الكتاب: ظاهرة التكرار في الفنون الاسلامية المؤلف: مصطفى عبدالرحيم محمد الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1998 "التكرار" ظاهرة كونية، يقع تحت تأثيرها الانسان، أياً كان مكانه وزمانه، لأنها جزء من ايقاع هذا الكون منذ قديم الأزل وحتى تقوم الساعة. وهذا التكرار في الكون يشير الى اهداف ومعانٍ مقصودة والإ لما أوجده الله. ويرصد مصطفى عبدالرحيم محمد في كتابه "ظاهرة التكرار في الفنون الاسلامية"، أثر التكرار في الفنان نفسه المسلم، وتأثير البيئة عليه. فالصحراء بعناصرها المحدّدة المتكررة من الخيام والنخيل والكثبان الرملية، كان لها أثر في التكرار من وجهة نظر الفنان الاسلامي. فالخيام تتشابه وتتكرر في مجموعات، والنخيل والبقع العُشبية في الوديان، هي تكرارات خضراء اللون - حيث تعني إرادة الحياة - وسط هذا اللون الاصفر الذهبي الممتد على صفحة الصحراء. هذه العناصر المتكررة بلا ملل، أو كلل تستثير في المشاهد نفسه احساساً برهبة ما، تأخذ به الى حيث المطلق اللا محدود. وربما يتبادر الى الذهن، أن التكرار حليف الملل والرتابة، غير ان الفنان المسلم حينما كرّر، كثَّف وركز وفنَّن وتفنن. وبعد هذا التفنن والتمحيص أنشأ وحداته ومواصفاته ومقاساته ونظمه، فبدت أشكاله أكثر ثراء عما كانت وحدة واحدة - يتيمة - أو وحدتين، فكلما زادت تكرارات وحداته، زادت جماليته وترابطت ارتباطا وثيقاً. وعلى هذا الاساس، فإن التكرار لا يأتلف مع الملل، أو يتحالف معه، بل على العكس، ومرد ذلك، أولاً وأخيراً، هو الى عمق نظرة الفنان، المصمم، الذي فحص فتمخضت عن رؤيته قيم جمالية تشكيلية، متسعة متسقة تدوم وتُضاعف. وتكرار العنصر مرات عدة يحوله الى ملحمة، انظر مثلا الى شخص يصلي بمفرده، وقارنه بنفسه وهو عنصر، في صفوف متراصة في صلاة الجماعة، فإن له قوة أكبر، حين يصبح وحدة متكررة في كيان أكبر، وللتكرار نوع من الإيقاع الذي يمثل ترديداً لفكرة، هذا الترديد لا يتم على وتيرة واحدة، وإلا إنتهى الى شكل آلي ميت، فلا بد أن يتضمن عنصر التنوع حتى يكتسب ثراءً وانجلاء. التكرار الهندسي يقول مصطفى عبدالرحيم محمد: "لعل هذا النوع من أصعب الأساليب التكرارية، فإذا حدث خلل ولو بسيط، تحسه العين ولا تخطئه، حتى ولو كانت عينا عادية غير مدّربة، فتفسد الرؤية البصرية، حيث تظهر الأشكال غير مستقرة معوجة. ببساطة شديدة إذا حدث فارق - ولو قليل - في حساب الزاوية المتكررة، فإن هذا الفارق في مجموعه النهائي، لا يتساوى رياضياً أو حسابياً أو بصريا مع وحدة الشكل وقياساته". ورغم أن التكرار الهندسي تغلب عليه الخطوط المستقيمة الصريحة الصارمة أحيانا، فإن تطويعها على أشكال كروية أو شبه كروية، تحول رؤيتها من التسطيح الذي يعطي الإحساس بالصرامة والوضوح، إلى إحساس آخر. فبدت وكأنها معزوفة موسيقية، فتحولت هذه الخطوط الهندسية المستقيمة والتفافها، واحتضانها محيط القبة الكروي، من خط مستقيم الى خط منحنى. ليِّن رقيق هادئ. وهذا ما نراه واضحاً جليا على قباب العصر المملوكي. والأهم أن هذه التشكيلات الهندسية للزخارف الاسلامية، ليست سوى ثمرة لتفكير رياضي عقلي، قائم على الحساب الدقيق، قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية، لأفكار فلسفية، ومعانٍ روحية، اختار منها الفنان ما شاء وقتما شاء. غير أن الحرية في الاختيار بين الاشكال الهندسية المتكررة، مشروطة بالوظيفة التي يؤديها هذا الشكل أو المنتج. وهناك اتصال بين التكرار والانتشار، فإذا كانت صفة القدم تعبر عن