باصدار إحدى المحاكم المدنية في دكا مؤخراً أحكاماً بالاعدام رمياً بالرصاص بحق 15 عسكرياً سابقاً يكون الستار قد أسدل على واحدة من أطول المحاكمات السياسية وأكثرها إثارة في تاريخ بنغلاديش ذي الأعوام السبعة والعشرين، وتكون هذه البلاد قد خطت خطوة هامة نحو تصحيح أخطاء تاريخية أثرت في مسيرتها، وأعادت الى السلطة القضائية احترامها وهيبتها. لكن يبدو فيما فُتح ملف العدالة البنغالية، أن هذه الأحكام التي برهنت على أن المجرمين لن يفلتوا من العقاب مهما طال الزمن لن تمر دون زوابع داخلية تعيد البلاد مجدداً الى مرحلة اللااستقرار والاحتقان السياسي، في ظل حشد حزب المعارضة الرئيسي حزب بنغلاديش الوطني وأحزاب اليمين والأصولية الاسلامية لقواها ضد حكم القانون وتهديدها باسقاط الحكومة، ناهيك عن اصرار رئيسة الوزراء من بعد هذا الانتصار على المضي قدماً في فتح ملفات الماضي الأخرى ذات الصلة والتمهيد لمحاكمات جديدة قد تطول آخرين محسوبين على المعارضة التي ترى أن القضية جزء من أحداث انطوت وكانت لها ضروراتها التاريخية في خضم مشاكل تأسيس دولة وليدة، بل التي يرى بعض رموزها الأكثر تطرفاً انها كانت حتمية من أجل تخليص البلاد مما يسمونه بالاستعمار الهندي! فما هي هذه القضية التي استدعت مثل هذه الأحكام القاسية وكيف بدأت وتطورت وأثرت على مستقبل البلاد السياسي؟ ولماذا لم يباشر التحقيق فيها قبلاً؟ وماذا يخبأ المستقبل لهذه البلاد على ضوء التطورات الأخيرة فيها؟ في الخامس عشر من آب اغسطس 1975، وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة فقط من انفصال بنغلاديش عن الباكستان بمساعدة هندية، قامت مجموعة متمردة من ضباط الجيش البنغالي بارتكاب مجزرة قتل جماعية راح ضحيتها باني الأمة ومؤسسها وقائدها نحو الاستقلال والحرية الشيخ مجيب الرحمن وجميع أفراد أسرته بمن فيهم ابنه الصغير "رسول" ذو الأعوام الثمانية - عدا ابنته الكبرى حسينة وشقيقتها ريحانة اللتين كانتا وقتذاك خارج البلاد في ألمانيا - بالاضافة الى عدد من المعاونين. ومن هنا تأتي أهمية القضية. فالجريمة النكراء لم تكن بحق مجموعة من عوام الناس وانما استهدفت قائداً فذاً وحزباً جماهيرياً لولاهما لما حقق البنغاليون حريتهم من بعد طول استعباد وتمييز على يد أشقائهم الباكستانيين. ثم انها أثرت على مسيرة البلاد وأدخلتها في دوامة الانقلابات العسكرية والانقلابات الدموية المضادة فحرمتها طويلاً الاستقرار والنمو. ناهيك عن أن هذه الحادثة وما تبعتها من أعمال تصفية جسدية بحق كوادر حزب رابطة عوامي العليا ورجالاتها من الصف الثاني قد أثرت على نفوذ هذا الحزب الرائد وكانت سبباً في تشتيته وغيابه الطويل عن ساحة العمل السياسي وانقسام قياداته المتبقية ايديولوجياً، قبل أن تعود وريثة مؤسسه الشيخة حسينة من منفاها الاختياري في نيودلهي لتوحيد صفوفه والاضطلاع بقيادته ابتداء من 1981. وعلى الرغم من حجم الجريمة وفظاعتها وتفاخر بعض مرتكبيها بعملهم فإن سلطة الأحكام العرفية التي تولت الحكم بعد مقتل الشيخ مجيب ورفاقه استخدمت صلاحياتها عبر أمر رئاسي بمنح الحصانة للمشتركين في المجزرة ضد الاعتقال والمحاكمة. وبوصول الجنرال ضياء الرحمن زوج زعيمة المعارضة الحالية البيغوم خالدة ضياء الى سدة الرئاسة