تنشر "الحياة" على أربع حلقات هذه الدراسة التي قدمها الى المؤتمر السنوي الپ52 الذي عقدته مؤسسة الشرق الأوسط - اللجنة المولجة شؤون "السوق العربية الاقتصادية" في واشنطن في 17 تشرين الأول اكتوبر 1998، كل من كمال درويش نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وبيتر بوكوك وجوليا ديفلن. في النظرية الاقتصادية الصافية مقولة مفادها ان أفضل توزيع للموارد العالمية يتأتى من فتح الباب كلية أمام التنافس الحر بالسلع وفي الأسواق. فالقادرون على المنافسة يزدهرون والعاجزون عنها يخسرون. لكن الموارد ستصبح متاحة لتوسيع الأنشطة التنافسية الراهنة أو لانشاء أنشطة جديدة. وتبقى النظريات مثالية دائماً وأوسع من القطاعات التنافسية في العالم. ويوجد مجال فعلي أمام التبادل التجاري الاقليمي وسياسات تكميلية، لاعلاء شأن التنافسية في كل دولة من الدول بغية تقريب الجوار الاقليمي وجعله تنافسياً في العالم وأسواقه. وتوحي الأبحاث العلمية ان ثمة قوة كامنة دافعة لتحقيق هذا لكن السؤال يتمحور حول أفضل الوسائل والطرق للوصول اليه. ومن الخيارات المتاحة اللجوء الى ترتيبات رسمية لانشاء مجال للتجارة الحرة في المنطقة. وتتجاهل الحقائق الاقتصادية والسياسية النواقص الموجودة في الأنظمة والبنى وفي أسواق التجارة والبضائع، وعدم الجدوى عملياً من رهن الشركات والعمال لقوى لا تتحكم بها الدول، أو لا تؤثر فيها إلا قليلاً. وبناء عليه، يتحول عدد كبير من الحكومات، بعدما تخلى اجمالاً عن التمسك بالسياسات الملازمة للتصنيع الذي يغني عن المستوردات، وعلى نحو متزايد، الى تبني حلول وسط في ما يخص التوجه الى التجارة الحرة الدولية، أي يتحول الى تكتلات اقليمية تستند الى جوار جغرافي يمارس فيه التبادل التجاري الحر المتفق عليه، بينما لا تزال التجارة الحرة بالمعنى الكامل في حيز النظريات. فيما يتواصل بذل الجهود التي لا يستهان بها، تحت مظلة غات منظمة التجارة العالمية لاحلال نظام التبادل التجاري الحر في العالم كله. وبات التبادل التجاري في مناطق التكتلات الاقتصادية حراً نسبياً من القيود على رغم ان هذه الحرية نادراً ما تكون مطلقة. وتوحي نظرية الوحدات الجمركية التقليدية ان ازالة الحواجز التجارية، بين الدول المشاركة في تكتل اقتصادي، تساهم في الترويج لرفاه شعوب المجموعة المشاركة في التكتل لدرجة ان هذه الازالة تؤدي الى رفع مستويات التبادل التجاري بين دول المجموعة. لكن إذا أدى التبادل التجاري بين دول تابعة لتكتل اقتصادي معين الى خفض التبادل التجاري بين هذه الدول وبين منتجين أكثر فاعلية موجودين خارج التكتل، عندئذ يؤدي هذا "التحول التجاري" الى خفض رفاه شعوب الدول المشاركة في التكتل. وفي مواجهة تكاثر التكتلات الاقتصادية خلال الأعوام القليلة الماضية قال البعض ان على الجميع تسمية هذه التكتلات "اتفاقات التجارة المفضلة"، وعلى الجميع الامتناع عن تشجيع نشوء هذه التكتلات مع بعض الاستثناءات المستندة الى أسباب سياسية في المقام الأول لأنها تعرقل تحقيق الهدف الأكبر الذي يتناول تحرير التجارة العالمية. ولا يذهب معظم الخبراء الاقتصاديين الى هذا الحد. فثمة اجماع ان على التكتلات الاقتصادية ان تتجنب التحول التجاري الذي يخفض مستوى الرفاه، وان تتجنب احتمال عدم تقدمها نحو مزيد من التحرير للتجارة الدولية برمتها. ويتطلب الأمر تقييم كل تكتل على حدة استناداً الى دراسة متأنية دقيقة لمختلف مصادر التكاليف والمنافع في التكتل، ومع عدم الاكتفاء بتحليل توليد التجارة وتحويل مجراها، بل مع الأخذ في الاعتبار عوامل أخرى كتأثير التكتل على الاستثمار والانتاجية، وهي عوامل لا يمكن بالضرورة قياسها بدقة كما يمكن قياس عوامل أخرى. وأخيراً ثمة اجماع على أن فرص التكتلات الاقتصادية المتاحة لتوليد التجارة تزداد وتتحسن اذا تقيدت بمعايير أساسية تتضمن الآتي: 1- وجود حواجز جمركية عالية نسبياً بين الدول التي يمكن أن تنضم الى التكتل. 