يبقى امر القيادة العراقية لغزاً محيراً، اذ يصعب تصور ظرف أسوأ من ذلك الذي اختارته لاثارة ازمتها الاخيرة مع مجلس الأمن، ومن ورائه وبالأساس، مع الولاياتالمتحدة. صحيح ان في بعض مطالب بغداد بشأن رفع الحصار المفروض على البلاد منذ نهاية حرب الخليج الثانية، وفي بعض مآخذها على أداء فريق التفتيش الدولي وقائده ريتشارد بتلر، ما من شأنه ان يكون مفهوماً، بل مشروعاً. ذلك ما يتعين الاقرار به برغم صدور تلك المطالب والمآخذ عن نظام كالعراقي، منبوذ فاقد للمصداقية، حتى لو أراد بذلك الحق باطلاً. فالحصار المضروب على العراق، بما له من آثار بشرية مدمرة كارثية، معلومة بما يغني عن الاطناب في توصيفها، لا يجوز له ان يستمر هكذا الى ما لانهاية، دون ان ينجد العراقيين ببارقة امل، على الأقل، ودون ان يشعرهم بأن معاناتهم تلك ستنتهي يوماً وان العالم الخارجي معني بها، حريص على انهائها. اما في ما يخص فريق التفتيش، فلا شك في انه ابدى، وإن من خلال البعض من افراده، ما يوحي بدرجة من الانحياز السياسي مقلقة، كان يفترض الا تكون ماثلة على هذا النحو لدى فريق يعمل بتخويل دولي، ويعبر عن ارادة الأسرة الدولية في مجموعها، وليس عن ارادة الولاياتالمتحدة، او الهواجس الامنية الاسرائيلية دون سواها. وقد وصل الاتجاه الاخير الى حد الاستعانة بالدولة العبرية، عن غير وجه قانوني، في مهام الكشف عن اسلحة الدمار الشامل العراقية، على ما اعترف بذلك اعضاء، حاليون وسابقون، في فريق "اونسكوم". وذلك تحديداً من بين ما مكن الحكم العراقي من اثارة قضية "التجسس"، تلك التي تمثل بعضاً من المحاور الأساسية للأزمة الاخيرة، وتلك التي برر بها احجامه عن الاستمرار في التعاون مع الفريق المذكور. كل ذلك، اضافة الى ان الرأي العام العالمي قد بدأ يضيق ذرعاً بالحصار المفروض على العراق، ذلك الذي تبدت آثاره السلبية على شعب ذلك البلد، دون ان يبرهن على اي قدر من الجدوى حتى الآن، كان يمكنه ان يضع بين يدي نظام بغداد بعض اوراق لا يستهان بها، ربما لم يسبق له ان امتلك ما يماثلها منذ تحرير الكويت. غير انه، ولدافع ما، يعترف الكثيرون بعجزهم عن النفاذ الى خباياه، رأى ان يبدد تلك الأوراق، وان يلوذ بموقف صدامي قطعي احتار العالم الخارجي، بما فيه اكثر الاطراف تحفظاً او اعتراضاً على سياسة واشنطن، في فهمه او في استكناه منطقه. بل ان من بين ابرز ما يلفت وما يستوقف ان قرار العراق وقف تعاونه مع فريق التفتيش قد جد مباشرة إثر صدور آخر قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعراق، وقد تضمن ذلك القرار نقطة اساسية، هي تلك المتمثلة في اجراء تقييم شامل للعقوبات، وهو ما يمثل استجابة لأحد مطالب بغداد. بل ان اهمية هذه النقطة لا تتوقف عند هذا الجانب، بل تتعداه الى ما هو اهم، طالما ان ذلك القرار الدولي بصيغته هذه، يفتح المجال لأول مرة للخوض في مسألة الحصار، في ذاتها، وليس كأمر يجري تأجيل الخوض فيه دوماً، لحساب مسألة نزع السلاح، وطالما انه كان يعد بتحول العراق الى موقع الطرف المفاوض، وليس فقط الطرف الذي يُطلب منه الاكتفاء بالامتثال، حتى اذا ما امتنع ووجه بالمزيد من العقوبات والضربات العسكرية. او انه على الأقل قد مثل بداية، وإن متواضعة، في هذا الاتجاه. ولأن القيادة العراقية قد اختارت ان تدير الظهر الى تلك التطورات، وان تمتنع عن السعي الى استثمارها، على ما قد تتسم به من محدودية، فهي وجدت نفسها في عزلة كاملة في مواجهة الولاياتالمتحدة، على عكس ما كانت عليه الحال اثناء ازمة شباط فبراير الماضي. فقد استطاعت واشنطن ان تلج باب التصعيد العسكري دون ان تقابل بمعارضة جدية، في ذلك، من احد. فالدول العربية، وإن كانت تحبذ الحلول الديبلوماسية، وتعلن انها تفضل عدم اللجوء الى ضرب العراق، الا انها لا تجد في مواقف قيادة هذا البلد ما من شأنه ان يقوي حجتها في هذا الصدد. اما فرنسا، فانها لم تبذل الجهد الذي بذلته قبل تسعة اشهر، وساعد دون شك، على تجنب الضربات العسكرية، وذلك لأن مسؤوليها يجهرون