل السلاح الى بيروت قام الشباب الوطني باستعماله ضد قوات الانتداب التي كانت تصطدم بالجماهير والطلاب من كل المدارس التي كانت تخرج كل يوم للتظاهر والاحتجاج. وأدت بعض هذه الاصطدامات الى وقوع عدد غير قليل من القتلى والجرحى وبخاصة بين طلاب المدارس الثانوية وأذكر منهم الشهداء فؤاد فياض المخزومي، ابراهيم سوبره، محمد العيتالي، محمد علي البابا مع شهداء آخرين في طرابلس وغيرها من المدن اللبنانية، وقد وعدت الحكومة يومذاك بأنها ستبني أضرحة لكل الشهداء الذين لاقوا وجه ربهم إلا ان الوعد لم ينفذ. معركة بشامون كانت المعارك دائرة والاضراب مستمر بانتظار مفاجأة تحسم الأزمة، وقد بلغت الذروة. حمل المفاجأة الى حكومة بشامون الجنرال اوليفا روجيه المعروف في سورية ب "السفاح"، وهو الذي ضرب دمشق وجبل الدروز بالقنابل والمدافع اثناء الثورة السورية. وكانت المفاجأة مشروع فتنة عرضه على المعتصمين في بشامون مفاده ان الشيخ بشارة وافق على العودة الى القصر الجمهوري وتأليف حكومة برئيس جديد، بالاتفاق مع المفوض السامي، والاستغناء عن رياض الصلح! شعر الجميع بالاستغراب والاحباط وطلبوا مهلة حتى الصباح لاعطاء الجواب، فغادر الضابط بشامون وكان السؤال: "هل يعقل ان يكون الشيخ بشارة قد تخلى عن رياض الصلح وقبل بشروط الفرنسيين؟ والى أين نحن والبلاد ذاهبون لو صح الخبر؟ علينا الاتصال بالقصر الجمهوري للتأكد، فمن لهذه المهمة يا ترى؟" فأجبت فوراً: "أنا لها". وغادرت بشامون ليلاً في اتجاه القصر في شارع القنطاري في طرق ملتوية تجنباً لحواجز الجيش الفرنسي وطلبت مقابلة "الست لور" زوجة الرئيس بشارة الخوري فوراً، فقيل لي: "هي في سريرها الآن" قلت: "ايقظوها لو سمحتم، فلدي نبأ خطير يتعلق بالرئيس". وفي لحظات كنت معها على انفراد أبلغها رسالة بشامون، فاستغربت وقالت: "لا صحة لهذ الخبر اطلاقاً، فالرئيس استطاع تسريب خبر الينا مفاده ان الجنرال كاترو الذي عاد من باريس ليعالج الأزمة، استدعى الشيخ بشارة من راشيا الى أحد منازل السراسقة في الأشرفية حيث كان بانتظاره، ودخل معه في مساومة لحل الأزمة وعرض عليه العودة الى الرئاسة لتأليف حكومة جديدة تعود عن تعديل الدستور والتخلي عن رياض الصلح. لكن الشيخ بشارة رفض العرض وقال للجنرال كاترو: "شكراً، نخرج معاً أو نبقى معاً، ولا رجوع عن تعديل الدستور" فأعيد الى المعتقل. هذا ما جرى ولا صحة لغير ذلك. وزادت: "أرجو أن لا تأخذوا بأي اشاعة، والوضع في المعتقل متماسك، فأما خروج جماعي أو بقاء معاً الى ان تعود الأمور الى نصابها". عدت بهذا الخبر السار الى بشامون فتلقاه المنتظرون بالارتياح التام واشتدت عزائمهم وردوا على الضابط السفاح الذي عاد في الصباح ليأخذ الجواب. فرجع بما خيب أمله بعدما أبلغوه ان خبره غير صحيح والحكومة متماسكة. فغادر بشامون غاضباً ليعود على رأس حملة عسكرية لتأديب العصاة. وبوصول الحملة الى مشارف بشامون كان "الحرس الوطني" قد أخذ مواقع دفاعية فدارت معركة شرسة سقط خلالها شهيد من آل فخرالدين يدعى سعيد فخرالدين ينتمي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعدد من الجرحى. وانتقل رجال بشامون الى بلدة سرحمون المحصنة، واستمر القتال الى أن أمر بوقفه القائد البريطاني العام في الشرق "لأن الحرب التي يخوضها الحلفاء لا تسمح بهذا القتال" فامتثلت الحملة الفرنسية للأمر وعادت أدراجها، وفيما يأتي نص البلاغ الحربي رقم 1 وهو البلاغ الوحيد الذي صدر عن حكومة بشامون. "الجمهورية اللبنانية وزارة الدفاع الوطني بلاغ رقم واحد هاجمت قوات فرنسية مسلحة مركز الحكومة الشرعية في بشامون مساء الاثنين في 15 تشرين الثاني سنة 1943 فردتها وحدات الحرس الوطني من دون خسائر في النفوس. وفي صباح اليوم الثاني شنت القوات المصفحة الفرنسية هجوماً عنيفاً على المركز المذكور فردت على اعقابها أربع مرات متوالية حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. وسقط بعض القتلى والجرحى من الجنود السنغاليين وفقدنا شهىداً واحداً يدعى سعيد فخرالدين من عين عنوب. 17/11/1943. وزير الدفاع - القائد العام لقوات الحرس الوطني مجيد ارسلان". عودة الحكومة الشرعية بعدما فشل كاترو في اقناع بشارة الخوري بالعودة الى الحكم منفرداً وقطع الأمل بالوقيعة بينه وبين رياض الصلح، اتخذ موقفاً آخر، وهو المعروف بحنكته ودرايته في معالجة الأمور الشائكة مهما تكن مستعصية. وبعد إفهام حكومته انه من غير الممكن تهدئة الحال الا برجوع الحكومة الشرعية الى الحكم، وبخاصة بعد رؤيته صمود لبنان طوال أيام الاعتقال واخبار الخارج المؤيدة للبنان وهدير الشارع: "بدنا بشارة بدنا رياض"، عمد الى اجراء مفاوضات جديدة مع رياض الصلح هذه المرة تنهي المشكلة، فقام بها وأدت الى الافراج عن المعتقلين وإلغاء التدابير التي اتخذها مندوب المفوض السامي جان هيللو ثم تبعتها عودة الحكومة الشرعية الى مزاولة أعمالها. واستفاق لبنان في الصباح على صوت في راديو لندن يذيع نبأ الافراج عن المعتقلين من دون شروط، بعدما تولى الجنرال كاترو المفاوضة. وبقدرة قادر خرج الناس من البيوت الى الشوارع والساحات كالسيل، يزغردون فرحاً وترحيباً بالعائدين على صهوات النصر والكرامة. وانطلقنا تقي الدين الصلح ومحمد شقير وحسين سجعان وأنا في سيارة تنهب الطريق الى شتورا لاستقبال العائدين، فشاهدنا ونحن في الطريق سيارة تتوقف وفي داخلها الشيخ بشارة ورياض، فترجلنا وتقدمنا نحو رياض وبإشارة منه تحولنا نحو الشيخ الرئيس مرحبين مهنئين بالنصر العظيم. ومن مشارف العاصمة شاهدنا الناس يحتشدون لاستقبال العائدين، ولم تستطع سيارة الرئيسين قطع المسافة الى القصر قبل نحو ثلاثة ساعات. * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤتمرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار للنشر في بيروت الشهر المقبل.