الامتداد الطولي في الزمان، فإن الانتشار يعبر عن الامتداد العرضي للمكان، وقد وظفه الفنان في المنابر والمحاريب والمآذن، التي يلزمها هذا الاسلوب. ومن خلال انتشار الوحدات والعناصر، يحدث إيقاع هو تنظيم للفواصل الموجودة بين العناصر والوحدات، ولعل البائكات وعرائس المسجد خير مثل لذلك، حيث بدت وكأنها نغم متجدد لعنصر واحد. ويشير مصطفى عبدالرحيم الى أنه من خلال وجود مستويات في الشكل يحدث نغم، والنغمة زينة ومتعة لبناء مجتمع صحيح وهو ما أحله الإسلام. ولجأ الفنان المسلم للنظام الشبكي وغير الشبكي، أثناء التكرار لتستقر فوقه الاشكال، ليساعد على بناء العمل الفني. ورغم ان هذا النظام يحمل الصفات التكرارية، فإن عناصره تتغير من فنان لآخر ومن عنصر لآخر، مع أن النظام واحد ثابت. وهو ما يثبت أن النظام ملك لأي شخص، أما التكرار فهو وليد العمل والحساب والقياس. خلية النحل ويضيف المؤلف: إن هناك من الاشكال الطبيعية، ما تحمل نظاماً تكرارياً فطرياً في عالم الحيوان وغيره، فبيوت النحل تحمل صفة البناء السداسي، ذات السمت الواحد في كل بقاع الارض، ومنذ بدء الخليقة وقعت هذه الظاهرة وغيرها تحت عين الفنان المسلم، فصاغها وطوّعها في العديد من التشكيلات الابداعية ذات الاسلوب المتميز، الذي لا تخطؤه العين من الاشكال، لأن الاسلوب يعني الشخصية مبلورة. أما التكرار الوظيفي، فتستحيل فيه العشوائية أو المصادفة، وهو من أصعب التكرارات - بالإضافة إلى الهندسي - ومن أعقدها حسابا وتصميماً وقياساً، فإن ما ينفع للكلمة، لا ينفع للشكل المرئي المنظور، وهو يجمع ما بين وظيفتين: جمالية ونفعية، ويجب أن تتوفر فيه شروط: لماذا كان هذا الشكل؟ القيمة الاقتصادية لهذا الشكل، ارتباطه بالبيئة والتقنية. فالخرط - كما في المشربية مثلاً - نوع من هذا الاسلوب تحسب مقاساته ومواصفاته وفراغاته، لترشيد الضوء ومرور الرياح، على أن يتوفر فيه عنصر المتانة والابهار، فبدت هذه القطع كمعزوفة موسيقية عربية اسلامية أصلية. فالعناصر التكرارية دائبة الحركة والتذبذب، تشد النظر وتجذب الانتباه. ونتيجة للانتباه يحدث أثر على ذهن المشاهد وانطباع، وبالتالي يتبع ذلك الاحتفاظ بهذا الاثر، استعداداً لمرحلة الاسترجاع عند الحاجة اليه. ويصاحب الاسترجاع تعرف. وتتوقف مرحلة الاحتفاظ به على قوة العنصر ووضوحه، فكلما كان الأثر قوياً، كان الاحتفاظ به سهلاً وثابتاً فيستطيع أن يسترجعه، وهو ما يسمى "بالتسميع الذاتي". حقائق واستنتاجات ويتوصل مصطفى عبدالرحيم الى استنتاجات وحقائق عدة للتكرار منها حقائق دينية وعقائدية تشير الى أن: - التكرار نزل به القرآن في أكثر من موضع وآية. - التكرار صفة بشرية وكونية وليست إلهية، فالله منزَّه عن التكرار، لأنه واحد أحد. التكرار أحد المظاهر المنتشرة في الكون، وهي من خلق الله. أما الاستنتاجات والحقائق الفنية فهي: - التكرار أحد الحلول التصميمية الناجحة التي لجأ إليها الفنان المسلم، وتختلف وجهة نظره من تكرارات الحضارات السابقة، وهو ليس عنصراً من عناصر الإبهار في الزخرفة الاسلامية، أو أنه شكل ينتشر هنا وهناك، ولكنه موضوع تعبيري متصل بالعقيدة الاسلامية أساساً. هناك من الاساليب التكرارية ما تُرى وتُقرأ من جميع الجهات، بالمعنى والشكل نفسه. كل تكرار يحمل ويتضمن تماثلاً كلياً، وليس كل تماثل يتضمن تكراراً. ويؤكد مصطفى عبدالرحيم محمد في نهاية بحثه، أن التكرار كأحد عناصر الفن التشكيلي، له القدرة على التوصيل والإقناع والإمتاع عبر حواجز الجنس والمسافة واللغة.