سببت الأزمة التي تنتقل عدواها الى دول جديدة في الأسواق الناشئة ازدياداً في الفروق بين عائدات السندات، ما اضطر عدداً كبيراً من الدول النامية الى الاستغناء عن اللجوء الى الأسواق الدولية لجمع ما يلزمها من المال. فعجز روسيا غير المنتظر عن تسديد ديونها منتصف آب اغسطس الماضي أوقف تقريباً كلياً اصدار سندات جديدة، باستثناء واحد فقط، على حد قول مؤسسة التمويل الدولية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها وتمثل عدداً كبيراً من أكبر المؤسسات المالية الخاصة في العالم. وتلفت هذه المؤسسة في آخر تقرير أصدرته عن تدفق الرساميل الخاصة في العالم، الى ان "الأسواق الناشئة لم تصدر أي سندات أبداً منذ منتصف آب وحتى أواخر أيلول سبتمبر، باستثناء ما أصدره لبنان من سندات بقيمة 350 مليون دولار بيعت تقريباً كلياً الى مستثمرين شرق أوسطيين". وحتى هذا الاصدار خُفِّض من 500 مليون دولار بسبب ارتفاع التكاليف، على حد قول عبدالستار اونس، المحلل في مؤسسة التمويل الدولية، الذي اشار الى ان دولاً أخرى ردت على تزايد الفروق بين العائدات بتبديل خططها. فالجزائر، مثلا، كانت على استعداد للجوء الى الأسواق الدولية، لكنها قررت تأجيل ذلك بعد انفجار الأزمة الروسية. كما امتنع المغرب وتونس عن اللجوء الى الأسواق الدولية بسبب ارتفاع تكاليف العملية. ويقول المحلل الدولي "ان هذه الدول توقفت طوعاً عن اصدار السندات، اذ أنها تضررت مرتين، مرة عندما تراجعت أسعار البترول، ومرة بسبب الأوضاع غير الملائمة للأسواق الناشئة. وتتوقف هذه الدول عن الاقتراض بهدوء عن طريق عدم اللجوء الى الأسواق الدولية، وتقبل تأجيل ما تود أن تفعله لفترة قصيرة على أمل ان تتمكن سنة 1999، وبعد انتهاء الهزات، من مواجهة الأسواق التي ستصبح عندئذ أكثر انتقائية بحيث تتراجع أيضاً الفروق بين العائدات". وفي تقدير "مؤسسة التمويل الدولية" ان اصدار الأسواق الناشئة الرئيسية للسندات تراجع في الأشهر التسعة الماضية الى 63 بليون دولار من 93 بليونا في الأشهر التسعة الأولى من 1997. ورافق هذا التراجع انخفاض مماثل في قروض المصارف التجارية وفي تدفق المحافظ الاستثمارية الى الأسواق ال 29 التي ترصدها "مؤسسة التمويل الدولية". ويقول التقرير أيضاً انه من المحتمل ان يتراجع تدفق الرساميل الخاصة الى الأسواق الناشئة الى نحو نصف ما كانت عليه عام 1996 عندما بلغت أعلى مستوى لها عند 307 بلايين دولار. لكن في هذا الظلام الدامس يوجد بصيص ضوء واحد وهو ان تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة تراجع قليلاً فقط الى نحو 106 بلايين دولار السنة الجارية بعدما بلغ حجمها 119 بليون دولار عام 1997. ويلفت تشارلز دللارا، مدير "مؤسسة التمويل الدولية" الاداري والمسؤول السابق في وزارة المال الأميركية، الى أن هذا الوضع جيد بالنسبة الى الشركات، لكنه ليس بالضرورة جيداً بالنسبة الى المصارف التي استفادت من تدفق الرساميل الخاصة، وتود لو أن هذا التدفق يعود الى ما كان عليه. وتقدم "مؤسسة التمويل الدولية"، التي تمثل عدداً كبيراً من المؤسسات العملاقة في العالم المالي، بينها "سيتيبنك" و"دويتشه بنك" و"ميريل لينش" وبعض المؤسسات المالية العربية، عدداً من التوصيات لتحسين الوضع المالي الدولي. وعلى رغم ان عدداً من صناديق التحوط في العالم يشارك في عضوية المؤسسة الدولية، إلا أنها تقول ان صفقة الانقاذ الأخيرة لصندوق التحوط الأميركي لونغ تيرم كابيتال مانجمانت، التي كلفت 3.4 بليون دولار، تشير الى الحاجة الى تحسين مستوى الاشراف، بحيث يكون للحكومات "دوراً محدداً" في فرض "منع موقت" من شأنه الحد من تدفق الرساميل قصيرة المدى المتقلبة. ويبدو ذلك وكأنه يدل على تبدل في وجهة نظر هذه المصارف، لكنه على الأرجح ليس تأييداً لفرض ضوابط على الرساميل حسب مفهوم رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد. وترغب المصارف التجارية، اضافة الى ذلك، في اجراء مراجعة جدية للدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في العالم. وتود لو تركز هذه المراجعة على الحاجة الى المزيد من الشفافية في عمليات الصندوق والى المزيد من الوسائل الفعالة لمنع انفجار الأزمات، تشمل اتصالات أوسع مع المؤسسات المالية الخاصة. ونظراً الى أن الأوساط المستثمرة باتت تتجنب الأسواق الناشئة كافة وتهدد بإيقاف تدفق المال اليها، يشير دللارا الى أنه من المهم ان تتخذ هذه الأسواق تدابير تطمئن المستثمرين والدائنين الى