كشفت الأزمة التي وقعت بين تركيا وسورية، وكادت تتحول الى حرب، عن عمق الشك الذي يسود العلاقة بين الدولتين الجارتين. وقد بدا، للوهلة الأولى، كما لو ان كل طرف يتربص بالطرف الآخر ويحاول الإيقاع به عند أي منعطف على الطريق. ولم تكن قضية الحزب الكردي واحتمال وجود زعيمه في سورية سوى القشة التي أوشكت ان تقصم الظهر، فالريبة وسوء الظن عنوان دائم مقيم على جانبي الحدود الممتدة بين البلدين. وإذا كانت هناك أشياء كثيرة تسمم الجو وتعكر المياه فإن الهمّ الكردي هو واحد من تلك الاشياء بالتأكيد. وقد أظهرت الأزمة، للمرة الألف، مقدار نفور الحكومات التركية من كل ما له صلة بالأكراد، نفور يصل حدود عقدة نفسية مستحكمة لا يعرف أحد، بعد، كيف ومتى يمكن ان تنحل. تتقاسم الدولتان أشياء عدة: الحدود، المياه، الأجواء. لكنهما تتقاسمان أيضاً، وفوق كل شيء، الاكراد. فهنا وهناك، على جانبي الحدود، يقوم الأكراد جنباً الى جنب الألغام التي زرعت كي تعيق تلاقيهم والأضواء الكاشفة التي ترصد حركاتهم. والدولتان تختلفان، وتتنازعان، بالضبط في تلك الاشياء المقسومة بينهما بالقسطاس. تختلفان في النظرة الى الحدود والمياه والأجواء والأكراد. وبالنسبة للأكراد يكاد الاختلاف ان يكون جذرياً. ولا يحتاج المرء الى شيء كي يعرف الطريقة التي تعامل بها تركيا الأكراد. يكفي القول انه منذ انشاء الدولة التركية الحديثة في 1923 وحتى الآن قام الأكراد بتسعة وعشرين تمرداً سحقتها تركيا جميعاً بالحديد والنار. ومنذ عام 1984، تاريخ اندلاع التمرد الأخير على يد الحزب العمالي الكردستاني، وحتى الآن، مات، قتلاً، أكثر من ثلاثين ألف شخص واضطر حوالى أربعة ملايين من السكان الى النزوح عن أماكن سكنهم وأُفرغت أربعة آلاف قرية من سكانها، ودمرت بلدتان بالكامل ليجه وشيرناخ وزج في السجون بالآلاف من الأكراد، من الجنسين، ومن جميع الاعمار، واعتقل الصحافيون والناشطون في ميادين حقوق الانسان والداعون الى رفع الضيم عن الأكراد... الخ. والحال ان الأزمة مع سورية وتهديدها ومحاولة الاعتداء عليها هي جزء من الطريقة التركية في ملاحقة الاكراد، بما يكفل لها التخلص من مجرد وجودهم اينما كانوا. وتتقاسم سورية الأكراد مع تركيا، فحين رُسمت الحدود بين البلدين انشطر الأكراد شطرين، أولهما في تركيا بعديد يبلغ خمسة عشر مليوناً، وثانيهما في سورية ما يقارب المليوني شخص. مقابل الركض التركي المحموم وراء الأكراد لخنق أنفاسهم ووأد أحلامهم يقوم الهدوء السوري والتسامح الذي لا يدنو من المشتهى، لكنه يظهر محموداً في مرآة الضيم المعلقة على الجانب الآخر من الحدود. فما ان خُطّت حدود الدولة الجديدة، السورية، أثناء الانتداب الفرنسي حتى تكاتف العرب والأكراد فيها وانغمسوا في دأب واحد هو الارتقاء بالبلد ورفع قامته، في أغلب الميادين، والنهضة به الى مستويات عالية. وكان للأكراد دور محفوظ ومكانة عزيزة في كل ذلك. ولم يُغلق في وجههم باب أو يسدّ دونهم منفذ. وهم انخرطوا في ميادين السياسة والفكر والاقتصاد والعمران. وكان منهم رئيس دولة حسني الزعيم ورئيس وزراء محسن البرازي، ووزراء ونواب وضباط. كما كان سهم الأكراد في مقاومة الفرنسيين في الفترة الأخيرة من الانتداب كبيراً. فقاد ابراهيم هنانو من الشمال ثورة التحقت بالثورات الأخرى وانتفض الأكراد في الجزيرة انتفاضات كثيرة تحت زعامات محلية من آل الدقوري وحاجو وعبدالكريم آغا المللي، وقتل الأكراد ضابطاً فرنسياً في موقعة بياندور قرب عامودا. وأسس محمد كرد علي المجمع اللغوي العربي وساهم رمضان البوطي وأحمد كفتارو في المستوى الديني بإضفاء أجواء الاعتدال والمرونة. وكان خالد بكداش يؤسس الأركان لإدخال الفكر الشيوعي. أما آل بوظو فقد وضعوا لبنات الحياة الرياضية... الخ. وكانت سورية، على الدوام، ملاذاً للاكراد الهاربين من الاضطهاد والقمع في أجزاء كردستان المبعثرة ايرانوالعراقوتركيا. فقد لجأ اليها الناشطون الهاربون من قمع الشاه الايراني، وكان لأكراد العراق على الدوام حضور أكيد في سورية، فكأنها الساحة الخلفية لمسعاهم الى الظفر بحقوقهم من حكومات العراق المتعاقبة. وكان