بأنهم لا يفقهون من سلوك بغداد شيئاً ولا يجدون له مبرراً. لذلك، لم تتردد باريس في توجيه اللوم الى صدام حسين، وقد اعتبرته مسؤولاً عن الازمة، في حين انها اكتفت بأدنى مظاهر الاعتراض على الولاياتالمتحدة، بأن قررت الامتناع عن المشاركة في اي عمل عسكري يصار الى القيام به. وكذلك الحال بالنسبة الى موسكو، تلك التي، وإن استنكرت ضرب العراق وحذرت منه، الا انها بقيت دون حشد طاقتها الديبلوماسية للحؤول دون ذلك، كما فعلت في بداية السنة، هذا ناهيك عن انها بالغة الانشغال بأزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية الحادة والعويصة. وحتى امين عام الأممالمتحدة كوفي انان، لم يهب وسيطاً ومفاوضاً، كما سبق له ان فعل في الازمة السابقة. ولكن هل يعقل ان يكون الحكم العراقي غافلاً عن كل ذلك الى هذا الحد حتى يقدم على ما اقدم عليه من تصعيد في مثل هذه الظروف والملابسات الدولية؟ كثيراً ما قيل بأن الحكم العراقي قد لا يكون بأكثر رغبة في انهاء الحصار من الولاياتالمتحدة نفسها، ويسوق القائلون بهذا الرأي امثلة على ذلك عديدة، من ضمنها تبديد سلطات بغداد لنحو السنة قبل موافقتها على اتفاقية "النفط مقابل الغذاء"، او ما قامت به مؤخرآً من وقفها التعامل مع فريق "اونسكوم" مباشرة بعد قرار مجلس الأمن اجراء تقييم شامل للعقوبات، وكأنها ارادت الحؤول دون ذلك. ويذهب القائلون بهذا الرأي الى ان للحكم العراقي فوائد بديهية في استمرار العقوبات، طالما انها تضع العراقيين في حالة من الفاقة تسهل اخضاعهم، على عكس وهم الواهمين بدفعهم، جراء تلك الفاقة، الى التمرد. اضافة الى ان الحظر، وما يلازمه من تهريب ومن تلاعب بالأسعار ومن استحواذ على المساعدات الانسانية الآتية من الخارج، قد اصبح مصدراً للأرباح الطائلة بالنسبة الى المتنفذين وبطانة الرئيس العراقي وأفراد اسرته، على ما تقول شهادات وفيرة. اما ان النظام العراقي قد لا يكون راغباً في انهاء الحظر، وإن توسله وطالب به لأغراض الدعاية والإحراج، فذلك ما تقوم عليه قرائن عديدة، كتلك التي سبقت الاشارة اليها. وأما عن وازعه في ذلك، فهو قد لا يتوقف عند اخضاع العراقيين او عند ما يدره الحظر من ربح وفير، بل هو قد يتجاوز كل ذلك الى تحويل الحصار الدولي الى محور او لب استراتيجية النظام العراقي من اجل ضمان بقائه، بما في ذلك اعادة تأهيله على الصعيد الدولي. فهو يعلم، من ناحية، بأن الحظر هو ما يمثل نقطة الضعف وعقب اخيل، في منظومة الاجراءات التي اتخذت ضده في اعقاب حرب الخليج الثانية، اذ انه مدخل الطعن اخلاقياً وانسانياً في منظومة الاجراءات تلك، خصوصاً اذا ما ترافق ذلك مع قلة جدوى كتلك التي اصبحت بادية للعيان. ثم ان الحكم العراقي يعلم، من ناحية اخرى، ان العالم الخارجي، والضمير الانساني، قد يكونان في نهاية المطاف، اكثر حرجاً جراء الآثار المترتبة على الشعب العراقي بسبب استمرار الحظر، من نظام مثله، يعلم الجميع مدى استخفافه بحياة البشر. وهكذا، ربما اعتبر النظام العراقي ان الوقت، على عكس ما قد توحي به ظاهر الأمور، انما يلعب لصالحه، على الأقل متى بقي الحصار قائماً. وهذا قد يمكّنه من تحقيق البقاء بأقل كلفة ممكنة بالنسبة اليه، اقله في ما يخص التقيد بالتزاماته تجاه المجموعة الدولية. وإذا ما صح ذلك، فمؤداه ان الحظر المفروض على العراق، قد فقد بعض آخر المبررات التي كان يدعيها او كانت تُزعم له. فهو اضافة الى آثاره الانسانية الفادحة، والى قلة جدواه السافرة، قد تحول الى عنصر محوري في استراتيجية النظام العراقي من اجل تحقيق البقاء. ولعل في ذلك سبباً كافياً لانتزاع تلك الورقة من يديه، من خلال ابطالها والاقلاع عنها، والبحث عن استراتيجية بديلة لاجبار حكم بغداد على التقيد بالقرارات الدولية. والا جمع سلاح الحظر، بين يدي مستعمليه، بين الجريمة على الصعيد الانساني، والخطيئة على المستوى السياسي. ... ولعل الازمة الاخيرة، مهما كان مآلها، توفر المدخل لمثل تلك المراجعة، وإلا كانت كسابقات لها عديدة: مجرد تأجيل للمشكلة