1 تختار زاويةً وتجلس. قبالة مركب من الزلّيج. على جدار غرفة. مثلاً. في مجاز بيْت. أيضاً. أو بهْو. قريباً من يدك. مدينتك لم تعد تعرفها تماماً. وهذا يهمك حيناً. ويبعث فيك عساليجَ النيران. حيناً. قُلْ انه الحنين. قل إن الحنين رحمة. ولا تُبالِ. بشيء يخالف الحنين. مهما اشتدت الخلافات حول من أنت ولا حول معنى الحنين. صداه وتفصيله. ذلك أمر يدعو للريبة عندما تجلس. في موقع الزلّيج. في أي وقت تشاء. مع تفضيل لحظة الضوء الخالص النازل من أعمال السكينة. وحدك جلست وأنت لا تلتفت الى الآخرين. عيناك مشدودتان الى هذا المركب. المعجب. السالب للعقل. جدارٌ. مجازٌ. بهْوٌ. ولك أن تضيف من أمكنة مختلفة الى ما تتوهم أنه لا يوجد. في معمار. نسيت أن الغريب يتعارض مع الطبيعي. هما معاً صنْوان. الواحد يطلُّ على الثاني في تؤدة. ويمضيان في شريانك. يجريان مع الدم. وبه يمتزجان. هذه اللحظة لك. ولا تسمع ما يشوّش عليك الرؤية. في صمت كأنه الموسيقى. متوقفاً عند الأشكال. الخاصة بالقطع الدائرة حول الجدار. وفيك تدور الأشكال كلها. يدان مراهِقَتان قامتا بنقش الزلّيج. في شبه دكان. معمل كنا نسميه. ونحن صغار. ثم لم يعد أحدٌ يكرر الكلمة. مكانٌ. مقصي عن وسط المدينة. فإذا هو معبد صغير. بسقف يكاد ينهدم. ركائز السقف مقوسة الى حد الانكسار. ومع ذلك يجلس المراهِقون. الواحد جنب الآخر. بأمر معلمهم. في يد كل واحد منهم منقاش. وفي اليد الأخرى قطعة من الفخار. مموّهة بلون. هو الأزرق. هو الأبيض. هو الأخضر. هو العسلي. تنظر الى الزليج منقوشاً. ثم مصفوفاً. على جدار. في شكل دائري. قضيان ونجوم. تتلاقى في نوم خفيف. وفي سكرة. ما أحوجني الى هذه السكرة. فيها أذوب. وأعطي الذوبان هيئة الحنين. لا الى وجْهٍ ولا الى عائلة مخصوصة. بل الى اللاشيء. فراغ مُعجِب كان انفصل عني. فاغتربتُ. وتغرّبتُ. قصبة تتنفس الدخان الرمادي. لمعامل هجمت عليَّ. بأنابيبها. المرتفعة. وفيها من علامات الحمى ما يخيف. جسدي. المقترب. من افتقاد ما يتحرك به. جمالاً. صامتاً. حتى لا أجيب. ذلك السائل الذي زعم أنني لا أنصت الى الرنين الخالص للضوء ساقطاً من انحراف كوة. في أعلى الجدار. ولا أتذكر تماماً. لربما كان المكان ضريحاً. وأنا أتوهم أنه البيت. بيتي. من دون ملكية مكتوبة في سجل الممتلكات. لا. إنه مكن مهاجر من الآباء الى الأبناء. 2 هواك أيها الزلّيج. والبارحة جاءني هذا الدوار. كلمني وأنا أحاول الابتعاد عن الضجيج. لأفرح بصديق من القاهرة. سعيد الكفراوي. أو صديق من لندن. أمجد ناصر. ونحن في مكان من الزلّيج. تلك الكلمات المشتركة هي التي تترك قاموس المحبة يفيض. بما يتوالى من الأحوال على جسد. جسدنا. ونحن تائهون في أرض. من قبل كانت القاهرة. من النيل الى سيدنا الحسين. وصديقي جمال الغيطاني يرافقني. أثراً أثراً. وفي كل أثر سلاسل من الضوء. ونحن نمشي أمجد وأنا من غير اكتراث بما قد يفاجئنا من افتقاد الطريق. لم يكن ذلك شأننا. ولا كان ونحن الثلاثة. أقصد