هذه الحياة التي نعيش هل هي الحياة الأفضل، وهل عالمنا الآن هو العالم الأمثل، وهل حقق إنساننا المعاصر أحلام الإنسان، منذ بدايات وجود الإنسان على الأرض، منذ بضعة ملايين من السنين؟ أترانا أسعد حالاً من الإنسان القديم الذي كانت تنتهي حياته غالباً في بطون الضواري أو في بطون أنواع أخرى من البشر، وقلّ أن يتجاوز عمره الثلاثين عاماً ولا يعرف له أباً أو بيتاً ولا يسكن الى زوج! وماذا يختار الإنسان لو خُيِّر بين الماضي والمستقبل؟ في أكثر النفوس الإنسانية شعور محيِّر يقوم على نزوع الى الماضي وتوق الى المستقبل. فالماضي يُصفَّى بل ينحل أحياناً حتى يكاد لا يبقى فيه إلا الحَسَن، والمستقبل الذي يُرجى الخير منه يُخيّب ظننا فلا يأتينا إلا بمزيد من الانفجار الديموغرافي والتلوث والأمراض والحروب. ان المسائل التي أثرنا هي من طبيعة فلسفية أكثر منها تاريخية أثرية، إنها أطروحات يصعب الاتفاق بشأنها، فكلٌ يراها من منظوره الخاص. وبشكل مبدئي وعام، يطنب الشيوخ في امتداح القديم والمبالغة في تأكيد أفضليته. أما الناشئون فيظنون أن المستقبل قمين بأن يحقق لهم السعادة. ونحن الأثريين، بخلاف ما يرى الكثيرون، لا نتعصب للماضي وللقديم، بل نحن معنيون بالقديم بحكم المهنة. وتخلصاً من اشكالية القديم والحديث نود أن نقول ان القديم كان في زمانه جديداً. ومن مهام الأثريين الأساسية دراسة الجديد في الزمن القديم. وبالمقابل فإن هناك فرعاً جديداً في علم الآثار يعرف بإسم "الآثار في الزمن الحديث"، ولا نقصد بذلك دراسة الفكر المتصلّب المتجمّد عند البعض، بل دراسة أدوات ومآكل وعادات متوارثة تعيش بيننا وتنسجم في ذواتنا ومحيطنا، ولا نجد فيها شيئاً من الشذوذ والغرابة. وفي جميع الأحوال، ومهما كان موقفنا من القديم، لا بد من أن نرى فيه شيئاً منَّا، ومن بعض موروثنا ومن ذاكرتنا الجماعية. وإذ تحدثنا بمصطلح العلم الحديث نقول ان القديم هو في "حموضنا الريبية" دنا، هو في صبغياتنا كروموزوماتنا. ونحن إذ نستعيد الماضي بمعاولنا في الحقول وبتحاليلنا في المخابر، وبفسيفساء دقيق من الاكتشافات والعمليات الشاقة في الجو والأرض وما تحتها وفي الأنهار والبحار، يؤول بنا الأمر الى قصة أو الى ما يشبه القصة. وهذه القصة التي لا نعرف نهايتها أين كانت بداياتها ومتى؟ "لوسي" أقدم جَدة للبشر في ميدان بدايات الإنسان، أو النوع الإنساني على الأصح، بدأت القصة المثيرة منذ بضعة ملايين من السنين وفي إفريقيا الشرقية والجنوبية، اللتين كانتا، في كل النظريات تقريباً، الموطن الأصلي والأقدم لكل أجناس البشر الذين دبَّوا ويدبّون على الأرض، سواء منهم البيض أو السود أو الصفر والحمر. لن نغوص في بحثٍ "باليونتولوجي" عن أشباه الإنسان والإنسان المستحاثي مما وجد في الشرق والجنوب من قارة افريقيا، ولا في تفصيل شكل جماجمهم وفكوكهم وأطرافهم وانتصاب قاماتهم أو عدم انتصابها. ولكن يبدو لنا بهذه المناسبة أن من الضروري أن نعرِّج لنزور "لوسي" وما أدراك ما "لوسي"! انه اسم أطلقه أعضاء البعثة الدولية الفرنسية - الأميركية في شرقي أفريقيا، متأثرين بأغنية شهيرة "للبيتلز"، إثر اكتشاف هيكل عظمي لأنثى عاشت