هل الحداثة محصورة بالغرب زمنياً ومكانياً. أم أنها واقعة حضارية تتخطى المكان والزمان؟ في كتاب "أباء الحداثة العربية" لمحيي الدين اللاذقاني عودة الى مناقشة اشكالية الحداثة من منظور عربي يتخطى ما علق بهذه الاشكالية من مفاهيم عربية وأجنبية تعيّن بروزها في الغرب وامتدادها في كل أصقاع العالم تالياً. لقد وقع حزب الحداثة العربيّة بشقيه الفرانكفوني والأنغلوسكسوني في تفاسير تؤرخ للحداثة وكأنها غربية المنشأ، والحضور، فقيل عن أبي نوّاس أنه بودلير العرب وعن أبي تمام أنه مالارميه العرب، وأُطلق على هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء العرب أسماء مشابهة لشعراء انكليز أو فرنسيين. وكأن الفضاء الثقافي العربي القديم لا يمتلك كتابه وشعراءه وفلاسفته الذين لهم الفضل في كتابة النص النضر الذي يحمل رغم إيغاله في القدم معظم مقوّمات الحداثة. هذا المنطق في التفكير الذي نستعيره من مؤلّف كتاب "آباء الحداثة العربيّة" يتجلّى أكثر ما يتجلى في قوله "لقد حقق الآباء الحقيقيون للحداثة العربية الجاحظ، الحلاّج، التوحيدي تجديداً ملحوظاً يتطلّبه كل نظام معرفي، فكانت نصوصهم النضرة فتحاً جمالياً وعقلياً استجابت له الروح العربية في مختلف عصورها". هذا الفتح الجمالي والعقلي الذي أوجده الجاحظ والحلاج والتوحيدي والذي يكمن فيه سرّ الحداثة تكمن مقوماته على ما يقول صاحب الكتاب في نصّ "متجذّر في التجربة الإنسانية، وحامل لموقف كوني من الوجود والإنسان، ومراهن على الجمال والحرية". كما يكمن في "كتابة نص نضر يحمل رغم ايغاله في القدم معظم مقومات الحداثة". السؤال الآن هو كيف تتجلّى مقومات الحداثة الفتح الجمالي والعقلي، في كتابة النص النضر عند الجاحظ، والحلاج، والتوحيدي؟ تتجلى مقومات الحداثة عند الجاحظ في صدور عمرو بن بحر في كتاباته عن عقليّة جدلية، تقيم علاقة راقية مع القارىء، وتعامله كصديق يجب إسعاده، لا كعدو يتحتم ذبحه بالتفاصيل المملّة، والتشجنات الفكرية، لذا يُكثر الجاحظ من الاعتذار عن الإطالة والإملال، ويختار من الجمل أقصرها، ومن الأفكار أطرفها، ولا يتحرّج من الانتقال في النص الواحد ما بين وزراء الخليفة وبغال البريد، وقبل هذه الصفة على ما يردّد اللاذقاني هناك احترامه للرأي الآخر، فهو القائل "وإذا تقلّدت الأخبار عن خصمك، فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ في التعليم"، ولا بدّ أن يكون حداثيّاً حتى النخاع ذلك الذي يضع الإيمان بالرأي الآخر في طليعة أغراض التربية. وتبرز مقومات الحداثة عند الجاحظ في مواقفه من بعض مسائل وقضايا الحريات الفكرية والعقلية التي سطعت في القرن الثاني الهجري، وبخاصة مواقفه من النظام وتمامة بن أشرس، ومحمد بن عبد الملك الزيّات. فثمامة بن أشرس صديق الجاحظ رشحه لمنصب رئيس ديوان الكتاب، فقبل على مضض لكنه ما لبث أن ترك الوظيفة بعد ثلاثة أيام هرباً من بيروقراطية الدولة والمنتفعين من وجودهم فيها. وقد سهّل عليه هذا الموقف أن ينتقد الكتّاب الذين يضعون المنصب والوظيفة قبل الفكر والكتابة، وأن ينتقد من وجهة نظر معارضة السلطة السياسية التي تتشابه منذ بدء التاريخ يكتب الجاحظ، "فإن السلطان لا يخلو من متأوّل ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول، عن الحكم زار، ومن متعطل متصفّح، ومن معجب برأيه ذي خطل في بيانه مولع بتهجين الصواب والاعتراض على التدبير، حتى كأنه رائد لجميع الأمّة ووكيل لسكان المملكة". وتظهر مقومات الحداثة عند الجاحظ أيضاً، في تأريخه لفلسفة اللذّة، والذي يبرز في رسالته عن القيان، وعن الأدوار التي بدأ يمارسها هؤلاء