أربعة. أقصد الأصدقاء الذين أحبهم. من وهج عربي الى وهج عربي. في البلاد المتفرقة. من فلسطين الى بقاع الأرض. غرْباً وشرقاً. الأحباء. ونحن نطوف الأرض. بحثاً عن كلمة. بها تبدأ العربية حياة ليست حياتها السابقة. هي قطرة ضوء. في جسدِ. لُغةٍ. أحببتُ هذه اللغة. لغتي. أحببتُ مَنْ صنع جمالَها. لقرون تستعصي على الفنَاء. وهي ناصعةٌ. دائماً. في دمي تجري. كما يجري. الدمُ في الكلمات. هذه وحْدَتُك أنتَ. في مساء يحتاج لصبيب من الأمطار. حتى نرتشف السكينة. على الجهة المقابلة لشمال البحر الأبيض المتوسط. لن يرانا أحد. وذلك مبْعَثُ الرحمة. أوبّخ نفسي. كلما أحسستُ أنها انفصلت عني. وانساقت نحو ما لا يعنيها. مجاراةً لمجاملة. تُعينُني أحياناً. لكنها تُرهِقُني. ترهق أنفاسي. وكلما أقبلتُ على الفكاك منها تراءت نحوي قوافل من غبار. أعجز عن استدراك ما يفلت مني. نقيضي. هي. ولا حول للكلمات. في نهار تَخِزُ الشمسُ المكتفين. فلا أقوى على السير. مرهقٌ أردد في نفسي. فلا تسمعني نفسي. ولا سواها. 3 ثمة عجَبٌ مما أضيع فيه. هل لي برأس ليست رأسي. هل لي بأعضاء تنفصل لزمن عن أعضائي. أتمنى ذلك. وأظل أتمناه. حتى متى أيتها الأعضاء. كم بقي لي من التمني. الزمن لا يمنحنا التمني على الدوام. لنا حدٌّ. فإذا انقضى لن يعود لنا ما نتمناه. بعدُ. لأجل ذلك يتضاعف الحنين الى الزِّليج. دائراً في ألوان هي التي تعلمتُ سطوتها. واحتفظتُ بمائها. يسري في العروق. لوناً. لوناً. حتى الشعاع الأول للفجر. شخوصٌ سماوية لا أدرك شكلها. هي هكذا. من دون شكل. تسري في الأنفاس. نديةً. رطبةً. مائيةً. وتسيل. كما تسيل الحروف. على ورقة. تماماً. جسدٌ في جسد. ولي الليل والنهار. منهما أتزود بالرؤية المفتوحة كلما أدركت أن التمني يتناقص. هَبْ أنكَ لا تفهمني. أدعوك لأن تترك حواسك تتحرك خارج ما كنتَ رصدتَ لها من الطرق. واتبع ألواناً تتآلف. من شدة دورانها. شمْساً في وسطها نقطة صفراء. هي المنبع لكل ضوء. الشمس. ربما. الماء. ومن كلّفَك بتحديد طبيعة المنبع؟ اكْتفِ بالضوء وَارْم بنفسك فيه. ليلة تكون إحدى ليلاتك الباقيات. مما كنتَ تمنيتَ فلا أنتَ ولا ما تتمناه. كل مرة تعود الى الكلام نفسه. كأَنْ ليس لديك ما تكتبهُ سوى الكلمات ذاتها. وهي كل مرة تسري في الأعضاء بنغَم جديد. هو جديدٌ. وأنت تحسه. لأنها في جسدك تدور. زلّيجاً. لامعاً. محرقاً. تائهاً. بين ملاكَيْن. فلا تقترب من المعنى قبل أن تفتقد الطرق كلها. وتمحو الآثار التي كانت من قبلُ تدلُّ عليك. في هذا المحو الجليل تكتب الكلمات ذاتها. وهي تشهد ميلاداً ما ورد من قبل على سمعك ولا قلبك. هي كلمات تحرث تراباً. من اليمين الى اليسار. وعند المصبِّ تؤجِّلُ المعنى. عالمةً أن كل حديث عن المعنى هو حديث عن الصمم. أتابع دورة الزليج. ومعي نفسي. أضحك. ثم الهرير يستبدُّ بي. ليكُنْ أيها الأصدقاء. إنني فيكم أحْيا. ولي ليلٌ يدركني. حبّذا لو اقتربتُ مما أنا فيه. من الجدار. والزليج. جدار