الزعماء الأكراد من تركيا يقفزون على الحدود ويحطون الرحال في المدن السورية القريبة بعد فشل كل تمرد من تمرداتهم. وقد أقام فيها جلادت بدرخان وأخوه كامران وأصدرا صحيفتهما "هاوار" من دمشق في الثلاثينات والأربعينات، كذلك فعل الكاتب والسياسي نورالدين ظاظا. واتسمت المقاربة السورية للموضوع الكردي بالعقلانية والانفتاح، فلم يتم اللجوء الى الطهر والغلبة لإسكات مطالبهم وجرى التعفف عن الأساليب الظالمة وشديدة الوطأة التي اتبعتها الحكومات الثلاث الأخرى بحق الأكراد العراق، تركيا، ايران. وكانت العلاقة بين الحكومة السورية وأكرادها تنمو وتتطور بشكل ايجابي وفعال، فكان في الوسع ان يرى المرء ان المستقبل سوف يشهد تعايشاً جميلاً ومزهراً بين قطبي الشعب السوري، العرب والأكراد، على قاعدة المساواة والاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات. لكن انتشار موجات التطرف وسموم التعصب واشتداد ساعد المدّ القومي العروبي واستفحال النزاع في المنطقة والميل نحو المركزة القصوى وتهميش القوميات غير الحاكمة والأقليات الطرفية، كل هذا أسبغ على الجو غلالة سوداء غيمت الانطار. وتأثرت بعض الحكومات السورية بالخطاب القوموي العروبي، لا سيما بعد ظهور الناصرية والتيارات العروبية المتطرفة والحاملة صلف الاستعلاء العنصري. وفي هذا الجو أعيد النظر في العلاقة مع الأكراد فجرى تهميشهم ونبذهم، ومن ثم اخراجهم من الحياة العامة والخاصة. وعمدت حكومة الانفصال، التي تلت انفراط عقد الوحدة بين سورية ومصر، الى طرد الضباط الأكراد من الجيش وحل جمعياتهم واغلاق نواديهم وصحفهم ومطاردة ناشطيهم. وتم الترويج لمقولة ترى في الأكراد خطراً على العرب وعنصر تخلخل للنسيج القومي، ورات المحاولات تقوى في سبيل اخراج الأكراد من الذاكرة والتاريخ ايضاً. فحُذف وجودهم واستبدلت اسماء مدنهم وقراهم بأسماء عربية. وصارت الجمهورية السورية تسمى الجمهورية العربية السورية تشديداً على نقائها من أي قومية أخرى. وطبقت مشاريع عنصرية، على غرار ما ساد في تركياوالعراق، فأقيم الحزام العربي حول المناطق الكردية، الذي يشبه الاستيطان، فيجري بناء مستوطنات عربية في الأماكن الكردية، وتم تجريد مئة ألف كردي من الجنسية السورية، ومُنع الأكراد من اطلاق الأسماء الكردية على ابنائهم. وكان يمكن لهذا الطوفان العنصري ان يستمر لولا مجئ حكم الرئيس حافظ الأسد الذي يرى ان من العبث محاولة شطب شعب قائم ولا يريد الانقراض. ويمكن القول ان العلاقة بين المركز والأكراد بدأت تستعيد بعض وليس كل عقلانيتها ومرونتها بدءاً من ذلك التاريخ. بالطبع لم ترجع الأمور الى سابق عهدها وما تزال تلك المشاريع وآثارها قائمة. كما ان الحضور الكردي في الساحة السياسية معدوم ولا يحظى الأكراد باعتراف رسمي بوجودهم. غير ان الأكراد في سورية يتمتعون بقدر كبير من الأمان ولا يعاملون بالسوء والشدة على غرار أقرانهم في الدول الأخرى. ويأمل هؤلاء في ان سورية ستبادر بالالتفات الى الشأن الكردي بجدية وايجابية حين تلتقط انفاسها. وسيتم إشراك الاكراد في النسيج السياسي والاجتماعي والفكري في البلاد. وسيتم البحث مع ممثلي الاكراد عن أنجع الحلول التي تكفل الحضور الكردي وتفعيله من خلال ادارات للمناطق الكردية الثلاث الجزيرة، كوباني، عفرين وينال الأكراد حقوقهم الثقافية، وإزالة المشاريع الاستثنائية الجارية بحقهم... الخ. يمكن القول ان أكراد سورية يمثلون الوجه الايجابي للمسألة الكردية. وهم في علاقتهم مع حكومتهم المركزية يؤلفون علاقة حضارية على ما يمثله التعايش السليم بين القوميات ومقدار النفع الذي يعود به على الجميع. وربما كان الهدوء الكردي - السوري المفتاح الذي استعملته سورية مع الاكراد في باقي كردستان. لربما هذا هو ما يزعج تركيا. فابتسامة أي كردي في أي مكان تجعل الشرر يتطاير من عيني الحكومة التركية. ولكن هذا لن يستمر طويلاً. لا بد ان يتأكد الجميع عرباً وأتراكاً وكرداً ان الابتسامة أجمل دوماً من الحنق والغضب والحزن، وأنه يمكن ان يكون الأكراد عامل تفاهم والتقاء بدلاً من عنصر صراع ونزاع. * كاتب كردي عراقي - مقيم في اوسلو