بمدن الحجاز والشام أيام الأمويين، ثم انتقلت الى الكوفة، لتستقر في بغداد، وتصير من معالمها الشهيرة كمتنزهات شواطىء دجلة، وقصور الخلافة، ثم عادت وظهرت من جديد في الملاهي الليلية في القاهرة، وبيروت والدار البيضاء. والمقين كما يصوّره الجاحظ يمتاز بالتسامح، ورحابة الصدر، وعليه فلا بد أن "يتناوم قبل العشاء، ويعرض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإثارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزيارة، ولا يعاتبها على المبيت، ولا يفضّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبر ليلها، ولا يعبأ بأن تقفل الأبواب وتشدّد الحجاب". وكما يؤرخ الجاحظ لفلسفة اللذة في رسالته عن القيان يؤرّخ لفلسفة الاجتماع، في كتابه عن "البخلاء" الذي هو بمعنى من المعاني قراءة للمجتمع من خلال عاداته، وثقافته، وأهواء أهله وميولهم. وبذلك سبق بخلاء الفرنسي موليير والإنكليزي ديكنز. وكما كان الجاحظ بثقافته العميقة وأسلوبه البديع، وروحه الشفّافة الطريفة أحد أباء الحداثة العربيّة، هكذا كان الحلاج الأب الثاني لهذه الحداثة على ما يرى اللاذقاني. فهو ليس أحد الروائد الأوائل للقصيدة الحرّة، ولا صاحب الفتوحات السرياليّة الأولى فحسب، لكنه فوق هذه الريادة الفنيّة التي وسعت من أُفق الخيال العربي منذ القرن الرابع الهجري يدحض بقناعاته، وأفعاله ونهايته الدمويّة الفاجعة مزاعم كلّ من يجرؤ على القول بفصل الفنّ عن السياسة، والأدب عن المجتمع. تعود حداثة الحلاج كما يرى مؤلّف الكتاب الى مواقفه السياسية وكتاباته الفنيّة. سياسياً، كان الحلاج الذي أهملت الدراسات القديمة والحديثة مواقفه السياسية لحساب أقواله التصوفية، ذلك الفتى المقدام المليء بالعفّة والمروءة والصدق، والفتوة، والذي ينغمس في مشاكل المجتمع، ويضحي في سبيل الاخرين. ويروم انقلاب الدول على حدّ تعبير ابن النديم، الذي لم يحبّه لكنه لم يستطع أن يغفل جانبه الثوري، وحنكته السياسيّة في التعريف الذي قدمه عنه في "الفهرست". "كان جاهلاً، مقداماً مدهوراً، جسوراً على السلاطين، مرتكباً لعظائم الأمور، يروم انقلاب الدول، يظهر مذاهب الشيعة للملوك، والصوفية للعامة". يعتبر اللاذقاني، أن التصوّف الذي ينتمي اليه الحلاّج، كان أحد أقوى أشكال المعارضة ضد الأنظمة الإقطاعية وشبه الإقطاعية في القرون الوسطى، وكان لا بدّ للدولة كي تحافظ على سيطرتها من أن تقمع أشكال التصوّف الحقيقية التي مثلها الحلاج والشبلي وأصحابهما لتشجع بدلاً منها التصوّف الشكلي الذي لا يتدخل في السياسة، ولا يروم انقلاب الدول كتصوف الجُنيد. يكتب اللاذقاني في هذا السياق: "لقد رفض الحلاّج أسلوب الاستكانة، ورمى الخرقة التي كان يمنحها الشيوخ للمريدين، وأحرج الجنيد في مسائل كثيرة، ثم رفض أن يكون من تابعيه جُملة وتفصيلاً، وقال عبارته الفاصلة في ذلك الصراع الطويل "منزلة الرجال تُعطي ولا تتعاطى"... ومع معرفته بخطورة تلك الخصومة اضطر لإعلانها ليقطع الطريق على انتشار أسلوب التصوّف المستكين ويحافظ على الجذور التمرديّة للتصوّف الإسلامي". إن موقف الحلاج المتمرد سياسياً وهنا أحد وجوه حداثته، وضعه في صفوف القرامطة، وجعله رائد الحركة التي خلعت الخليفة المقتدر ونصّبت ابن المعتز مكانه، وحمله الى السجن ثم الإعدام. أما كتابات الحلاّج الفنيّة التي تجعل منه أحد مؤسسي الحداثة العربية المعاصرة فمردّها الى خلق الحلاج شكلاً تعبيرياً جديداً يتسع لتجربة فذّة وغنية أين منها تجارب الشعراء السورياليين. المشكلة مع كتاب "الطواسين" للحلاج على ما يعبّر اللاذقاني أن موقف الدارسين منه