يتلو جداراً. ولي صديق يسألني عن كلمة الزليج. أقول أنصت أولاً. وأنظر الى الجدار. الى هذه القطع الفخارية المنقوشة بيدين مراهقتين. كما كان أندلسي في قرطبة أو إشبيلية أو غرناطة. جيان. طليطلة. كل تلك المدن التي قرأت عنها فلم تعرف كلمة الزليج. قطعٌ منقوشة وفق تركيب هندسي يحافظ على توازن السماوات والأرض. منها كانت الأشكال تدور على بعضها أو تصطفُّ في خط يفتقد نقطة النهاية. تتكرر جملته الأولى لكي لا يكتمل أبداً. إنه التكرار. اللانهاية. 4 وأنزعُ الى الصمت. نفحةُ الوحدة. ما بقي مني. رصدْتُه لها. هي. القريبة. المتفردة. الجليلة. أحسها تتكون في الصدر. قطرتين. قطرتين. من فم قصبةٍ معلقة فوق جدار. أطيل السمع مغمض العينين. وأنصت الى التقطُّر. من الأسفل الى الأعلى. يصعد الرنين. شكلاً نباتياً. يرتفع ويمتد. في كل حركة لون يضيف الى الألوان المعروفة ما لا تدركه الأبصار. في النفس يتحدد ويضيع. برهة واحدة. لمح البصر. أيها اللون لا تُسرع في العبور. إن جسدي قريب منك وفيك مقيم. هو الذي وهبته لك فلا أدري أين هو تباطئي. وانشرحي. توسطي الصحن وانفردي بي. قطرةً من نفحة. ومن طيب سيهجم عليَّ بعد قليل. عهدٌ هي الوحدة. وحدتُك أنتَ. أنا. التي تمضي حاملةً أقدامي الى غيري. في الصمت. نتشابه ولا أحد منا يعرف الآخر. هي التي تطوف بي. وفي الفجر تلمع لمعة خفيفة. أحببتُ تلك التي لا تمضي. أو عندما تعزم على المضي تأخذ مني شيئاً منسياً. ولا تعود. مهما ألححتُ. أطوف وهي تطوف بي. أَلَمْ أسكن إليها وأنا مقبل على الكلمات؟ في حالة تكبر كلما جلست لأنصتَ الى ألوان الزليج. تراكيب معجبة. أضواء تتكامل في شساعتها. صحراء تمْثُل أمامي. ذلك المنبع. اللونُ يغطي ما بقي منها. ومني. أوشْوِشُ أثناء الطريق. انهضْ والعَبْ بالكلمات. في موقع لا يدركه سواك. لا لأنك قَصْرتَه على نفسك بل هُوَ انفرد بك. هو الذي اختار وعيّنَ. فلا سلطان لك عليه. إنك ما يريد منك. فاتبع أثرَه واستسلم لغوايته. نهاراً وليلاً. جالساً. قبالةَ جدار. مجازٍ أو بهْو. 5 ولي من هذه الوحدة الشكوك. هل هناك ما هو أقسى من أن تعيش من أجل لحظة فلا تظفر بها إلا مهاجراً من ضجيج الى ضجيج؟ وما الذي يديم الحالة دون قدرة على السكن فيها؟ الأيام تلو الأيام. تهجرني أعضائي. وأنا أردد في صمت شبيهٍ بصمتي. كُنْ معي في الليلة والليلة. اجعل من نهاري. طريقاً إليك. فلا تأخذني منك سِنَةٌ ولا يخطفني ضجيج. أعرف أن الوقت هارب. وأن التمني يستنفدُ أجله. لكنني مقيم. جالساً قبالة ما يهبُني الشفاء. لعلني أنظر الى اللؤلؤة تنزل قطرتين. قطرتين. على ورقة. وبي من النشوة ما لا يمنعه حجاب. جلسةٌ لمقام الزليج. وفي هذا المسكن الأول أكتشف إمضاء يد هي ما تبقى مني. كما لو كنت جسداً من يد. يدٍ واحدة. بها تكتبني الكلمات. وأبصر منتهاي ومبتدئي. فيها. ألواناً تتراقصُ في الصدر. وفي الصمت تعْرَى أمامي. فلا حجاب بيني وبينها. لنا هذا الوقت من صمتٍ ومن موسيقى. ولنا ليلةٌ في الصدر.