منذ ثلاثة ملايين أو ثلاثة ملايين عاماً ونصف1. وجدت البعثة اثنتين وخمسين قطعة من عظامها، أمكن تجميعها فشكلت أربعين بالمائة من أكمل هيكل عظمي إنساني أو شبه إنساني مستحاثي تم الحصول عليه حتى الآن. وُجدت "لوسي" في موقع "حضر" في إقليم عفَار بجمهورية جيبوتي العربية. ويستدل من خصائص هيكلها العظمي أن قامتها كانت بحدود متر وعشرة سنتمترات، ووزنها نحو ثلاثين كيلو غراماً، وتسير منتصبة على قدميها. وقد تستعمل ما يقع لها من خشب أو حجر. ولكنها لم تكن تعرف صنع الأدوات الحجرية، إذ أن معرفة ذلك كانت بعد زمنها بحوالي مليون أو نصف مليون عام. لا شك في أن "لوسي" لها مزايا بشرية، لكن دماغها صغير قد لا يزيد عن خمسمائة سم مربع. والعلماء منقسمون حول نسبتها للنوع الإنساني أو شبه الإنساني. والجدل قد يطول. فإذا صح أنها من النوع الأول تكون أقدم جدة للبشر وجدت آثارها حتى الآن. ولا يظن أحد أن "لوسي" سوداء حبشية، إذ أن افريقيا لم تكن آنذاك قارة سوداء بل قارة بيضاء أو شقراء. ففي أيام "لوسي"، كانت نهايات الدور الثالث ومطالع الدور الرابع الجيولوجي، وأوروبا غارقة في الجليد لا دار فيها ولا ديَّار. أما افريقيا فكانت تتمتع آنئذ بمناخات معتدلة ملائمة لحياة الإنسان، فغدت، فيما نعلم، أقدم موطن للإنسان. وهي المكان الذي وجدت فيه أكثرُ آثاره من العصور المغرقة في القدم. جَدّة البشرية الحالية وما دمنا في افريقيا وفي حديث الجدات المستحاثيات، سنعرض لجدة افريقيا أخرى أقرب منا عصراً. فهذه الجدة المجهولة عاشت منذ قرابة مائتي ألف عام أي في البليوستويين الأوسط من الدور الجيولوجي الرابع وفي زمن مؤاتٍ مناخياً. إننا مدينون في معرفة هذه الجدّة لعلم البيولوجيا الجزيئية واستخدامه في علم الإنسان الأنتروبولوجيا وفي علم الآثار. ويقوم علماء البيولوجيا الجزيئية بتطوير دراسة حديثة في الميدان الأثري تهتم بالمورثات البشرية الأثرية عن طريق تحليل "الحمض الريبي النووي منقوص الأوكسجين" المأخوذ من الهياكل العظيمة التي تكشف عنها أعمال التنقيب الأثري. ورمز هذا الحمض هو "دنا". وهذه الدراسة طبقتها لأول مرة في سورية ولثاني مرة في العالم بعثة جامعة كوبنهاغن العاملة في تل مشنقة على ضفاف الخابور في سورية. ان مثل هذه الدراسات "البيولوجية الجزيئية" الحديثة تركز على ما يسمى "دنا" الجسيمات الكوندرية وتسمى مت دنا التي تُورّث عن طريق الأم فقط، وليس للأب تأثير فيها. وقد أُخذت عيّنات من مشيمات العديد من النساء في أماكن متفرقة من العالم وعزل منها "دنا الجسيمات الكوندرية" وأُنشِىء نوع من شجرة نسب للنوع البشري. فكانت المفاجأة الكبرى أن السلف المشترك لجميع الشعوب الحالية كانت جَدَّة عاشت منذ نحو مائتي ألف عام، وفي أفريقيا على الراجح. وقامت على الأثر ضجة إذ اعتبر البعض أن تلك كانت أمنا حواء. لكن هذا الكشف لا يعني ان امرأة واحدة كانت موجودة آنذاك في أفريقيا. فتلك النظرية ترى أن مجموعة صغيرة من الناس انطلقت من هناك لتعمّر العالم من جديد بعد وقوع حدث ما على الأرض. الأم الرمز من حديث هذه المرأة الجدة والأمهات الأوليات نصل الى حديث الأم الرمز التي كانت المعبود