كتبتُ من قبل مقالاً لجريدة "الحياة" تحت عنوان "عبادة المستقبل"، حاولتُ فيه أن أقنع القارئ بأنه في الوقت الذي يشيع فيه بيننا توجيه اللوم اللاذع لمن نتهمهم بأنهم "يعبدون الماضي"، ويتمنون الرجوع الى ماضٍ سعيد لا سبيل للرجوع إليه، يشيع بيننا أيضاً شيء قد لا يقل عن ذلك استحقاقاً للنقد وهو "عبادة المستقبل"، أي التفاؤل المفرط بما سيأتي به المستقبل، والثقة التامة بأن القرن الآتي لا بد أن يكون أفضل من السابق، وأن كل مشكلة قد نواجهها يحلّها التقدم التكنولوجي في يوم ما، وأن التاريخ الإنساني هو تاريخ تقدم مستمر، ليس فقط من الأبسط الى الأكثر تعقيداً، بل ومن الأسوأ الى الأفضل. ولكن، هناك ظاهرة وثيقة الصلة بعبادة المستقبل، أو لعلها نتيجة طبيعية لها، هي "تقديس الأطفال"، وأقصد بذلك الانشغال الى حد الهوس بالأطفال، والاهتمام المفرط بكل كبيرة وصغيرة تتعلق بهم، والقلق المبالغ فيه على مستقبلهم، والظن بأن لدينا قدرة غير محدودة على التحكم في تشكيل شخصياتهم، وتنمية مواهبهم، والمبالغة في الاعتقاد بتمتعهم بهذه المواهب أصلاً. فكل طفل من أطفالنا نعامله وكأنه "الطفل المعجزة"، وكأن كل الأطفال موهوبون، وكلهم لديهم الاستعداد نفسه لتحقيق أعمال كبيرة، وكل ما يحتاجون إليه في ظننا هو تهيئة الظروف المناسبة لهم. العلاقة واضحة بين عبادة المستقبل، وتقديس الأطفال. فالأطفال هم بمعنى من المعاني "مستقبلنا" ونحن نرى فيهم امتداداً لنا وهو في ما أظن اعتقاد خاطئ ولكنه يمنحنا راحة بالغة، إذ أنه بديل عن الخلود الذي نعرف أننا عاجزون عن تحقيقه. والتفاؤل المفرط بما سيكون عليه أولادنا هو جزء من تفاؤلنا المفرط بالمستقبل، واعتقادنا أننا نستطيع أن نشكّل أولادنا كما نشاء بتهيئة الظروف المناسبة لهم... هو جزء من اعتقادنا الخاطئ أيضاً بأن لدينا قدرة غير محدودة على السيطرة على المستقبل. كان آباؤنا وأمهاتنا أكثر حكمة، بكل تأكيد، عندما كانوا يؤمنون بأن هناك أشياء تتعلق بمستقبل أولادهم لا يستطيعون التحكم فيها، ولا يحمّلون أنفسهم مسؤولية زائدة عن الحد عن كل ما يصدر عنا، وعن كل فشل لنا، وعن كل لحظة شقاء قد تصيبنا، كانوا أكثر استعداداً للتصرف معنا بالفطرة، ويتركون أحياناً لغضبهم العنان، عندما يصدر عنا عمل يستحق العقاب، ويتركوننا لشأننا أحياناً بدلا من الشعور المستمر بمسؤولية تسليتنا ودفع الملل عن نفوسنا، فربما كان هذا دافعاً لأن نكتشف بأنفسنا ما يناسبنا وما لا يناسبنا، ويطلق خيالنا في آفاق أرحب مما يمكن أن ينطلق اليه لو كنا نعيش في سجن اهتمامهم، كما يعيش أطفالنا اليوم. * كاتب وجامعي مصري.