تبنيها سياسات ضريبية بأسعار الصرف سليمة، وتبنيها أنظمة مصرفية سليمة أيضاً. ويقول دللارا: "ان شهية الرساميل الى المخاطر في الأسواق الناشئة متدنية جداً الآن. ولذلك فإن مؤسسة التمويل الدولية تشدد على ضرورة التمييز بين هذه المخاطر، وأهمية تبني الدول سياسات تساعد على التمييز بين المخاطر المختلفة". من جهته يقول أونس ان "التمييز بين المخاطر مهم، اذ لا يجوز أن تعاني الأسواق العربية الناشئة صعوبات بسبب المشاكل في روسيا وآسيا وأميركا اللاتينية... فالمنطقة العربية كلها يجب أن تكون في مقدمة الداعين الى التمييز، لأن دولها تدير اقتصاداتها العامة على نحو ممتاز وتطبق التعديلات البنيوية وتسير في طريق اقتصاد السوق من دون تردد". ويبدو ان كمال درويش، نائب رئيس البنك الدولي المكلف شؤون الشرق الأوسط وشمال افريقيا يوافق على ما يقوله اونس. ففي مقابلة، أجرتها "الحياة" معه أخيراً، قال درويش: "ان المسألة في الشرق الأوسط تزعج الى حد ما". وأضاف ان عدداً كبيراً من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا خرج، عام 1995، من عقد من الزمن لم يشهد فيه أي نمو اقتصادي بعدما أجرت هذه الدول اصلاحات وحسنت موازينها الاقتصادية العامة لتواجه صدمة تراجع أسعار البترول الذي يؤثر سلباً حتى على السياحة والاستثمارات العربية في المنطقة. لكنه أضاف ان المنطقة تستطيع تعويض ذلك كله عن طريق التشديد على ما فيها من جاذب بالنسبة الى الاستثمارات الأجنبية. وقال ان "بوسع الشرق الأوسط ان يقول انه كان أكثر استقراراً ولم يهزه الاضطراب المالي". وأشار الى انه "من المهم ان تحاول دول المنطقة اجتذاب الاستثمارات طويلة الأمد التي تأخذ شكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لما لهذه الاستثمارات من ميزات مثل نقل التكنولوجيا والاتصال بشبكات توزيع جديدة واتاحة فرص تسويقية". ويقول محللون ان الدول العربية تحتاج الى التمييز لأسباب أخرى. فثمة فروقات ذات أهمية بين الاقتصادات العربية، وتؤثر الأزمة التي يشهدها العالم حالياً على نحو مختلف على كل منها. فالدول المنتجة للبترول تتضرر أكثر من غيرها من الدول العربية بسبب تراجع أسعار البترول، فيما تواجه دول شمال افريقيا وضعاً أفضل السنة الجارية بعدما كانت كارثة الجفاف العام الماضي. وبين هاتين المجموعتين من الدول تقف دول كمصر التي تعتمد جزئياً فقط على البترول، والمغرب الذي يستفيد من تدني أسعارالبترول الذي يستورده. وفي الوقت الذي كان تدفق الرساميل الخاصة الى الأسواق الناشئة يرتفع باستمرار في النصف الأول من التسعينات، سعت مؤسسات مثل صندوق النقد ومؤسسة التمويل الى رصد تدفق هذه الرساميل. لكن لا يزال من الصعب معرفة كيفية تأثير الأزمة المالية الدولية الراهنة على تدفق الرساميل الى الأسواق الناشئة في العالم العربي. ويعود ذلك لأسباب منها ان هذا التدفق كان متدنياً. ويقول عدد كبير من المستثمرين ان هذا التدني كان عاملاً ساهم في حماية الدول العربية من التقلب الذي يرافق عادة التعرض للرساميل قصيرة الأمد، والذي كان المشكلة الأساسية في آسيا. لكن من الأسباب الأخرى عدم تنبه المؤسسات الدولية لهذا التدفق ورصده على رغم أن من مهماتها التنبه لذلك. وبالنسبة الى صندوق النقد، فإن المنطقة العربية تدمج بمناطق أخرى في العالم الشرق الأوسط منها تركيا وايران، فيما يعتبر شمال افريقيا جزءاً من افريقيا الاستوائية. اما البنك الدولي فإنه يتعامل منذ فترة مع شمال افريقيا والشرق الأوسط كوحدة منفصلة عن سائر الوحدات في العالم. لكن مؤسسة التمويل، التابعة للبنك الدولي، تعتبر الشرق الأوسط وشمال افريقيا وآسيا الوسطى منطقة واحدة، وتستخدم تعبير "افريقيا الشرق الأوسط"، لتشير الى خمس دول هي الجزائر ومصر والمغرب وتونس وجنوب افريقيا. وهي عندما تحرر تقريراً تقول فيه ان صافي الرساميل الخاصة المتدفقة الى افريقيا والشرق الأوسط بلغ 17 بليون دولار تقريباً العام الماضي وينتظر ان يتراجع الى 8.7 بليون دولار السنة الجارية، فإن سبب التغيير يعود على الارجح الى سوق جنوب افريقيا الكبيرة. لكن اونس يشير الى أن هذا كله بدأ يتبدل ويقول: "ان حيوية المنطقة تجبر مؤسسة التمويل الدولية حالياً على تعزيز تغطيتها لمزيد من دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا". ولذلك باتت تقارير المؤسسة تغطي السعودية والامارات والكويت لحساب زبائنها من المصارف، وبدأت لتوها تغطية شؤون لبنان والأردن بسبب تزايد النشاط في هذه الأسواق.