مُلتبس، فمنهم من يعتقد أنه مضطرب ومصنوع، ومنهم من يعتقد أن التعبير فيه وصل الى أقصى درجات الكمال. والواقع كما يوضح مؤلف الكتاب أن "الطواسين" في إطار عصره وشرطه التاريخي يعتبر أحد الأشكال الجديدة في التعبير عن الزخم الروحي، ومأثرته أنه فتح في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية درب التصرف في التعبير بكافة أشكاله دون وجل أو خوف. يمثّل أبو حيان التوحيدي الأب الثالث للحداثة العربية من خلال تصويره لعلاقة المثقف بالسلطة. فهو لم يمش كغيره بركاب أهل السلطة، وإنما اختط لنفسه حيّزاً من الاستقلالية المحمودة أشار اليها بقوله "مزة نكهة، ولكنها فقيرة الى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلاّ أنها كلفة محرجة ان لم تكن لها أداة تجدها، وفاشية تمدّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن، ولا يستطاع إلا بدين متين، ورغبة في الآخرة شديدة، وفطام عن دار الدنيا صعب ولسان بالحلو والحامض يلغُ". وموقف الكتاب من سلاطين زمانهم كتب عنه التوحيدي، كلاماً كثيراً بيّن فيه أن أسئلة النزاهة، والمصداقية وكرامة المهنة لم تكن واردة عند الكتاب، وإنما كان جلّ همّهم الترامي على الأعتاب، والامتهان في المزاحمة على أبواب الخلفاء والأمراء. ولا يخفي أبو حيان على ما يوضح اللاذقاني قناعته بأن استبداد السلطة والمبالغة فيه، ينبع أحياناً من خنوع الناس، وخصوصاً طبقة الكتّاب، فقد كان يكفي ابن العميد أن يرفع الطرف لترتعد المفاصل، وتصفرّ الوجوه، وقد تعوّد الصاحب بن عباد على أن يكون مطاعاً، مسموع الكلمة دون مناقشة، لأن كلّ من كان حوله لم يجرؤ على أن يردّ له أمراً أو يناقشه في مسألة: لا والذي غلط في نفسه، وحمله على الإعجاب بفضله، والاستبداد برأيه أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوية، ولا قيل له: أخطأت أو قصرت، أو لحنت، أو غلطت، أو أخللت، لأنه نشأ على ان يقال: أصاب سيّدنا، وصدق مولانا، ولله درّه، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله ولا سمعنا من يقاربه". وتبدو حداثة أبي حيّان بأبرز معانيها في أحداث الليلة الأولى من "الإمتاع والمؤانسة" التي يمكن اعتبار بعض فقراتها كما يقول اللاذقاني بياناً تأسيسياً لحداثة ذلك الزمان الفنية: "ورجعنا الى الحديث، فإنه يشهّي سيما إذا كان في خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمة ناعمة، وحروف متقاومة، ولفظ عذب، ومأخذ سهل". كما تبدو حداثته في عدم استسلامه لمكابرة الصاحب بن عباد وابن العميد العلمية في تأليفه لكتاب "مثالب الوزيرين". فقد كان يناطحهما أدبياً ويعتبر نفسه أفضل منهما. لكن السلطة والثروة كانتا بحوزتهما، لذا حقّراه وطرداه، وقبلهما طرده المهلبي، ذلك أن السلطة الاستبدادية لا تجالس إلا منافقيها. يكتب مؤلّف الكتاب في هذا السياق: "ان أبا حيّان لم ينتقم من وزيرين فقط، ولا كانت سهامه موجّهة الى ثلاثة وزراء فحسب، إنما انتقم للمثقف من السلطة في المطلق، وتجاوز في نقده الوزراء الى السلاطين والملوك وعائلاتهم. واليه تنسب عبارة أعوذ بالله من سلطان جائر". من سوء حظ الحداثة العربية المعاصرة بجيليها التأسيسي والتأصيلي معاً أنها دخلت في متاهات الحداثة الزمنية، وأهملت حداثة النص الذي يتجاوز بإمكاناته المضيئة والمشعة شروط الزمان والمكان، ويتجاوز بتجربته الإنسانية الآفاق الماضية ليحضر اليوم كنموذج على قيم العدل والحريّة والجمال. من هذا المنطلق يبدو كتاب اللاذقاني عن "آباء الحداثة - مدخل الى عوالم الجاحظ والحلاج والتوحيدي" خُطوة على طريق تحرير الحداثة من مفاهيمها المغلوطة.