الأول والأقدم في كل المجتمعات البدائية، وبخاصة في الحضارات الشرقية. وقد ظهرت هذه العبادة في بلادنا، استناداً الى آثارها، منذ أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الآن2 وقبل بداية الزراعة، في مواقع عدة أشهرها تل المريبط على الفرات الذي غيَّبته بحيرة الأسد، وفي تل الرماد قرب قطنا، وتل أسود في غوطة دمشق، وفي مواقع وعصور أحدث منها وبخاصة في موقع كشكشوك الجاثم الآن في أعماق بحيرة سد الحسكة الغربي. إن الأم الرمز التي انتشرت أشكالها الطينية والحجرية في القديم، كانت تجسيداً جسمانياً للخصب والإخصاب ولبقاء النوع واستمرار الجماعة المنتجة، صيداً وقنصاً وهجوماً ودفاعاً. كانت الأم الرمز هي قائدة الجماعة والمعوّل عليها في تنمية هذه الجماعة. وعملية الإنجاب معتمدة عليها. والرجل عابر سبيل. بقي دوره مجهولاً آلاف السنين في مسألة الإنجاب، فلم تكن الجماعة البشرية تعرف دور التزاوج في ذلك كله. ولما كانت المرأة في اعتقادهم العامل الفاعل الأوحد في هذا المجال، وهي معتبرة بهذه الصفة قبل كل شيء، فلا بد أن تكون القائدة. ولم تكن أية أنثى تصلح للقيادة. فلا بد أن تكون قوية تنجب التوائم وتشبع البطون الجائعة. وبهذه الصفة هي كملكة النحل يجب أن تُؤمن لها الجماعة خير الغذاء وأكثره. ولا بد أن تُقدم لها طقوس العبادة وأن تُمثل أمّاً قوية عظيمة الثديين والبطن والردفين. طفل عمره مائة ألف سنة في عفرين "نياندرتال" واد رافد لنهر الدوسل شرقي دسلدورف في المانيا، عُثر في أحد كهوفه في القرن التاسع عشر على بقايا نوع إنساني من العصر الحجري القديم الباليوليت الأوسط الذي امتد من مائة ألف الى خمسة وثلاثين سنة قبل الآن. وقد وجدت أمثال هذا النوع، الذي يتصف بكثرة العدد، في فرنسا وغيرها من المناطق الأوروبية، وكذلك في آسيا وافريقيا. وشكلُ هذا الإنسان قريب من شكل الإنسان الحالي المعروف بإسم الإنسان العاقل، ودماغه كبير قد يصل الى 1500غ، الأمر الذي يدل على تقدم مستوى ذكائه. وعلى رغم ذلك كان هذا النوع النياندرتالي من سكان الكهوف يُحسن استخدامها ولم يألف إنشاء الأكواخ إلا نادراً. ولكنه كان يُعنى بدفن موتاه بعد تجهيزهم وفق طقوس تقليدية، وكان يكتسي بثياب من جلود الحيوانات التي يصطادها، ويوقد النار في مواقع في الكهوف التي يعيش بها، ويقدم قرابين بشرية ويقوم بشعائر دينية طوطمية. وقد طور هذا الإنسان أدوات وحراباً صوانية تعرف بإسم الموسترية واللفلوازية الموسترية يركّبها على مقابض خشبية أو عظمية ويستخدمها في الصيد ومعالجة طرائده وجني ثمار الطبيعة ونباتاتها. وفي بلاد الشام والرافدين عثر على بقايا عظام هذا الإنسان في عدد من الكهوف، أشهرها كهف شانيدر في العراق، ومغارة الطابون وغيرها من مغائر وكهوف جبل الكرمل في فلسطين. ووجدت في سورية الأدوات الصوانية لجماعات من النموذج النياندرتالي في كهوف وادي سكفتا في يبرود وفي كهف الدوّارة وكهف جرف العجلة وغيرهما في المنطقة التدمرية. وفي عام 1993 عثرت البعثة السورية اليابانية في كهف الديديرية قرب عفرين على هيكل عظمي لطفل - أو طفلة - من النوع النايندرتالي عمره سنتان أو ثلاث سنوات. دفن