2- التقارب الجغرافي. 3- ان تكون الدول المشاركة في التكتل في مراحل متشابهة اجمالاً من التطور الاقتصادي العام. 4- ان يكون في الدول بنى انتاجية وطنية مختلفة متنوعة. وبالنظر الى هذه المعايير يجب أن تكون دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا مرشحة لانشاء تكتل اقتصادي فعال تكتل تجارة حرة. ولم يولد هذا التكتل عملياً رغم وجود عدد كبير من الاتفاقات الثنائية والمتعددة الجوانب التي تهدف الى خفض الحواجز التجارية. الاندماج التجاري العربي: الممارسات والمخاطر مر تاريخ معظم الدول العربية الاقتصادي، من منتصف الثمانينات في القرن الماضي الى منتصف الثمانينات في القرن الحالي بمرحلتين عامتين هما: هيمنة القوى الاستعمارية ثم مرحلة ما بعد الاستعمار التي كانت الصناعة فيها تنتج ما يحل محل المستوردات. علماً ان المرحلة الثانية نشأت الى حد ما من تجارب المرحلة الأولى المريرة، بما في ذلك ما ينسحب على التجارة أو ما يخصها. ففي أواخر القرن التاسع عشر وفي السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى كان التبادل التجاري بين الدول العربية عملياً حراً ومستنداً الى الوحدة الجمركية العثمانية. لكن على رغم ذلك تهمش هذا التبادل التجاري بفعل تطور الارتباطات المالية والعملياتية والنقلية القوية مع أوروبا وخصوصاً مع فرنسا وبريطانيا. واتسمت هذه الارتباطات بكون الدول العربية أصبحت سوقاً تقليدية للصادرات الفرنسية والبريطانية. وجاءت التسوية السياسية التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى لتجعل تقاسم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا أمراً شرعياً ما جعل هذا النمط من الارتباطات دائماً وعميقاً على سبيل المثال عن طريق ضم الدول العربية الى منطقتي الجنيه الاسترليني والفرنك الفرنسي اثناء الثلاثينات. ومن العوامل الأخرى التي خفضت التبادل التجاري الاقليمي نشوء أنظمة متباينة خاصة بالضرائب والشأن القضائي والقانوني اضافة الى التربوي التأهيلي في مختلف الدول العربية بعد انحلال الامبراطورية العثمانية. لكن التبادل التجاري الاقليمي انتعش موقتاً خلال الحرب العالمية الثانية بعدما اقيمت حواجز لا يستهان بها أمام التجارة الدولية، وبعدما أنشيء في القاهرة مركز امدادات الشرق الأوسط دعماً لجهود الحلفاء الحربية، ما أدى الى ازدهار موقت في تبادل البترول والمنتجات الصناعية الخفيفة بين مختلف الدول العربية. ونشأت، بفعل التسوية التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما رافق هذه التسوية من تشديد قوي جديد على تقرير المصير ومن تراجع عملي فعال في قوة فرنسا وبريطانيا السياسية والعسكرية والاقتصادية، مجموعة مختلفة من التحديات والفرص السانحة أمام الدول العربية. واتسمت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بطريقتين متعارضتين أساساً في رسم السياسة. فمن جهة اختار معظم الدول العربية في البدء تبني سياسات اقتصادية شعبية كانت هي السائدة في العالم وسياسات