إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول: انه تاريخ الألم. ألم الفرد وألم الجماعة. ألم الارتباط وألم الانشطار. ألم الذات من الآخر وألمها من ذاتها. ألم الناس وألم الارض. فالارض، مثلما تتألم المخلوقات منها، تتألم هي من المخلوقات… وعلى هذه الجروح المتبادلة تُرصف عمارة التاريخ. منذ الفجر الاول كان الألم. قامت الارض على صرخته. تكونت ونمت على هذا الصوت. كأنها من دونه لم تكن. كأن الارض تكونت من فاجعة، من خطأ. كأن ما يلد، وما ينمي، وما يفرض الاستمرار، هو الخطأ. وكأن الارض، لو كانت فرحة، لتبددت! لا عمر لغير الألم، وقد يكون هذا ما يعنيه الخلود ايضاً. خلود الخطأ. ويصحّ كذلك: خطأ الخلود. هل يحتاج تاريخ الألم الى براهين؟ التاريخ قدَّم البراهين بنفسه، والفلسفات والآداب والفنون والمسيرة كلها فعلت ذلك بجدارة. ربما يحتاج تاريخ الألم الى شيء آخر: نقضه، ربما لمحو الألم ينبغي محو التاريخ! او فعل ما يمكن: وقف هذا الركض في مسيرة سمجة، والجلوس للتفرج على الطريق، والضحك. هل كان يمكن، بجنون ما، الانقلاب على هذه المسيرة وبدء تاريخ معاكس؟ هل كان يمكن، في لحظة انحراف، تغيير الدرب؟ ألم يمرّ في الازمان وقتٌ مبارك، ساعةُ غفلةٍ عظيمة؟ ألم يكن ممكناً، في لحظة ما من التاريخ المديد، انتصار المجانين على العقلاء؟ الفوضويين على المنضبطين؟ الجالسين على الارصفة على محتلي الدروب؟ ألم يكن ممكناً ان تكون الارض ساحة احتفال؟ ان تكون الأمكنة حلبات رقص؟ أكان مستحيلاً، حقاً، القضاء على الألم؟ ولو حدث ذلك، كيف ستكون الارض؟ ألن تفرح حينذاك بوجودها وترقص؟ لكن خطأ ما يحكم الارض ومخلوقاتها. خطأ كبير، هائل، بحيث لا تمكن مقاومته. خطأ يحكم الارض ويجرّ البشرية الى اخطاء . يجرها الى التدافع والصراع، الى اقتراف خطيئة الطموح، الى الإثم والألم. فالطموح ليس سوى اضافة ألم وإثم: ألم للذات وإثم للآخر. اذ على سكينة الذات تطأ خطاه وعلى الآخر يشقّ دربه. الطموح يخضّ صفاء النفس ويعكّر ماءها. يوحل الذات، فتصير لا ماء ولا تراباً. تصير ألمَ الوحل الطامح الى ان يكون اما تراباً وإما ماء. ألم الوحد الفاقد كينونته. الطموح صفة الناقص. اما الممتلئ فيهدأ ويجلس . كل آتٍ يؤلم، وكلُّ ذاهب. ما يلتصق ألم، وما ينسلخ ألم. النقطة التي تسقط عليك تنزل من ألمها الاول، والنقطة التي تتبخر تذهب الى ألمها الثاني. على جلدة الروح بقع آلام من الناس الذين التصقوا، ومن الناس الذين انسلخوا، ومن الاشياء والافكار والرغبات والانهزامات والانتصارات. ولكن، من يحلم بأن يهزم الآخر في النهاية، الناس أم آلامهم؟ من يحلم بأنه ذاهب الى مثواه خالياً من البقع؟ ما سيصل اخيراً ليس الجسد النظيف ولا الروح الصافية. ما سيصل هو الوشم. بقعة كبيرة من الآلام والآثام، تُحمل وتوضع في حفرة. وكان جميلاً حقاً لو سمح الخطأ بصواب واحد: ان تلقي نظرة اخيرة على بقعتك السوداء، وتضحك.