هذا الطفل منذ نحو مائة ألف عام في قبر معد لهذه الغاية وضمن ترتيبات وطقوس ستوضحها الدراسات المقبلة. ان هذا الهيكل هو الأول من نوعه في سورية وقد وجد في طبقة سليمة مؤرخة. والمرجح أن هذا النوع الإنساني، الموصوف بإسم النياندرتالي، حقق إبداعات حضارية مادية وروحية وطور الأدوات والأسلحة من الصوان ومارس الفنون ومبتكرات أخرى ومن أهمها إنشاء المستقرّات، وكان انطلاقه من هذه المنطقة، أي الهلال الخصيب، وانتشر في أرجاء المعمورة. كتابة أم تعاويذ على الضفة اليسرى من الفرات الى الشمال الشرقي من حلب، موقع يعرف بإسم "جرف الأحمر" تبينت أهميته خلال أعمال إنقاذ موقع سد تشرين. وباشرت العمل فيه بعثة سورية فرنسية منذ 1983، وستغمره مياه السد الجديد هذا العام. إن هذا الجرف المشرف على الفرات، قد اختير في نهاية الألف العاشر وبدايات الألف التاسع قبل الميلاد لاستقرار جماعة لا تصنع الفخار ولا تفلح ولا تزرع، لكنها تبني البيوت من الحجر والطين مستديرة أو مستطيلة وتبدع أوانيَ مزخرفة من الحجر، وتعيش على صيد البر والنهر. وإننا لنعرف بعض هذه الأشياء في مواقع أخرى على الفرات كالمريبط وأبو هريرة وبقرص. إلا أن اللافت للنظر في موقع جرف الأحمر هو اكتشاف لويحات من حجر البازلت تحمل نقوشاً، ومنها لُويحة نُقِش عليها شكل نسر باسط جناحيه وشكل غزال وخطوط قد تمثل أفاعي أو مجاري مياه. وقد علقت البعثة المكتشفة، ومن ثم السلطة الأثرية الرسمية، على هذه الاكتشافات بالقول إن ذلك يثبت أنه كانت للنسر مكانة في سورية منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وعلى امتداد العصور الذي تليه، حيث نجد شكل النسر الباسط جناحيه في المعابد والبيوت وبالشكل نفسه تقريباً. وكان النسر ملك الأجواء الفسيحة وشريك الإنسان في اقتناص الطرائد. وتطورت عبادته الى أن أصبح يمثل السماء في عبادات الشرق القديم ثم انتقل الى الغرب. ولقد تلت لُويحة النسر لُويحات أخرى جديدة عليها نقوش مختلفة، جعلت الجانب الفرنسي من البعثة يعتقد بل يظن بالأحرى أن تكون لُويحة النسر و"أخواتها" نوعاً من الكتابة البدائية لعلها أقدم المعروف في العالم. وما زلنا نشك في هذا الطرح. فالكتابة، من حيث المبدأ، انطلقت من الحاجة الملحَّة لتبادل السلع وخزن المحصول ومبادلته والاتجار به. والمفترض أن تبدأ الكتابة في مجتمع منتج زراعياً ناشط في الأخذ والعطاء. ومن الممكن في هذه الحال أن تكون لهذه اللويحات المنقوشة مهمة دينية طلسمية لها دور في نشاط الصيد والالتقاط. الكتابة بالحصى يقودنا الحديث عن الكتابات القديمة، أو أشباه الكتابات، الى نظرية السيدة شمانت بيسيرا حول الكتابة بالأشكال الطينية ذات الأبعاد الثلاثة. ومن ثم تطورها الى أغلفة الطين التي تحمل طبعات الأختام. وأخيراً الى الكتابة التصويرية. وتلخص نظرية شمانت بيسيرا، حسب آخر مقال وصلنا منها يعود لعام 19903، بما يلي: تطورت المحاسبة في الشرق القديم على مراحل رئيسية ثلاث تقابل ثلاثة أشكال من الاقتصاد. قبل معرفة الزراعة كان الصيادون واللاقطون من العصر الحجري القديم الباليوليتي قلما يحتاجون للمحاسبة، ومنذ خمسة عشر ألف سنة الى عشرة آلاف قبل الميلاد كانت المحاسبة على شكل حزوز على قطع العظام. وإذا احتاج الناس للتعامل يلجأون الى المبادلة التي لا تحتاج للمحاسبة. وعند بدء الزراعة نحو الألف الثالث ق.