جذابة من وجهة النظر القومية بعد انحسار الاستعمار تناولت انتاج ما يحل محل المستوردات الصناعية من الخارج، ومدعومة من عائدات الحكومة التي جاءت في معظمها من الرسوم الجمركية ومن ضرائب أخرى على النشاط التجاري. ومن جهة أخرى ساهم شعور بالتماسك الاقليمي - شعور بصحة فكرة الأمة العربية غير المقيدة بما كانت الغالبية تعتبره حدوداً جغرافية فرضها الاستعمار - باعطاء زخم لحركة متعارضة كانت عملياً مضادة لفكرة التصنيع "الوطني" الضيق الذي يحل محل المستوردات، أي لحركة ترمي الى الاندماج الاقتصادي العربي وخصوصاً الاندماج التجاري. واتسمت الجهود الرسمية المبذولة في سبيل الاندماج التجاري العربي، وعلى مدار نحو خمسين عاماً بالتوتر أو التجاذب أن صح التعبير بين هذين الخطين من السياسة الاقتصادية. ففي عام 1950 وقعت كل من مصر والأردن ولبنان والسعودية وسورية واليمن على معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، وذلك في اجتماع عقده المجلس الاقتصادي التابع للجامعة العربية. وكانت غايات المعاهدة الاقتصادية الرئيسية خفض التعرفات الجمركية وتحرير تحرك الرساميل والعمالة. وفي عام 1953 تم التوقيع على ميثاق تسهيل التجارة وتنظيم تجارة الترنزيت الذي كان الهدف منه ازالة الحواجز أمام التبادل التجاري في السلع الزراعية والمعادن. وعارض العراق والسعودية واليمن، التي تعتمد حكوماتها كثيراً على الرسوم الجمركية المفروضة على المستوردات، الجهود المبذولة في سبيل خفض التعرفات الجمركية على الانتاج الصناعي. وبدأت الجهود الهادفة الى احقاق الاندماج، في شكل سوق عربية مشتركة، في أواخر الخمسينات عندما اتفقت مصر مع الأردن والمغرب وسورية والكويت مبدئياً على توحيد سياساتها وتشريعاتها الاقتصادية. وفي عام 1964 تمت المصادقة على هذا الاتفاق في الدول الخمس. لكن أربع جولات من المفاوضات حول الاعفاءات نسفت النية الخاصة بالالغاء الفعلي للرسوم الجمركية وللقيود المادية الكمية على مدار عقد من الزمن. وفي عام 1971 تخلت الدول العربية أخيراً عن فكرة انشاء حاجز جمركي خارجي مشترك بينها سوق عربية واحدة، وجرت محاولة أخرى للترويج للاندماج الاقليمي عام 1981 لم يؤثر كثيراً على تحرير التجارة رسمياً أو على التبادل التجاري الفعلي، مثله في ذلك مثل الاتفاقات المماثلة السابقة. فقد افتقر الاتفاق الى ضرورة الالتزام بأحكامه والى جدول زمني لتنفيذ بنوده. واتسم الاتفاق بوجود لائحة ايجابية فيه، تدرج في اللائحة المنتجات المحررة، بينما تنص طريقة اللائحة السلبية على أن يكون التحرير كاملاً وشاملاً كل شيء باستثناء ما يدرج في اللائحة السلبية ويحظى بالتالي بالحماية المتواصلة. ومن جهة أخرى، أصبح المسرح العربي يتسم بترتيبات اقليمية ضيقة لا تشمل المنطقة العربية كلها مثل مجلس التعاون الخليجي الذي انشيء عام 1981، والذي يمكن وصفه بأنه الاتفاق التجاري العربي الوحيد الفعال حتى الآن، اذ انه أفلح في تعزيز شأن التحرير التجاري والتحرك الحر للرساميل والعمالة بين دول المجلس، ومثل الاتحاد العربي المغربي الذي اجهض بعدما انشيء عام 1989، ومثل عدد كبير من الترتيبات الثنائية بين شريكين تجاريين فقط. وفي التقديرات ان المعاهدات الثنائية في المنطقة العربية تزيد على 45 معاهدة تتناول ترتيبات تفضيلية محدودة تنحصر في المقام الأول في اعفاءات جمركية مختلفة الدرجات تشمل فئات محددة من البضائع الزراعية والمواد الأولية. لكن الطبيعة الجزئية لهذه الترتيبات عرقلت