مستفيداً من هذه الأحداث وما خلفته من فراغ، تقرر في 1979 أن يحول الأمر الرئاسي هذا الى قانون يتضمنه الدستور، وعليه تم تعديل الدستور البنغالي للمرة الخامسة. ولم يكتف ضياء بهذا القدر من رد الجميل لزملائه العسكر، بل عين المجرمين والقتلة في مناصب ديبلوماسية رفيعة في الخارج ليبعدهم عن احتمالات الانتقام الفردي. واستمر هؤلاء يديرون سفارات وقنصليات بنغلاديش واستمرت الحكومات المتعاقبة - بما فيها حكومة الجنرال محمد حسين ارشاد العسكرية التي تولت السلطة في انقلاب ابيض في 1982 عقب اغتيال ضياء الرحمن، وحكومة السيدة خالدة ضياء التي فازت في أول انتخابات تجرى بعد عودة الديموقراطية في 1990 - في التمديد لهم وحمايتهم واكرامهم. وعندما تمكن حزب رابطة عوامي من الفوز بالسلطة والعودة الى الحكم في أعقاب انتخابات حزيران يونيو 1996، لم يكن غريباً أن تسعى منذ اللحظة الأولى الى تصحيح خلل قانوني طال أمده وتم تجاهله على يد أسلافه لربع قرن الا نيف. فقام في عامه الأول بجمع الأدلة وإعداد ملفات الادانة مستعيناً بخبراء قانونيين ضليعين ومراهناً على حيادية السلطة القضائية ونزاهتها، واتبعه بالغاء القانون الخاص بمنح المجرمين الحصانة الكاملة ضد المساءلة القانونية مستفيداً من غالبيته البرلمانية. وفي عامه الثاني رفع دعوى قضائية ضد 19 شخصية من بينهم مدني واحد فقط هو وزير الإعلام السابق طاهر الدين طاغور تمت تبرئته لكنه ينتظر محاكمته في قضايا أخرى ذات صلة. وكان من الطبيعي أن تدق عودة حزب عوامي الى السلطة ناقوس الخطر في أوساط المتهمين وتدفعهم الى الاستقالة من مناصبهم الرفيعة في الخارج والاختفاء عن الأنظار، أو مغادرة البلاد على جناح السرعة الى المنافي البعيدة، فيما عدا نفراً قليلاً آثر البقاء في بنغلاديش وانتظار مصيره الأسود مثل الليفتنانت كولونيل متقاعد سيد فاروق الرحمن حكم عليه بالاعدام أحد أعضاء الشبكة الداخلية للتآمر الذي ألقي القبض عليه في منزله في داكا العام الماضي. وهكذا فحينما بدأت المحاكمة الفعلية في تشرين الأول اكتوبر 1997 لم يكن في قفص الاتهام سوى أربعة أشخاص من بين 19 متهماً، أضيف اليهم أخيراً الميجور المتقاعد فضل الهدى الذي تم توقيفه العام الماضي في بانكوك صدفة بتهمة محاولة السرقة من احدى المحال التجارية الكبرى وقامت السلطات التايلاندية في الثامن من الشهر الجاري بتسليمه للسلطات البنغالية تنفيذاً للاتفاق الأمني الموقع بينهما حديثاً. والحقيقة انه من الصعب التشكيك في نزاهة المحكمة التي أصدرت الأحكام أو رئيسها القاضي غلام رسول. فجلسات المحاكمة استغرقت في مجموعها 268 يوماً خصص منها 148 يوماً للمداولات وفحص الأدلة، و120 يوماً للاستماع الى 61 شاهد اثبات و450 شاهداً آخر، كان من بينهم 39 من منسوبي القوات المسلحة بأفرعها الثلاثة، وعلى رأسهم رئيس الأركان زمن الشيخ مجيب الجنرال شفيع الله وقائد فرقة أمن دكا وقتذاك العقيد شفاعت جميل. إلا أن المعارضة التي تخشى من تدهور سمعتها وشعبيتها جراء هذه الأحكام على خلفية ما كان يربط المتهمين بالزعيم الراحل ضياء الرحمن وخلفائه وما قدموه لهم من حماية، تبدو مستاءة وتهدد باضطرابات شارعية واسعة، وان غلفت استياءها من الأحكام بأمور أخرى. وهي في الواقع لجأت مبكراً الى محاولات