م وتكديس المنتج وخزنه والاتجار به، اخترعت طريقة الأشكال الطينية التي كانت تستخدم في التجارة المنظمة وهذه هي المرحلة الثانية. وفي أواخر الألف الرابع قبل الميلاد وحصول التطورات التي رافقت نشأة المدن تضاعفت الحاجة للمحاسبة وتعقَّدت عمليات التجارة وظهرت الرُقُم التي تحمل الكتابت التصويرية والأرقام المجردة وهذه الرُقُم كانت نقطة الإنطلاق في المحاسبة الحديثة. الطب في خدمة الآثار بعد انتهاء زمن زعامتها للقبيلة وسيادتها على الرجال، أُجبرت المرأة على حمل عبء ينوء به الرجل، سواء في الحقل أو في البيت، عبء ثقيل يترك آثاره على جسدها وبخاصة على هيكلها العظمي. وعلم الآثار الحديث الذي توصل الى معرفة البيئة الطبيعية التي عاش فيها الإنسان القديم، عرف ما كان يأكل هذا الإنسان وما يشرب وكشف عن علله وأمراضه، وتوصل الى معرفة المهن التي كان يمارسها الإنسان القديم وأخطارها وتشوهاتها. وهناك دراسة حديثة تعود لعام 1994 نشرتها مجلة "ساينتيفيك أميركان" بعنوان "العظام الناطقة في أبي هريرة نشرتها السيدة ثياموليسون4 التي قامت بدراسة عشرات الهياكل العظمية، جلبها لمتحف التاريخ الطبيعي في لندن الدكتور أندرو مور، من أعمال التنقيب الإنقاذي التي قام بها في موقع "أبو هريرة"، على الضفة اليمنى من الفرات، بين مسكنه والرقة عام 1972 و1973 جاء في الدراسة أن سكان السويَّة الثانية من العصر الحجري الحديث في هذا الموقع زرعوا عدة أنواع من الحبوب. وأكثر هذه الأنواع كانت تحتاج للتحضير قبل الأكل، الأمر الذي يتطلب جهداً ووقتاً طويلاً ويسبب تشوهات في الجسم، تظهر آثارها على العمود الفقري وعلى المفاصل وعلى الأطراف والأصابع والأسنان. وبفحص هذه الهياكل العظيمة أو أجزائها وتشوهاتها كالتوهد والعضال وفرط الانثناء وحرف الظنبوب، عرفت هذه العالمة المهن والأعمال التي كان يقوم بها سكان هذه القرية النيوليتية من العصر الحجري الحديث، وبخاصة عمل النساء اللواتي تبين أنهن كنَّ يحملن أحمالاً ثقيلة على رؤوسهن ويهيئن جرش الحبوب بالدق في الأجران ثم يقمن بالطحن في رحيات أفقية بحركة القعود والسجود. كما كن يضعن السلال ويمسكن أطراف القصب بأسنانهن. وتقودنا دراسة العظام الى معارف أخرى عن الطعام والشراب والمرض لا مجال للتوسع فيها في مجالنا هذا. 1 في منتصف القرن التاسع عشر زعم أحد التورائيين أن الكون خُلق عام 4004 قبل الميلاد يوم 23 تشرين أول الساعة التاسعة قبل الظهر؟!... 2 ثمة دمى أوروبية تعود لحوالي 20 الى 25 ألف عام قبل الآن العصر الغرافيتي، ولكن الاختصاصيين يعتبرون انها تمثل فينوس ولا تمثل الأم - الربة. 3 D. SCHMANDI - BESSERAT, "Accounting in The Prehistoric Middle East", in Archeomaterials, Vol. 4. No. 1 Winter 1990. Theya MOLLESON, "The Eloquent Bones of Abu Hureyra" Scientific American, August 1994, p. 70-75. * مدير التنقيب والدراسات الأثرية في "المديرية العامة للآثار والمتاحف" بدمشق.