التجارة بين الدول العربية كافة بدلاً من أن تحفز التبادل التجاري العربي العام. ويتمحور السؤال الآن حول العبر التي بوسع المرء ان يستمدها من سجل الجهود التي بذلت بعد الحرب العالمية الثانية في سبيل رفع شأن الاندماج التجاري العربي عن طريق المبادرات الرسمية المستندة الى معاهدات. والجواب المقتضب على السؤال هو ان العبر كثيرة وسنلفت النظر الى بعضها فقط في هذه الدراسة. أولاً - يبدو من الانصاف القول ان عملية الاندماج كانت مختلفة على نحو قضى عليها بسبب صراع بين دوافعها وأهدافها من جهة وبين التوجه العام للاستراتيجيات الاقتصادية الخاصة بمعظم دول المنطقة وذلك خلال معظم الفترة المذكورة اعلاه. وكان هذا التوجه العام يدعو الى سيطرة الدولة على الشأن الاقتصادي والى التصنيع الذي يحمي الذات يحمي الدولة. ويعني هذا ان حافز التخلي عن حرية التبادل التجاري المتفق عليه لصالح ما يعتبر أولوية استراتيجية محلية، مدعومة بمصالح محلية مصممة على الابقاء على الوضع القائم الراهن، أصبح قوياً إذا بدأ شريك تجاري ممارسة منافسة ناجحة في قطاع من القطاعات. ثانياً - يتبدل تفكير الحكومات التي قد تبدو متشوقة لدعم التماسك العربي مبدئياً عن طريق تحرير التجارة الاقليمية حالما تواجه نظرية التحرير الجريئة الحقائق الباردة التي تتناول فقدان العائدات من خفض لا يستهان به في التعرفات الجمركية، على سبيل المثال، وذلك لأهمية الضرائب المتنوعة المختلفة على النشاط التجاري للعائدات العامة. ثالثاً - ساهمت طموحات سياسية نبيلة في بدء بذل جهود متوالية سعياً وراء الاندماج، لكن احتكاكات وتوترات سياسية أقل نبلاً ساهمت غالباً أيضاً في افساد هذه الجهود أو ابطال مفعولها. رابعاً - على المستوى الفني، من المعلوم ان تحريراً مستنداً الى لوائح ايجابية أدنى قيمة بكثير، ومن السهل اخراجه عن سكته، من تحرير مستند الى لائحة أو لوائح سلبية بالمعنى الذي سبق ذكره، ذلك ان التحرير الأول يعين صراحة ومن دون مواربة "الثور الذي سيذبح وعمق الجرح الذي سينزل به"، وهذا الأمر يستحث مقاومة فورية. لكن ما يجمع هذه العوامل كلها على رغم ارتباطها بالعامل الأول خصوصاً، نفور يسهل فهمه، في ضوء عقلية ما بعد الاستقلال التي تحجرت بعد ذلك في تبني سياسات وطنية لا قومية عامة في طول المنطقة وعرضها، من تقبل فلسفة حرية التجارة بأكملها اذ ان الفكرة الأساسية الكامنة وراء هذه الحرية هي التكامل والتنافس لا الاكتفاء الذاتي والتصنيع على حساب الفكرة الأوسع التي تنادي بالاستخدام الفّعال للموارد المتاحة. ولا حاجة بنا الى القول ان الخبراء الاقتصاديين وصانعي السياسة من ذوي النفوذ والتأثير من خارج المنطقة تواطأوا مع هذا الخط الفكري طيلة معظم الفترة وحتى الثمانينات. ونميل الآن نحو نسيان ان العالم شهد "اجماع ايكلا" الذي كان من أركانه شخصيات حازت على الاعجاب والاكبار مثل راوول برسبيش، قبل ان يشهد "اجماع واشنطن". الاحتمالات بناء على ما تقدم ماذا يمكن أن يقوله المرء حول حظوظ نشوء طريق جديدة رسمية لاندماج التجارة العربية في الوقت الراهن للاستفادة من القوة الكامنة، المذكورة في الجزء الأول من هذا البحث، ولتفعيل اندماج تجاري اقليمي ديناميكي مثمر؟ على الرغم من السجل التاريخي الذي يثبط الهمة، نبدي تفاؤلاً حذراً استناداً الى عاملين أساسيين: اولاً - التفكير الاقتصادي الجديد، الذي يضع التنافس في رأس توجهاته، والذي ساد أوساط صانعي السياسة في العالم. ثانياً - القوى التي اطلقتها العولمة. في اعتقادنا ان هذه العولمة وجدت لتبقى ولتتطور وتتعاظم على الرغم من الاضطراب الأخير الذي شهدته الاسواق المالية، ولتغيير التفكير الاستراتيجي والطموحات الاقتصادية الخاصة بالحكومات بما فيها حكومات الدول العربية. فالمنطقة العربية، اسوة بالمناطق النامية والصناعية الأخرى في العالم، تشهد ثورة في صنع السياسة. فمنذ عشر سنوات أو حتى منذ خمس سنوات، كان من غير المنتظر أبداً تقريباً ان يسمع احدهم رئيس دولة عربية أو رئيس حكومتها يدعو الى السوق الحرة، أو الى حرية السوق، والى نمو يكون القطاع الخاص التنافسي على رأسه. وهذا التمسك باقتصاد السوق أبعد ما يكون عن التملق الكاذب لبدعة أجنبية. فمن الجزائر الى مصر ثم الى اليمن والسعودية ودول خليجية أخرى تتبنى الحكومات، أحياناً بسرعة واحياناً ببطء معطوف على انظار مكاسب جيدة في المدى البعيد، برامج الاصلاح الاقتصادي المتوجه نحو الانفتاح والتنافس في المجال الدولي والذي يسعى الى تحقيق اكبر مقدار من الفعالية، ومن النمو الاقتصادي. لقد تبدلت روح العصر. لكن هل توجد آلية تستطيع ان تجسد تقمص هذه الروح في ما يخص تحرير التجارة ودمج العالم العربي اقتصادياً؟ الحقيقة ان هناك آلية ما، أو يمكن استنباطها، ما يشكل السبب الثاني لتفاؤلنا الحذر. ففي 1997 وقعت ثماني عشرة دولة عربية على مبادرة جديدة اطلقتها الجامعة العربية هي مبادرة البرنامج التنفيذي للتجارة العربية الحرة، أو لحرية التجارة العربية. ويختلف هذا الاتفاق العربي عن الاتفاقات السابقة في عدد من النقاط المهمة. ففي الاتفاق الجديد التزام محدد وجدول زمني لخفض التعرفات الجمركية، والرسوم التي تشبه التعرفات الجمركية، عشرة في المئة سنوياً على مدى عقد من الزمن. وفيه أيضاً معالجة لمسألة الحواجز غير الجمركية. ويهدف الاتفاق الى الأخذ بمبدأ اللائحة السلبية للحد من الاعفاءات ولتبني صيغة مجلس التعاون الخليجي المجربة لحساب القيمة المضافة، كما يتضمن توحيد التعرفات الوطنية السارية المفعول في 31 كانون الأول ديسمبر 1997. وعُهد الى مجلس الوزراء الخاص بالجامعة العربية تنفيذ الاتفاق الذي يشجع القطاع الخاص على رصد التقدم الذي يتم احرازه وذلك بواسطة غرف التجارة والصناعة الوطنية. كما يعهد الى اتحاد الغرف التجارية العربية رفع تقرير نصف سنوي عن التقدم الذي يتم احرازه في تنفيذ بنود الاتفاق وعن المشاكل التي اعترضت التنفيذ. ولا يستطيع أحد القول ان هذا البرنامج التنفيذي خال من العيوب. ونخص بالذكر ان المواد الخاصة بالشأن الزراعي فيه تسمح بالابقاء على قدر لا يستهان به من الحماية اثناء الفترة الانتقالية، كما ان على التطبيق ان يكون مرافقاً لاستراتيجيات مكملة متعددة متنوعة. وللمرة الأولى منذ أعوام عدة يبدو أن ثمة اقتراناً ميموناً يبشر بالخير بين فلسفة اقتصادية واتجاه استراتيجي في المنطقة أكثر ملاءمة بكثير للانفتاح وللتنافس الذي يعزز الرفاه ويعلي شأنه وثمة وسيلة لتطبيق التحرير التجاري العربي على نحو فعال، ولانشاء قطاع جديد عربي تصديري تنافسي في العالم وديناميكي يستند الى ميزات نسبية ويرعى تبادل التكنولوجيا والمعرفة والخبرة، والتنمية البشرية وتحسين الانتاج وتنويعه، على أن يكون مدعوماً ببرنامج مصمم على نحو جيد يطبق بحزم وتصميم لتحرير التجارة العربية من دون أن تلجمه سياسات حكومية اقتصادية محلية وخارجية، وخصوصاً اذا واصلت هذه الحكومات المشاركة في التحرير الدولي برعاية غات منظمة التجارة الدولية