لتعطيل المحاكمة أو تأخير النطق بالاحكام الى مرحلة لاحقة يكون فيها حزب رابطة عوامي خارج السلطة وتكون هي على رأسها حتى يتسنى لها ابطال نتائج المحاكمة بعفو رئاسي. ومن أجل ذلك سعت الى استخدام قواتها في البرلمان جاتيا سانغ ساد للمشاغبة بالتعاضد مع القوى الأصولية المتمثلة في حزب جماعت اسلامي الحاقد أصلاً على الشيخ مجيب الرحمن وحزبه وابنته لاقدامه على ما يسميه ب "فصل عرى الدولة الباكستانية المسلمة". كما قامت بتأجيج الشارع عبر اطلاق اتهامات ضد الحكومة ببيع البلاد للهند والتخلي لها عن السيادة. وتعوّل المعارضة في هذا الأمر كثيراً على فئات الشباب التي تشكل نحو ثلث سكان بنغلاديش البالغ عددهم أكثر من 125 مليون نسمة. فهذه الفئات ولدت بعد رحيل مجيب الرحمن ولا تعرف الكثير عن نضاله وجهاده خاصة وأن خلفاءه لجأوا الى التعتيم على تاريخه وتشويه سمعته تارة عبر الادعاء بأنه كان عميلاً هندياً وتارة أخرى عبر التركيز على علمانيته ويساريته وقربه من المعسكر السوفياتي السابق أو القول بأن سنوات حكمه لم تمنح البنغاليين أي شيء على صعيد التنمية وتحسين الظروف المعيشية. ولعل ما يرهب المعارضة ان رئيسة الوزراء لا تخفي نيتها في اجراء محاكمات مثيرة أخرى. بل انها بدأت فعلاً في اجراءات قضائية للاقتصاص من المشتركين في حادثة منفصلة عن جريمة اغتيال والدها وأسرتها، ينتظر النظر فيها أمام المحاكم ابتداء من كانون الثاني يناير المقبل. ففي تشرين الثاني نوفمبر 1975 قام عسكريون بأمر من السلطات الحاكمة بقتل مجموعة من رفاق مجيب الرحمن أثناء تواجدهم في المعتقل، من بينهم زعماء تاريخيون أسهموا مع الأخير في تأسيس الكيان البنغالي المستقل من أمثال الرئيس بالانابة زمن حرب الاستقلال سيد نصر الاسلام ورئيس وزرائه تاج الدين أحمد ووزيريه منصور علي وقمر الزمان. وتدور الاتهامات في هذه القضية حول 21 شخصاً، من بينهم ثلاثة من رموز المعارضة تم اعتقالهم أخيراً هم عبيد الرحمن ونور الاسلام منصور من حزب بنغلاديش الوطني وشاه معظم حسين من حزب جاتيا بقيادة الرئيس الأسبق ارشاد. وهناك شخص آخر تم اسقاط اسمه نظراً لوفاته قبل سنوات قليلة هو الوزير السابق خان داقار مشتاق الذي كان يوماً ما من أصدقاء مجيب الرحمن المقربين ويقال انه اشترك في التخطيط لمجزرة المعتقل بدافع الحقد الشخصي. الى ما سبق، فإن الحكومة عازمة على فتح ملفات قضية أخرى تعود الى الحقبة ذاتها هي المجزرة التي حدثت في مبنى التلفزيون البنغالي في 1975 على هامش الانقلاب ضد الشيخ مجيب. ويبقى في النهاية ان الأيام تخبئ لبنغلاديش الكثير من المتاعب، لكن الحكومة تبدو واثقة من أنها بهذه المحاكمات تعزز سلطة القضاء وتبرهن على هيبته التي ظلت طويلاً موضع تندر، وبالتالي تعزز مكانتها الجماهيرية في مواجهة خصومها. وكي تكون أكثر مصداقية أمام الجماهير فإن الشيخة حسينة وعدت أيضاً بفتح ملف اغتيال ضياء الرحمن في ميناء شيتاغونغ عام 1981 لينال المجرمون عقابهم أياً كانت توجهاتهم وارتباطاتهم. وبقي على السيدة واجد أن تتم عملها هذا فتجري تحقيقاً بالتزامن مع التحقيقات الجارية حول جرائم غامضة وقعت في عهد والدها الراحل مثل جريمة قتل الزعيم البنغالي الماوي سراج سيكدار داخل معتقله في 1975 دون أي نوع من أنواع المحاكمة